لم يكن إبراهيم حماد، وهو صاحب مزرعة دواجن في قرية برما في طنطا، والتي تعد واحدة من أكثر القرى انتاجًا للدواجن في مصر، يدري أن حاله قد يتبدل بين يوم وليلة، أو أن الصاروخ الذي ضربته روسيا على أوكرانيا في 24 شباط/ فبراير الماضي، معلنة به بداية حرب لا يعلم أحد متى ستنتهي، سيؤثر أيضًا على دواجنه، ويضع تجارته أمام تحديات كثيرة.
في القاهرة، حاولت الحكومة تخفيف تداعيات الحرب على دجاج حماد وغيره، وطمأنة المواطنين على توفر السلع، حيث عقد وزير الزراعة السيد القصير في مطلع مارس/ آذار الماضي، مؤتمرًا صحفيًا لطمأنة الجمهور بشأن توافر السلع الغذائية قبل بداية شهر رمضان، مبشرًا ملايين المواطنين "الدولة بذلت جهدًا كبيرًا في ملف الاكتفاء الذاتي من الدواجن والبيض والألبان".
لكن بعد ثلاثة أسابيع فقط من المؤتمر، فقد الجنيه نحو 15% من قيمته أمام الدولار، ثم بدأت وسائل الإعلام تتحدث عن ارتفاع سعر الدجاجة متوسطة الحجم إلى 100 جنيه، بسبب التعويم والحرب البعيدة.
فما هو الرابط بين دجاجة تأكل في سلام في مزرعة حماد في طنطا، وما يجري في أسواق العملات، أو علاقات السلم والحرب على مستوى العالم؟
حقيقة الاكتفاء الذاتي من الدواجن
لم يكن حديث وزير الزراعة عن الاكتفاء الذاتي من الدواجن هذا العام أمرًا جديدًا، ففي العام الماضي قالت الوزارة إننا ننتج 1.4 مليار دجاجة سنويًا، ما يحقق لنا اكتفاءً من احتياجاتنا بنسبة 95%. ورغم التأكيدات المتكررة على محلية الدواجن التي نأكلها، لكن أسعارها ليست محلية الطابع بل ترتبط بالتطورات العالمية، وهو ما يفسره رشاد قرني، عضو شعبة الدواجن باتحاد الصناعات، بقوله للمنصة إن "أحوال تربية الدواجن في مصر تشبه عملية تجميع السيارات".
ثم أوضح القرني ما يعنيه بهذا التشبيه من أن الدجاج محلي النشأة لكن مدخلات الإنتاج المطلوبة لتربيته مستوردة في الغالب "يتم استيراد الجدات والأمهات التي نحصل منها على الكتاكيت، ونستورد خامات الأعلاف، وكذلك الأدوية والأمصال والمحصنات من الخارج". ويعلق "لذا في مصر لا يوجد عندنا صناعة دواجن، لأننا نعتمد على الخارج في كل مراحل الصناعة".
وبشكل أكثر تفصيلًا يشرح عبد العزيز السيد رئيس شعبة الدواجن بغرفة القاهرة التجارية، في حديث مع المنصة أن جزءً كبيرًا من مدخلات تربية الدواجن يأتي من الحبوب المستوردة التي يتم الاعتماد عليها في صناعة الأعلاف، وعلى وجه التحديد الذرة الصفراء وفول الصويا.
مليون فدان ذرة لا يكفي
تزرع مصر الذرة الصفراء، ويصل إجمالي المساحة المزروعة منها لنحو مليون فدان، فتنتج نحو 23% من الاحتياج الفعلي للذرة ويغطي ذلك نحو 20% من الطلب على العلف، لذا نضطر لاستيراد نحو 12 مليون طن ذرة صفراء، بالإضافة إلى 4.2 مليون طن بذور فول صويا، وحتى بالنسبة للذرة المنتجة محليًا فهي تتأثر بالأسعار العالمية لاعتمادها على بذور وتقاوي مستوردة، بحسب رئيس شعبة الدواجن. وقدرت واردت الذرة الصفراء بنحو 9.4 مليون طن بقيمة مليار دولار في العام المالي 2018/2019.
يضيف رئيس شعبة الدواجن "من الضروري أن تعمل وزارة الزراعة على زيادة المساحات المزروعة من الذرة الصفراء، وأن تعاملها معاملة الزراعات التعاقدية، بمعنى أن يُعلن سعر الطن قبل زراعته، حتى تحفز المزارعين على إنتاجها، كما نحتاج لإجراء أبحاث ودراسات لتحسين نوعية البذرة المحلية، وبالتالي نستغني بعد فترة عن استيراد البذور من الخارج".
وتوجد محاولات سابقة لتشجيع المنتج المحلي والاعتماد عليه، غير أنها توقفت في المنتصف، ففي العام 2015 تقدمت وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي بمقترح وافق عليه رئيس مجلس الوزراء آنذاك، بفرض رسوم 500 جنيه لكل طن من واردات الذرة الصفراء يستخدم في صناعة الداوجن، وكان من المتوقع أن يحقق هذا المقترح عائد يصل إلى نحو 600 مليون جنيه سنويًا، يتم إيداعه في صندوق لدعم زراعة الذرة محليًا، لكن وزارة التجارة والصناعة تدخلت وأوقفت القرار بسبب ما قيل وقتها من أن الشركات المستوردة اعترضت عليه.
المشكلة الثانية التي يرى السيد ضرورة الالتفات إليها هي مسألة استيراد الأمصال والأدوية واللقاحات والمحسنات من الخارج قائلًا "يتم حاليًا استيراد نحو 80% من احتياجاتنا، من الضروري توطين هذه الصناعات حتى يتم توفير العملة الصعبة، وبالتالي السيطرة على أسعارها التي تؤدي بشكل أو بآخر إلى ارتفاع أسعار الدواجن".
كيف أثر الغزو على الدجاج؟
لم تسلم صناعة الدجاج من الغزو الذي شنته روسيا على أوكرانيا، فبسببه ارتفعت العقود الآجلة للذرة إلى أعلى مستوى لها في 10 سنوات تقريبًا، وبحسب بيانات أسواق السلع العالمية، فإن أسعار الذرة كانت في صعود هذه السنة مقارنة بالعام الماضي بنسبة 22%، لكن بعد اندلاع الحرب قفزت الأسعار فوق صعودها الرئيسي، حتى وصلت في يوم الغزو إلى 6.95 دولار بوشل الذرة، ثم تواصل الصعود خلال الأيام التالية ليبلغ في منتصف أبريل/ نيسان الجاري لنحو 7.92 دولارًا.
ومباشرة انعكست تلك الزيادات على مصر، فارتفعت تكاليف الأعلاف، خصوصًا وأن الذرة الصفراء تستحوذ وحدها على نسبة تتراوح بين 60 و70% من مكونات العلف. وزاد في العبء ارتفاع الدولار بنحو ثلاثة جنيهات خلال مارس الماضي. ومن سوء طالع المصريين، ممن يعتمدون على بروتين الدواجن الرخيص، أن الدولة المنكوبة بالحرب، أوكرانيا، هي السادسة عالميًا في إنتاج الذرة الصفراء، ما يجعل استمرار الحرب فيها عاملًا مؤثرًا على نقص المعروض من الذرة عالميًا، ومن ثم زيادة الأسعار.
ويعلق مستورد خامات الأعلاف هشام سليمان للمنصة "عادة ما نعتمد على أوكرانيا لتغطية ثلث احتياجاتنا من الذرة الصفراء تقريبًا، ومع اندلاع الحرب تعطلت الإمدادات ولجأ المستوردون لبدائل مثل رومانيا وصربيا والمجر".
المعلومة تعززها بيانات حصلت عليها المنصة من مستوردين عن شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، تُظهر أن أوكرانيا ساهمت بنحو 22% من واردات مصر من الذرة الصفراء في هذا الشهر، بينما كان المساهم الأكبر هو البرازيل بنسبة 67.7%. ووفقًا لنفس المصادر فإن إجمالي ما تستورده مصر من الذرة الصفراء خلال عام 2021 بلغ نحو 9.7 مليون طن من الذرة الصفراء.
وأظهرت البيانات أن صادرات الحبوب الأوكرانية في مارس كانت أقل بأربع مرات مما كانت عليه في فبراير حيث عطلت الحرب الشحن من البحر الأسود، مما دفع الأسعار إلى مستويات لم نشهدها منذ سبتمبر 2012.
نمو استهلاكي يبتلع الواردات
هذه الواردات تأتي مدفوعة بالنمو المتسارع لاستهلاكنا المحلي من هذه الحاصلات من العلف، إذ تضاعف الاستهلاك بحسب دراسة خلال الفترة بين 2014 إلى 2018، ليصل إلى حوالي 12 مليون طن في السنة، ويقول رئيس شعبة الدواجن إن استهلاكنا ارتفع في الوقت الراهن لحوالي 15 مليون طن.
وتكشف بيانات حصلت عليها المنصة من مستوردين، ومن متابعة موقع لجنة توجيه السفن ارتفاع الاستيراد للذرة الصفراء في الفترة بين 2017 إلى 2021، حيث استوردت خلال عام 2021 نحو 9.7 طن، بينما استوردت في 2017 استوردت 8.9 مليون طن.
فول الصويا يلحق بالذرة
يشير مستورد الذرة هشام سليمان إلى أن "مشكلة الذرة الصفراء تتكرر أيضًا مع الفول الصويا الذي نلجأ إلى استيراد نحو 95% منه من الخارج بينما ننتج في مصر 5% فقط". ويبدو أن الفول الصويا تلقى هو الآخر صدمة الغزو الروسي لأوكرانيا، إذ تأثرت أسعاره أيضًا، غير أن تأثره تذبذب صعودًا وهبوطًا، حتى والحرب بعيدًا نظريًا عن مزارعه، إذ تعتمد مصر على الولايات المتحدة بنسبة 80% من مجمل وارداتها من الفول الصويا.
وبحسب بيانات أسواق السلع العالمية سجل سعر بوشل الفول الصويا يوم 22 فبراير أي قبل يوم من بداية الحرب 1604.5 دولار، وبعد نحو أسبوع من اندلاعها، وتحديدًا في مطلع مارس الماضي قفز سعره إلى نحو 1689.7 دولار، ثم تراجع في مطلع أبريل الجاري إلى 1584.5 دولار، وعاد للارتفاع مرة أخرى منتصف الشهر نفسه ليصل إلى 1683 دولار.
وبخلاف الحرب، يتأثر سوق فول الصويا بمجموعة من المتغيرات انعكست على أسعاره منها الطقس السيئ والجفاف في الولايات المتحدة والبرازيل.
نتيجة حتمية
ولأن الفول الصويا والذرة الصفراء هي المكونات الرئيسية لصناعة العلف، فارتفع سعره من 9 آلاف جنيه قبل الأزمة إلى 10,500 جنيه بعد شهر من الحرب الأوكرانية، وهو نفس السعر تقريبًا المستمر حتى الآن، لذا كان طبيعي أن ترتفع أسعار الدواجن التي يربيها إبراهيم حماد في مزرعته ببورما.
يقول حماد للمنصة "نشترى الكتكوت عمر يوم واحد، ويحتاج من 30 إلى 35 يومًا ليصل إلى وزن 1.5 كيلو، وحتى يصل إلى هذا الوزن يحتاج إلى 3.5 كيلو من العلف".
يضيف "هكذا انتقلت الأحداث العالمية إلى أسواقنا الشعبية، فقبل بداية الحرب بيوم، كانت أسعار الكيلو من الدجاجة البيضاء يتراوح بين 31 و32 جنيهًا بالمزرعة، وفي 20 مارس أي بعد أقل من شهر على بداية الحرب الروسية ارتفع سعرها لتتراوح ما بين 35 إلى 36 جنيهًا للكيلو فى المزرعة، ثم زاد سعر الكيلو بعد التعويم إلى لتتراوح بين 36 و37 جنيهًا للكيلو، ويضاف إلى هذا السعر تكاليف توصيل الدجاج إلى محلات البيع للمستهلك وهامش ربح البائع الأخير وهو ما وصل بسعر الدجاجة في بعض الأسواق إلى 100 جنيه.
مشكلات محلية أيضًا
صحيح أن الحرب على أوكرانيا ألقت بثقلها في مزرعة حماد وغيره، لكنها ليست الملام الوحيد، إذ يشهد مجال تربية الدواجن في مصر كثيرًا من الأزمات الأخرى. وتعد تربية الدواجن من الأنشطة المنتشرة في مصر على نطاق واسع، ما ساهم في تمكيننا من تحقيق الاكتفاء الذاتي، لكن الاعتماد القوي على صغار المربين أدى إلى العديد من الممارسات الخاطئة في التربية، ما ساهم أيضا في زيادة تكاليف تربية الدواجن.
"أي ست أو شاب يستطيع تربية الدواجن فوق سطح منزله أو في أي مكان مناسب يستأجره، إنها صناعة البسطاء" يقول رئيس اتحاد الدواجن محمود العناني، مقدرًا في حديثه مع المنصة عدد مزارع الدواجن في مصر بنحو 23 ألف مزرعة، يعمل بها نحو 3 مليون شخص، إلا أن مصدرًا في الاتحاد نفسه قال للمنصة إن هذا الرقم لا يعبر عن الواقع، لافتًا إلى أن رئيس الاتحاد يتحدث عن المزارع المسجلة فقط "هناك عشوائية كبيرة تسيطر على هذا المجال، اتكلمنا كتير عن ضرورة حل هذه المشكلة لكن مفيش حاجة بتحصل".
وبحسب البيانات المتاحة لدى جهاز التعبئة العامة والإحصاء فإن القدر الأكبر من مذبوحات الدواجن يأتي من المزارع، بعدد 895.7 مليون دجاجة في 2018، يأتي بعده الدجاج المنزلي بعدد 47.7 مليون دجاجة.
ويوضح رئيس شعبة الدواجن طبيعة الممارسات البدائية في تربية الدواجن لدى صغار المربين قائلًا "هناك نظامان لتربية الدواجن، الأول يسمى المفتوح وهو التقليدي القديم، والثاني المغلق الحديث، النظام المفتوح هو تلك المزارع التي تكون فيها الشبابيك غير محكمة، وأدوات التدفئة تقليدية، ما يؤدي إلى هدر الأعلاف و تقليل أثر التدفئة".
ويضيف "نحتاج لتعميم النظام الحديث فهو يؤدي إلى زيادة الإنتاجية بنسبة تصل إلى 80%، ويقلل هدر العلف بنسبة 15% وهدر الطاقة بنسبة 30%، بالإضافة إلى أنه أكثر قدرة على السيطرة على الأمراض الوبائية".
لجنة لتنظيم الدواجن لا تنعقد
وفي محاولة لتطوير هذه الصناعة وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي في يونيو/ حزيران الماضي، بتشكيل ما أطلق عليه "اللجنة العليا لتنظيم صناعة الدواجن"، تكون مهمتها الارتقاء بالصناعة ودعمها وتنسيق سياساتها بالاشتراك مع اتحاد منتجى الدواجن والقطاع الخاص، وكان من المقرر أن تعقد هذه اللجنة اجتماعًا مرة كل شهر، إلا أنها عقدت اجتماعها الأول في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 أي بعد قرار تشكيلها بنحو 5 أشهر، ولم تنعقد من وقتها وحتى الآن، بحسب مصدر عضو في اللجنة تحدث إلى المنصة طالبًا عدم ذكر اسمه.
وأشار المصدر إلى أن الاجتماع حضره ممثلون عن صناعة الدواجن باختلاف أنواعهم، وعرض خلال الاجتماع كل المشاكل التي يعاني منها كل قطاع في الصناعة خاصة كيفية حماية المربي الصغير من تقلبات السوق، لافتًا إلى أن وزير الزراعة اعترف بوجود هذه المشاكل ووعد بحلها إلا أنه حتى الآن لم يحدث أي تغيير ولم يحدث أي تحرك، ويرى المصدر أن تفعيل هذه اللجنة قد يساهم في الحد من زيادات الأسعار الراهنة.
وإلى أن تتوصل تلك اللجنة إلى حلول عملية، أو تضع الحرب الروسية على وأوكرانيا أوزارها، أو ينخفض سعر الجنيه أمام الدولار، سيظل إبراهيم حماد في مزرعته، يرعى الدجاج، ويستورد العلف، ويعلو ويهبط مع حركة السوق، والحروب والعالم.