في خضم المعركة الاقتصادية التي يخوضها المواطن المصري اليوم، تبقى مشكلة أسعار الغذاء على رأس أولويات كل أسرة. فرغم توفر الغذاء بشكل معقول، تستمر الأزمة في التفشي بسبب ضعف القوة الشرائية للغالبية العظمى من المواطنين. ويبدو أن الأزمة ستستمر، بل وستزداد قتامة في الفترة المقبلة.
يلقي هذا المقال الضوء على ملف التعاونيات الزراعية، ويقدم تساؤلًا عن إمكانية تقديم التعاونيات وأسواق التجارة البديلة كحل للمشكلة، وذلك من خلال طرح عدة تجارب ناجحة حول العالم، والتي على الرغم من خصوصيتها، يمكن أن نستقي منها عدة دروس مفيدة للتجربة المصرية، مع تأمل وضع تجربة التعاونيات في مصر وأسباب ضعفها وعدم قدرتها بأطر إدارتها ونظمها القانونية الحالية على تقديم البديل.
لماذا التعاونيات؟
تكمن أهمية التعاونيات الزراعية والأسواق المحلية في طرحها لبدائل غير محدودة بمعايير الأسواق العالمية، وفي اختلاف الفاعل الأساسي بها، إذ تُقدِّم الفلاح والمنتج الصغير على رأس المنظومة، سواء في تحديد الهدف والهوية، أو الإطار التنظيمي والإداري، أو نطاق العمل ومجاله. وكذلك من خلال خصوصية المنتج المقدم من حيث جودته وسعره، وتبسيط العملية التجارية والربط بين المنتج والمستهلك بشكل مباشر.
تستطيع التعاونيات خلق سوق مختلفة عن الأسواق الكبيرة، وكسر الاعتمادية على الماركات الغذائية ذات الإنتاجية الكثيفة والشركات المسيطرة المتمكنة من أدوات سلسلة القيمة بأكملها. والأهم من ذلك طرح إمكانية التغيير المجتمعي بشكل فعال، لا يعتمد على حلول سيادية وقرارات حكومية فقط، بل يساهم في تغيير المجتمع بشكل أعمق ويبرز أهمية الدور المجتمعي في حل الأزمات التي تواجهه بشكل تشاركي.
أمثلة ناجحة للتعاونيات حول العالم
سنتعرض إلى مدى ملاءمة هذا الطرح عبر ثلاثة أمثلة، نقلًا عن مقال عالم الاجتماع الهولندي فاندر بلوج "قراءة الأسواق سياسيًا: حول التحول وأهميته في أسواق الفلاحين"، وهي؛ التعاونيات الدائرية O Circuito في البرازيل، وتعاونية قرية سانجانج Sanggang في الصين، وأسواق الفلاحين لاندوينكيلس Landwinkels في هولندا.
تشترك الأمثلة الثلاثة في أن جمعيات تعاونية تحكمها جميعًا، وإن اختلف الهدف وراء إنشائها
تقدم هذه الأمثلة طرقًا مختلفة لتجاوز عقبات النطاق المحلي، وتطرح حلولًا عملية لمشكلات مجتمعية كبيرة، مثلما استطاعت خلال ذروة أزمة كورونا العالمية أن تقدم بديلًا صحيًا ومحليًا في وقت شلل هيمنة السوق العالمية وضعف سلاسل الإمداد آنذاك.
تشترك الأمثلة الثلاثة في أن جمعيات تعاونية تحكمها جميعًا، وإن اختلف الهدف العام من ورائها؛ حيث يقدم المثال البرازيلي المعايير البيئية والصحية على الأهداف الأخرى، فيما يعتبر التخفيف من حدة الفقر أمرًا أساسيًا في الحالة الصينية، أما الحالة الهولندية فترتكز على الأسعار المجزية للمنتجين وتحسين الخدمة المتاحة عن طريق تقديم المنتجات المحلية الطازجة للمستهلكين بشكل مباشر.
البرازيل.. تشبيك سلاسل الإنتاج
تعتمد التجربة البرازيلية على تعزيز الترابط النشط بين أسواق الفلاحين المحلية التي تفصلها مسافات جغرافية كبيرة. وتقدم التعاونيات البرازيلية منتجات زراعية عضوية بأسعار تساوي أو تقل عن تلك الموجودة في المتاجر الكبرى. وهذا يعني أن المستهلك سيحصل على تلك المنتجات المتميزة بنفس الأسعار التي يدفعها مقابل المنتجات التقليدية (غير العضوية).
يُنظَّم التداول والتوزيع بشكل يضمن الربح وتحسين دخل المشاركين. ولتحقيق ذلك، فصلت التعاونية البرازيلية بشكل متعمد التداول عن التجارة، وذلك عن طريق التخلص من دور الوسيط وتشبيك سلاسل الإنتاج والإمداد والأسواق، وجعلت المنتجات تتوفر بشكل حلقي أو دائري يقرب المسافة بين المنتج والمستهلك عن طريق تقليص الخطوات التجارية واللوجستية.
الصين.. سوق صغيرة للمنتجات
تركز التجربة الصينية على خلق فرص حقيقية لصغار المزارعين والمهمشين بعيدًا عن هيمنة الشركات العملاقة، وذلك عن طريق خلق سوق لبيع المنتجات الريفية المحلية من خلال تطبيق صيني شبيه لواتساب، وموقع على الإنترنت يربط إحدى ضواحي بكين بقرية نائية.
يعرض الفلاحون منتجاتهم الصغيرة على الإنترنت شهريًا، ويوصلونها سواء بشكل شخصي أو عن طريق شركة شحن لنقاط استلام مركزية، ليستلمها المستهلك في المدينة.
وهكذا يحصل المستهلكون على أغذية طازجة متميزة بأسعار مقاربة لأسعار المتاجر الكبرى، ويحصل المنتجون على سعر أعلى من السعر الذي يدفعه لهم التجار.
تُقدِّم هذه السوق الصغيرة الأرضية التي تُيسِّر على صغار المزارعين بيع منتجاتهم محدودة الكم صعبة التسويق لدى المتاجر الكبيرة، التي تُفضِّل الكميات الضخمة. وهكذا يمكن للمنتجين الفقراء وكبار السن أن يجدوا منفذًا لمنتجاتهم، ما يولد نشاطًا اقتصاديًا حقيقيًا ويساعد على الحد من الفقر بشكل مستقل عن الحكومة ورأس المال.
هولندا.. سوق ترتبط بالجذور
أما الحالة الهولندية، فتتعلق في الأساس بالمحلات الزراعية المحلية التبادلية، التي تشكل في مجموعها شبكة من أسواق الفلاحين المترابطة، تُعلي من قيمة المنتج المحلي والصناعات الصغيرة.
بدأت التعاونية بتشبيك أعمال 89 متجرًا زراعيًا في شرق البلاد يتبادلون المنتجات ويبيعون منتجاتهم ومنتجات الشركاء الآخرين المنتمين إلى الشبكة، ثم توسعت الفكرة لتغطي هولندا بأكملها.
تشكل هذه المتاجر الزراعية سوقًا فلاحيًا شديد الخصوصية، من حيث تميزها وطريقة عملها وارتباطها بالجذور، ومن أهم ما يميز هذه التعاونية هو غياب البيروقراطية والبعد عن القروض الائتمانية، فالتعاونية تُموَّل ذاتيًا بشكل كامل، بالإضافة الى قصر خطوط الإمداد، وبالتالي الاستفادة من فكرة الوجود المحلي دون تعقيدات لوجيستية مكلفة.
مصر.. الحكومة تهيمن على الفلاح
إذا ما التفتنا الى الوضع المصري نجد أن التعاونيات في مصر غير قادرة على الصمود كعنصر فاعل في معادلة تأمين الغذاء أو حل مشاكل السوق المحلية لعدة أسباب، أولها تقليص دور التعاونيات بشكل حاد وتجريفها من جميع الأصول التي كانت تملكها، وآلت إلى بنك التنمية والائتمان الزراعي مع إصدار قانون بنك التنمية والائتمان الزراعي.
تقدم الدولة حلولًا عبر تغيير الإطار العام لسلسلة الغذاء، دون إتاحة الفرصة للمبادرات المجتمعية الصغيرة
تغرق التعاونيات في مصر تحت طبقات لا نهائية من البيروقراطية والسيطرة الحكومة التامة عليها، تجعلها في النهاية غير حرة ولا مستقلة، وبالتالي لا تمثل قوة حقيقية على الأرض وغير فعالة ولا يثق بها الفلاح. والأهم من ذلك هو صياغة القانون (قانون 122 لسنة 1980 وتعديلاته حتى آخر تعديلاته سنة 2014) الذي لا يلعب فيه الفلاح دورًا محوريًا.
يشير الدكتور صقر النور في مقاله الهام عن سياسات مصر الزراعية والغذائية بين 2014 و2021، إلى أهمية النظر إلى جوهر السياسات العامة التي تحكم ملفي الزراعة والغذاء في مصر، فهي تمثل توجه الحكومة واختياراتها السياسية، ليس فقط عن طريق التركيز على ما تفعله السلطة الحاكمة، ولكن أيضًا بالنظر فيما تمتنع عن القيام به.
تُعبِّر القوانين والقرارات الوزارية وتوجهات مجلس النواب وغيرها عن انحيازات الدولة السياسية في السياسات الزراعية والغذائية، التي تسعى بشكل حثيث إلى خفض الإنفاق العام والاجتماعي على وجه الخصوص، ودعم الاستثمارات الكبرى، وتسهيل حصول كبار المستثمرين والأجانب على الأراضي والمياه، بشكل لا يأخذ في الاعتبار مصالح صغار المزارعين وأصحاب المهن الزراعية والغذائية الصغار، بل وتقف ضدهم في أغلب الأحيان.
تكمن المشكلة في أن الدولة دائمًا ما تقدم الحلول عن طريق العمل على تغيير الإطار العام لسلسلة الغذاء في مصر أو المشاريع القومية العملاقة، دون النظر إلى إمكانية الحل عن طريق إتاحة الفرصة وتهيئة المناخ للمبادرات المجتمعية الصغيرة المتعددة، والتي تُمكِّن المواطن والمجتمع المدني من الاشتراك في صناعة الحل.
وبالنظر إلى رؤية مصر 2030 كمثال لتوجه الحكومة، يشرح النور أن النص لا يتطرق بأي شكل لدور الفلاح في التنمية الزراعية، التي ذكرت كمحور أساسي للتنمية المستدامة وفُصِّلت بشكل كبير. تغفل الرؤية ذكر كلمة الفلاح على طولها وبالتالي لا تلتفت إلى دوره أو حقوقه أو مشاكله أو حتى وجوده.
قبل الانفجار
في ظل المناخ السياسي والاقتصادي القاتم يظل ملف الغذاء في مصر قنبلة موقوتة يجب الالتفات لها بشكل جدي. لا يمكن تحقيق أمن قومي دون ضمان الأمن الغذائي، فهما وجهان لعملة واحدة. إن تبعات انعدام الأمن الغذائي في مصر خطيرة ومقلقة للجميع، فمعها تزيد معدلات الجريمة والمرض والغضب.
إن قيام المجتمع بدوره في التنمية وحل المشكلات المجتمعية أمر بالغ الأهمية لا مناص منه، وليحدث ذلك، تجب إزالة المعوقات التي تمنع المجتمع من القيام بدوره في التغيير.
في المقال المقبل نناقش بشكل أكثر تفصيلًا قانون التعاونيات الزراعية وتطوره منذ نشأته وحتى آخر تعديل له في 2014.