"بكام كيلو اللحمة النهاردا؟" قد يبدو للوهلة الأولى أن للسؤال الذي يردده الناس إجابة سهلة، لكن التذبذبات العنيفة التي شهدها سعر صرف الدولار منذ منتصف العام الماضي وحتى مارس/آذار ساهمت في خلق فوضى في التسعير لا تزال مستمرة حتى الآن.
ففي حي المطرية الذي يقع شرق القاهرة، بل وفي نفس الشارع، سألنا ثلاث جِزارات تفصلهما مساحة لا تزيد عن 600 متر، عن سعر كيلو اللحم من نوع الكندوز. ورغم أنه نفس الشارع ونوع اللحم؛ سمعنا ثلاثة أسعار مختلفة تراوحت ما بين 360 إلى 400 جنيه.
ومن المطرية إلى حي مصر الجديدة، أيضًا شرق القاهرة، يرتفع سعر كيلو الكندوز إلى 450 جنيهًا في بعض الجزارات التي زرناها، ثم يقفز لمستويات أعلى في جزارات حي المقطم حيث يصل إلى 470 جنيهًا، بينما جزارات أخرى في حي المقطم ذاته تبيعه بـ 440 جنيهًا.
إذا بحثت عن السبب من خلال مشاهدتك للتليفزيون ومتابعة الإعلام والخطاب الحكومي فستجد أن "الجشع" هو التفسير الشائع لهذا التفاوت. إلا أن حسن عبد الستار، وخمسة من زملائه في "كار" الجزارة ينفون هذا الاتهام، ملقين بالكرة في "عب الحكومة".
يستنكر عبد الستار، الذي يقع محله بحي المطرية، الرواية الحكومية قائلًا "مش منطقى يبقى كلنا، مرة واحدة كده، معندناش ضمير". أما محمد عيد، الجزار بنفس الحي، فيشير بصراحة أكثر إلى الحكومة "اللي عايزه تشيِّل غيرها المسؤولية طول الوقت".
وفي جولة لـ المنصة في أحياء شرق العاصمة، شملت ستة جزارين، اتفقوا جميعًا على أن فوضى التسعير الحالية ليست سوى انعكاس للتغيرات السريعة التي شهدتها تكاليف الإنتاج عندما كانت أزمة الدولار قائمة، ورأوا أنهم يتعرضون لحملات إعلامية تحملهم المسؤولية كاملة، بينما لا يتحدث أحد عن مسؤولية الحكومة في رفع أسعار تكاليف تجارة اللحم.
إحنا غطا الحلة فقط
يرى سعيد زغلول، رئيس شعبة الجزارين بمحافظة الجيزة، أن الجزار هو الحلقة الأخيرة في سلسلة طويلة لكنه ليس الوحيد، يقول لـ المنصة "إحنا غطا الحلة.. الناس شايفانا إحنا بس لأننا احنا اللي بنتعامل معاهم. عشان كده بيتهمونا بالجشع والسرقة، بس الحقيقة إحنا ضحايا زيهم بالظبط"، وهو ما يتفق معه محمد جمال، الجزار في منطقة المقطم "لو على الكلام اللي بنسمعه عنّا في الإعلام أنا هشتغل سنة واحدة بس وأقعد أصرف في مكسبها 5 سنين.. الناس بتقول إننا بنكسب في الكيلو 3 أضعاف ودا مش حقيقي" على حد قوله.
منذ مارس 2023 اتسعت المعاملات في سوق الصرف الموازية، بعدما تأخر صندوق النقد الدولي في نشر مراجعاته لاتفاق قرض مع مصر، ما رسخ قناعة لدى الرأي العام بأننا أمام أزمة كبيرة، وشجع على المضاربة على العملة الأمريكية ليرتفع سعرها في "السوق السوداء" من 30 جنيهًا إلى مستوى الـ 70 جنيهًا.
واستطاع البنك المركزي الحد من التعاملات الموازية في الدولار في مارس الماضي، أي بعد عام كامل من المضاربات، مع سماحه بارتفاع سعر الدولار الرسمي لقرب الـ 50 جنيهًا. لكن الحكومة تفاجأت من تباطؤ القطاع التجاري تجاه العودة لأسعار ما قبل الأزمة، ما اضطرها للدخول في مفاوضات مع التجار للحد من الأسعار.
يقول الجزارون إن العودة للأسعار القديمة باتت مستحيلة، بسبب ارتفاع أسعار التكاليف المؤثرة على تجارة اللحم خلال الأزمة، وبنسب متفاوتة، بما يساهم في استمرار فوضى التسعير.
كم يربح التجار؟
يقول حسن عبد الستار إن هامش الربح الذي يحققه يدور في الحدود المعتادة لباقي المشروعات التجارية، ويتراوح ما بين 5 إلى 6%، رغم ارتفاع السعر النهائي للحم، وذلك بسبب تذبذبات الطلب والخسائر التي قد يتعرض لها في الذبيحة الواحدة في حالة مرضها قبل الذبح.
ويلفت سعيد زغلول إلى أن البعض يقدّر أرباح الجزار بطرح سعر اللحم المباع للمستهلك من سعر الذبيحة في السوق، وتغفل هذه الطريقة ما يتم إهداره من شغت ودهن وعظم، والذي يتراوح بين 40-50% من وزن الذبيحة "لو كيلو اللحمة في المجزر سعره 180 جنيهًا، ووزن الذبيحة 500 كيلو يعني تساوي 90 ألف جنيه. لما أبيع الكيلو بـ 400 جنيه، هل دا معناه إني كسبت في كل عجل 110 ألف جنيه؟ طب يا ريت والله".
يؤكد الجزارون أن أرباحهم ليست هي المسؤولة عن فوضى الأسعار، وأن تفاوت السعر من محل لآخر يرجع للاختلافات الكبيرة في تكاليف الإنتاج الناتجة عن أزمة الدولار، ويعبِّر عن ذلك أحمد صالح، الجزار في حي مصر الجديدة بقوله "كل قطعة لحم لها سعرها".
ويتفق معه حسن، مشيرًا إلى التفاوتات الحالية في أجور العمال ومطالباتهم بالتعويض عن ارتفاع ارتفاع الأسعار "أجر العامل الواحد يتراوح حاليًا بين 300 إلى 400 جنيه في اليوم، لو عندي 2 عمال بس يبقى أنا محتاج حوالي 3600 جنيه أسبوعيًا، بكلمك عن بند واحد بس، العمالة"، ويضيف "كل الأسعار الأخرى ارتفعت، منها إيجار المحل تضاعف خلال السنتين اللي فاتوا، بقيت بادفع 6000 جنيه في الشهر، غير فواتير المياه والكهرباء".
لا تبدو أجور عامل الجزارة التي ذكرها حسن عبد الستار مبالغًا فيها، إذ لجأ الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه في فبراير/شباط الماضي، للإعلان عن قفزة في الحد الأدنى للأجور الحكومية بنسبة 50% في مواجهة المستويات غير المسبوقة من التضخم، وفي أبريل/نيسان جرى اتخاذ إجراء مماثل تجاه أجور القطاع الخاص. ورغم رفع الأجور، يقول مركز حلول للسياسات البديلة إن القيمة الحقيقية للأجور تنخفض بسبب ضَعف الجنيه.
ويشير رجب عامر، الجزار في حي المقطم، إلى تأثير ارتفاع أسعار الأعلاف، خاصة مع بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، على ارتفاع سعر اللحوم الحية قبل الميتة، "النهاردة العجل الحي ممكن يوصل سعره لـ 100 و150 ألف جنيه، من خمس سنين بس كنا بنتكلم في 30 ألف جنيه".
تُصنع الأعلاف من الذرة وفول الصويا، اللذين تعتمد مصر على استيرادهما بكثافة، وبالطبع تأثرت أسعار الأعلاف بارتفاع استيراد مدخلات إنتاجها، بينما انخفضت بوتيرة متباطئة مع هدوء تذبذات سعر الصرف.
"الجميع لف في دايرة واحدة، المُربّي مبقاش قادر يرَبّي، والتاجر بيستورد بدولار شاريه من السوق السوداء وعايز يعوض فلوسه، وهكذا"، حسب رجب.
أما عبد الله الجمال، الجزار بحي الزيتون، فيحمّل الحكومة بشكل مباشر مسؤولية زيادة الأسعار، مشيرًا إلى الزيادات الأخيرة في تكاليف الطاقة والمياه "لو أنا كجزار رجل جشع وحرامي كمان، طب الحكومة رفعت أسعار الوقود والكهرباء والمياه كام مرة؟".
تضاعف سعر كيلو اللحم خمس مرات خلال العشر سنوات الماضية، حيث كان سعر الكيلو في 2014 نحو 80 جنيهًا، ووصل الآن إلى حوالي 400 جنيه. وفي المقابل ارتفع سعر السولار من 1.10 في 2014، إلى 10 جنيهات الآن، ما يعني تضاعف سعره تسع مرات.
ورفعت الدولة أسعار البنزين والسولار في مارس الماضي، بعدما زادت تكاليف استيراد المحروقات بسبب قوة الدولار أمام الجنيه، وأجلّت الحكومة هذه الخطوة خلال العام الماضي، قبل أن تستجيب لها تحت ضغوط صندوق النقد الدولي.
وبجانب كل العوامل السابقة هناك هامش ربح الجزار، فيرفع السعر لكي يحافظ على أرباح كافية تحفظ له مستوى دخله المعتاد "الناس فاكرين الجزار بياكل لحمة كل يوم، ما أنا بشتري زيك طماطم وبصل وخضار، مفيش حاجة سعرها بينزل، كل الأسعار زادت" كما يضيف الجمال.
هل للدولة دور في ضبط الأسعار؟
مع تسارع وتيرة التضخم، ترددت مطالبات بالعودة إلى التسعيرة الجبرية، التي كانت نظامًا معمولًا به خلال حقبة الحرب العالمية الثانية. لكن وزير التموين رفض الفكرة، معتبرًا إياها عودة إلى الماضي.
لا يعارض الجزارون فرض تسعيرة جبرية عليهم "لكن مش علينا إحنا بس، خلي فيه تسعيرة على التاجر اللي باشتري منه، وتسعيرة جبرية لملاك المحلّات اللي كل شوية يرفعوا علينا الإيجارات" كما يقول رجب.
وأمام عدم قدرة الحكومة على العودة إلى سياسات التسعير، تحاول الدولة تعويض ذلك عن طريق طرح اللحوم بأسعار مخفضة في منافذ تابعة لها، لكن جودة هذه اللحوم عادة ما تكون منخفضة.
وفي أحد منافذ بيع اللحوم التابعة لوزارة الزراعة في حي المعادي، قال بائع إن سعر الكيلو الكندوز يتراوح بين 270 و280 جنيهًا "حسب نسبة الدهن"، وأضاف لـ المنصة "الوزارة عندها مزارع تابعة لها، بس ناس كتير شايفين إنها لحمة مش كويسة، رغم أن فيه جزارين بيشتروا اللحمة دي نفسها وبيبعوها بضعف الأسعار".
وبنظرة أكثر شمولًا، يرى سعيد زغلول رئيس شعبة الجزارين في الجيزة، إن دور الدولة في السيطرة على الأسعار يجب أن ينطلق بداية من تحسين إدارة الثروة الحيوانية، "الحل في تبنّي مشروع قومي لتربية المواشي بدلًا من الاعتماد على الاستيراد، النهاردا أنت كحكومة بتدي الأرض للمستثمر الأجنبي بتسهيلات، ولما ييجي مصري يشتري منك تعقّدها عليه. أنا ابن البلد، إديني أرض وساعدني أعمل مزرعة وأربّي وأنزل السوق. وبعد كدة إبقى تعالى إسأل على الأسعار".