منذ شبابه المبكر، ومحمد صالح*، الذي تخطى الخمسين من عمره، يسلك روتينًا يوميًا يبدأ بزيارة حقله كل صباح لمتابعة ما يزرعه من البرسيم، الذي لم يملك أي خطط لتسميده سوى ما توفره له طبيعة منطقته وبيئة قريته الواقعة في دلتا النيل من مخصبات عضوية، لكن كل شيء تغير بعد أن أجبرت التغيرات المناخية الحاصلة في التربة ودرجات الحرارة، محمد على استخدام الأسمدة الكيماوية لإدامة زراعته.
صار الفلاح الخمسيني، الذي يسكن محافظة الغربية، مضطرًا لاستخدام الأسمدة الكيماوية للحفاظ على سلامة المحصول، وإن عانى من ارتفاع أسعار المبيدات الذي يهدد ربحه في النهاية، لكنه لا يستطيع أن يخاطر بفقدان المحصول كله إن لم يستخدم الكيماويات، التي أصبحت، حسب قوله "جزءًا أساسيًا في العملية الزراعية".
كذلك يؤثر ارتفاع درجات الحرارة الذي تعاني منه الدلتا في السنين الأخيرة على بعض معادن التربة غير القادرة على مواجهة أزمة التغير المناخي، فتتراكم المعادن الأخرى المقاومة للتغيرات المناخية، فلا يكون هناك توازن في نسب المغذيات في التربة، ويضطر الفلاح لاستخدام أسمدة لتعويض ما تفتقده الأرض.
رغم كل ذلك، لا يزال محمد صامدًا أمام التغيرات المناخية الحاصلة، وإن تأثرت منطقته وزراعته بها. وهو يدرك ما يجري فيما يحيط به من أراض زراعية أخرى، قلت إنتاجيتها جراء ما عانته من جفاف وتملح، لكن بيئة المزارع الذي تحول مضطرًا لاستخدام المواد الكيماوية في الزراعة لا تتعرض للجفاف والعطش فحسب، بل هي معرضة أيضًا للإغراق، وذلك بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر جراء ذوبان الأنهار الجليدية من جانب، وانخفاض أراضي دلتا النيل من جانب آخر.
التغير المناخي ببساطة
يحصل ذوبان الأنهار الجليدية، بسبب زيادة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، بحسب الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC). لكن، ما هو التغير المناخي؟
يشرح الدكتور كمال شلتوت، وهو أستاذ البيئة النباتية في كلية العلوم جامعة طنطا، أن الصوب الزجاجية المستخدمة في الزراعة، لقدرتها على إنتاج محصول بمعدل أعلى وتوفر المياه، تُراكم في المقابل غاز ثاني أكسيد الكربون داخلها، ما يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارتها، لأن غاز ثاني أكسيد الكربون يمتص الحرارة. لذلك، أُطلق على الارتفاع العالمي في درجة الحرارة اسم "تأثير الصوبة الزجاجية"، إذ صارت الأرض تشبه تلك الصوب، فالتلوث موجود والغازات الحرارية موجودة، ما يمنع انطلاق الحرارة العالية خارج الغلاف الجوي، وترتفع درجة الحرارة.
وبسبب التغيرات المناخية، تتأثر الزراعة في مصر بوتيرة أسرع من أي وقت مضى، يؤكد محمد صالح، الذي يقول للمنصة "الآن نحن محرمون من زراعة بعض المحاصيل، بسبب التغيرات المفاجئة في المناخ، التي تؤدي إلى هلاك الزرع ومن ثم خسارته".
في عام 2018 تعرض محصول القمح في مصر لأزمة كبيرة، بسبب حلول الصيف مبكرًا، وفي 2020، خسرت مصر ما يقرب من 95% من محصول الزيتون بسبب تساقطه قبل الموعد الطبيعي لحصاده. كما قضى التغير المناخي على عدد كبير من أشجار النخيل في منطقة رشيد.
ثمة دراسة أنجزها الدكتور حازم قاسم، أستاذ في قسم الإرشاد الزراعي والمجتمع البيئي بكلية الزراعة، في يناير/ كانون الثاني 2019، ونُشرت في مجلة الاستدامة Sustainability، تشير إلى أنّ هناك جزءًا كبيرًا من الأراضي الزراعية الخصبة في منطقة دلتا النيل تأثر بالفعل وما زالت تتأثر بالتغيرات المناخية، التي من مظاهرها انخفاض الإنتاجية الزراعية بنسبة تصل إلى 30 - 40%.
وهو ما حدث مع القمح الذي انخفض محصوله بنسبة تصل إلى 17.6%، وكذلك استهلاك المياه في ري المحاصيل الزراعية بكمية أكبر من الماضي، وتدهور الأراضي الزراعية وفقدان جزء كبير منها، حيث تقل المساحات الزراعية المتاحة لزراعة القمح بنسبة 0.07 % إذا ارتفع مستوى سطح البحر 0.5 متر، وتقل المساحة بنسبة 52.9 % إذا ارتفع المنسوب إلى 1.5 متر. لذلك، مصر من الدول الأكثر عرضة للخطر وتتأثر كثيرًا بارتفاع منسوب مستوى سطح البحر وإن كان قدره متر واحد فقط.
وفي دراسة أخرى منشورة في أبريل/نيسان 2018 بدورية Earth Systems and Environment، قادها الدكتور خالد عبد القادر"، فإن العديد من الأراضي الزراعية قد تصبح غير صالحة للزراعة في منطقة دلتا النيل، بسبب الغمر تحت المياه أو تقليل كمية مياه الري أو تسرب المياه المالحة إلى التربة، ما يؤثر على خصوبتها وقدرتها الإنتاجية. ومن المتوقع أنه بحلول عام 2050، ستنخفض الإنتاجية الزراعية بنسبة 11% في الأرز، و28% في فول الصويا، و19% للذرة، و20% للشعير.
نبذة موجزة عن شريان الحياة
تحتل دلتا النيل، التي تقع شمال مصر وتعادل 2.5% من مساحتها، مكانة خاصة لدى المصريين، لما تملكه أرضها من درجة خصوبة عالية مقارنة بباقي أراضي الدولة، جعلها أساسًا لقيام العديد من الحضارات على مدار العصور المختلفة.
في تقرير صادر في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 من مؤسسة الأغذية والزراعة (FAO)، فإنّ الدلتا هي أكثر مناطق مصر اكتظاظًا بالسكان، وتشتمل في نفس الوقت نفسه، على ما يزيد عن 50% من الأراضي الزراعية في الدولة، وهو ما يعتز به محمد صالح الذي شهد بعض أيام ازدهار الزراعة هناك قبل أن يزحف التصحر والعمران عليها، يقول للمنصة "شهدت الزراعة منذ نعومة أظافري، وكان أبي يخبرني دائمًا أننا محظوظون لوجودنا في منطقة الدلتا، حيث الأرض الخصبة".
ولكن لا تقتصر أهمية الدلتا على خصوبة أرضها فقط، وإنما تمثل المنبع الرئيسي للنفط والغاز الطبيعي في مصر، وفقًا لما يذكره وليد حمزة، أستاذ البيولوجي في جامعة العين بالإمارات العربية المتحدة، في كتابه The Nile Delta.
اللافت في الأمر أن الزراعة التي تلعب دورًا كبيرًا في انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون في الجو، وهو من غازات الاحتباس الحراري بالمناسبة، لكن التغيرات المناخية تتأثر أكبر بما ينطلق من أرض الدلتا من غازات معدنية.
أثر الفراشة
وفقًا لـWorldometer، بلغ تعداد مصر في منتصف مارس/آذار 2022 نحو 105.7 مليون نسمة، ما يجعلها تحتل المركز الأول في التعداد السكاني على مستوى الوطن العربي، ولتغطية الاحتياجات الغذائية لهذا الشعب الكبير، تضطر الدولة لاستيراد العديد من المواد الغذائية، لكن الأمر ليس بهذا الفداحة فقط.
هل سمعت من قبل عن أثر الفراشة؟ ذلك المصطلح الذي صاغه عالم الأرصاد الجوية إدوارد نورتون لورنتز عام 1963، ليُعبر عن مدى تأثير رفرفة جناح فراشة في مكان البعيد على حالة الطقس العاصفة في مكان آخر، هذا بالضبط ما قد يحدث في مصر، فالتغيرات المناخية الحاصلة في البلاد الي نستورد منها الغذاء والموارد الأخرى قد يتسبب في ارتفاع أسعار الاستيرادات المصرية، ومن جانب آخر يقلل الصادرات، هذا كله يؤثر على الأمن الغذائي في مصر، وفقًا للمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية (IFPRI). وهذا له دور في معاناة الفلاحين مثل محمد من ارتفاع الأسعار.
عند العودة بالتاريخ إلى الوراء قليلًا، نجد أنّ مصر تعرضت بالفعل لمشكلة في الأمن الغذائي عام 2008، وعُرف ذلك وقتها بـ "أزمة الغذاء العالمية"، لكن اتضح أنّ السكان كانوا تأثروا بالفعل بسبب هذه الأزمة كثيرًا، حتى إنهم قاموا بمظاهرات ضد النظام. ما يجعل مشكلة الأمن الغذائي أمرًا مهمًا يجب الانتباه لعواقبه.
وعند العودة إلى القرن الحادي عشر، تخبرنا صفحات التاريخ عن الشدة المستنصرة التي عانت فيها مصر من مجاعة أدت إلى نقص عدد سكان مصر بصورة غير معهودة وانتشر الفقر والجوع، وتطور الأمر إلى أنّ السكان كانوا يأكلون كل شيء وأي شيء حتى إن بعض الشائعات تشير إلى أنهم كانوا يأكلون اللحم البشري.
هجرة القرية
يعتز محمد كثيرًا بمهنة الفلاحة، ويرى أنّ الأرض مصدر الخيرات وبجوارها يشعر بالأمان، لكنه لاحظ أنّ عددًا كبيرًا من جيرانه تركوا القرية وزحفوا نحو المدن، وهذا أمر طبيعي في مثل تلك الضغوطات البيئية، حيث يتسبب نقص المحاصيل الزراعية في زيادة معدلات البطالة والهجرة إلى المدن الكبرى مثل الإسكندرية والقاهرة، ما يزيد العبء السكاني على تلك المناطق. وبما أنّ معظم أهل مصر يعتمدون على منطقة الدلتا في الزراعة، وهي المنطقة الأكثر عرضة للغرق بسبب التغيرات المناخية، فهذا يعني أنّ خطر غمرها تحت المياه سيُشكل ضغطًا كبيرًا على حياة المواطنين المصريين.
ويُعد ارتفاع مستوى سطح البحر هو العامل المحدد لغرق الدلتا، بسبب التغيرات المناخية الناتجة عن ارتفاع درجة الحرارة وزيادة انبعاثات الغازات الدفيئة.
كذلك تتأثر أنماط هطول الأمطار، فتقل كمية المياه المتوفرة، وبالتالي تزداد الحاجة للمياه في الاستخدامات الشخصية أو لري المحاصيل الزراعية أو في مجالات الحياة عمومًا. ويمتد التأثير إلى التنوع الحيوي في منطقة الدلتا. كل هذا يؤثر بشكل ما على النظم البيئية، وتأتي النتائج السلبية على صحة الإنسان والنظم والاقتصاد المصري.
بالوعة كربون مهمة
منطقة الدلتا في مصر أو الأهوار في العراق من المناطق الرطبة القليلة على مستوى العالم، التي تُمثل طوق النجاة من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، فهذه المناطق بمثابة بالوعات للكربون، فقد اتضح أنّ المناطق الرطبة تشكل 9 % من سطح الأرض، وتستطيع تخزين ما يقرب من 35 % من الكربون الأرضي.
ويضيف الدكتور كمال شلتوت، الأستاذ بكلية العلوم في جامعة طنطا، للمنصة، أنّ "الكربون يُختزن في بذور النبات والتربة، ولا يتحول إلى ثاني أكسيد الكربون، وبالتالي لا ترتفع درجة الحرارة.، مشيراً إلى أنه "لدينا في شمال الدلتا 5 بحيرات، وهم: البردويل والمنزلة والبرلس وإدكو ومريوط، تلعب هذه البحيرات دورًا كبيرًا جدًا في تخزين الكربون. ويمكن أن تكون هذه البحيرات سببًا في إنقاذ الدلتا مستقبلًا، لأنّ هناك فتحات تربط البحر المتوسط بها، وتستطيع المياه دخول هذه البحيرات".
لذلك، عند الحفاظ على الأراضي الرطبة، يمكننا تقليل كمية انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وإذا لم نستطع الحفاظ عليها، فسوف تنبعث كميات كبيرة من الكربون في الغلاف الجوي، ما يزيد الطين بلة، وتزداد خطورة التغير المناخي.
كيف نواجه؟
يمكن مواجهة هذه المشكلة من خلال عدة حلول، تنقسم بين ثلاث جهات: العلم والحكومة والفلاح.
حيث يجب توجيه العلماء والمتخصصين إلى إجراء دراسات ومشاريع علمية، تُمكنهم من الوصول إلى حلول فعّالة لجعل النباتات أكثر قدرة على التكيف مع التغيرات المناخية والاهتمام بدراسة التنوع البيولوجي وعلوم التربة والكيمياء وغيرهم.
كما يجب على الحكومة ضخ أموال كبيرة لتدعيم البحوث الزراعية لمقاومة الجفاف والأمراض وتعزيز تقنيات الآلات الزراعية، وتطوير سُبل للتعامل مع الفيضانات. ووضع خطط فعالة للإصلاح الزراعي ومساعدة الفلاحين على فهم البيانات المناخية للتعامل معها جيدًا. ومساعدة الأسر الزراعية الفقيرة.
وكذلك وضع خطط زراعية والتبديل بين المحاصيل في كل موسم، حتى لا تُجهد الأرض من المزروعات التي تستنفذ قدرًا كبيرًا من المياه. واستخدام أسطح البيوت لزراعة بعض المحاصيل بدلًا من إجهاد الأراضي الزراعية. ومتابعة برامج التوعية الزراعية جيدًا وتطبيق نصائح وإرشادات الخبراء.
إضافة إلى ذلك كله، هناك بعض الحلول الأخرى، منها فتح قنوات صرف لمياه البحر، حيث إن ارتفاع مستوى سطح البحر الأبيض المتوسط يعد عاملًا مؤثرًا في غرق دلتا النيل. لذلك، وجدت الحكومة المصرية مشروعًا يساعدها في تصريف مياه البحر الزائدة، بحيث لا تؤثر على الدلتا، وفي هذا الصدد، يقول دكتور شلتوت"يؤدي ارتفاع مستوى سطح البحر إلى غرق الأسطح الملاصقة للبحر، مثل شاطئ شمال الدلتا، ومن المشاريع المطروحة فتح قنوات تمتد حتى منخفض القطارة، وبالتالي انخفاض جزء في مستوى سطح البحر، ونستخدم هذه المياه الهابطة من مناطق عالية إلى أخرى منخفضة في إنتاج الطاقة".
تفرض الطبيعة الرطبة للدلتا، أساليب زراعة محددة، للمساهمة في الحفاظ على المياه، مثل الزراعة الحيوية، وهي أفضل طرائق الزراعة، ولديها انبعاثات أقل من غازات الاحتباس الحراري عن الزراعة التقليدية. إذا استطعنا تحويل 100 % من الأراضي الزراعية إلى الزراعة العضوية، يمكننا تحويل الزراعة من مساهم في التغيرات المناخية إلى حلٍ مثالي وفعّال يكافحه.
يبدي محمد صالح رغبة كبيرة في اتباع أساليب الزراعة الحيوية، لأن ما يخشاه من مخاوف تهدد أرضه أكبر بكثير من خشيته على اتباع أسلوب جديد لم يألفه، خصوصًا في ظل تنامي أزمة التغير المناخي التي يؤكد دكتور شلتوت أن عدم الاهتمام بمعالجتها "سيؤدي إلى تراكم انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وتزداد الحرارة، وسيمتد تأثيرها إلى المحاصيل الزراعية"، وهو ما لا يطقه صالح الذي اختبر سابقًا فشل أرضه في الاستمرار في زراعة القطن، فصالح لا يزرع محصولا ما ليتاجر ويربح، وإنما وفق قوله هو يزرع قوته وقوت عياله، آملًا أن تعود أرضه لسابق عهدها، من دون أن يُضطر لاستخدام الأسمدة الكيماوية من جديد.
* اسم مستعار بناءً على طلب المصدر