لبريخت قصيدة استُهلِكت من كثرة استدعائها واسترجاع أبياتها. أحيانًا يكون الاستدعاء في سياقه، وفي أحيان أخرى يكون مجرد استجابة لمشاعر لحظية متطايرة. فالحقُّ أن للقصيدة نَفَسًا ضَجِرًا بكل شيء، يميل في بعض مقاطعها إلى العدمية الصريحة، يغري باستبطانه. خاصة وهي تبدأ بجملة: حقًا إنني أعيش في زمن أسود.
لا أعرف وقتًا لم يكن فيه الزمن أسودَ. وإن كان البروفيسور ستيفن بينكر، في كتابه الشهير أفضل ملائكة لطبيعتنا/The Better Angels of Our Nature يدَّعي أننا نعيش أهدأ عصور العالم؛ من حيث العنف والقتل والشراسة، وهو يبني حُجته الأساسية على عدد ضخم من البيانات والإحصائيات التي تمتد لفترات طويلة من التاريخ، تُخبرنا حسبما يدّعي، أنَّ العالم يسير في طريق السلام، وأن الأجواء تصبح أهدأ. وهو على كل حال، يُرجِع ذلك إلى أشياء مثل سيطرة الدول واحتكارها للعنف، وإلى ما أطلق عليه "سيادة التفكير العقلاني".
حظي كتاب بينكر، الذي يعمل أستاذًا لعلم النفس في جامعة هارفارد، بانتشار واسع، متجاوزًا حتى الأوساط الأكاديمية التقليدية التي تهتم عادة بهذه الأمور. لكن من بين الانتقادات التي وُجِّهت له، وهي انتقادات سليمة بناءً على قراءتي للكتاب، أنَّ أطروحة بينكر، التي بنى عليها أفكاره، تعتمد بالأساس على أوروبا وأمريكا، تضعهما في مركز العالم وأساسًا له.
ويبدو أن، حتى بينكر، الذي يحتلُّ موقعًا مهمًا في التيار الذي يمكن تسميته تيار العقلانية، مع أشخاص مثل دانيال دانيت وغيرهم، لا يسلَم هو الآخر من التحيّزات. فمباشرة بعد بداية أحداث السابع من أكتوبر، وبعدما نشرت 34 مجموعة من المنظمات الطلابية في جامعة هارفارد بيانًا مشتركًا؛ تُحمِّل فيه إسرائيل مسؤولية الأحداث، بسبب ما يزيد عن 17 عامًا من الحصار الخانق على غزة، وتحويلها إلى "سجن مفتوح لا فكاك منه"، شارك بينكر في كتابة بيان يستنكر بيان هؤلاء الطلاب.
ثم عاد بعد ذلك لإصدار بيان آخر، يردد فيه باقي الكلام عن "قتل الأطفال"، و"اغتصاب النساء"، وغيرها من أمور. دون أي إشارة إلى ما يحدث الآن من قصف لا ينقطع عن غزة، استمر لما يزيد عن أسبوعين، على الهواء مباشرة.
عميقًا عميقًا في داخله
قراءة البيانين اللذين وقَّع عليهما بينكر، ذكرتني بالأسباب التي كانت دائمًا ما تجعلني أجد صعوبة في ابتلاع ما يقوله، والتعامل معه. هذه الرؤية للتاريخ بوصفه كيانًا أبيضَ لا تشوبه شائبة أي أجناس أخرى عاشت على هذا الكوكب. تاريخ يبدأ بالحضارة الأوروبية، لتحمل الشعلة أمريكا، وتنقلها إلى العالم الحر، وهي رؤية استشعرتها مبكرًا في كلامه، وفي كلام هذا التيّار "العقلاني" بأكمله، حتى مع أطنان البيانات والإحصائيات التي يكبسونها ويراكمونها في كتبهم.
أحاذر الآن المغالاة في ردة فعلي، أو أن يكون ما أقوله الآن مدفوعًا بأثر الحدث، فبالتأكيد لا يجب أن نتعامل مع أستاذ في واحدة من أهم جامعات العالم، وواحد ممن أضافوا كثيرًا إلى هذا العلم، مثلما نتعامل مع ما يقوله وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت، الذي قال بوضوح لجنوده إنهم يحاربون "حيوانات بشرية".
لا يزال الإنسان الأبيض يرانا بوصفنا نمثل درجة ما من الحيوانات
طبعًا لا يتعامل ستيفن بينكر مع هؤلاء البشر في قفصهم المجازي المُسمَّى غزة، بوصفهم حيوانات بشرية، ولو سألته عن رأيه في هؤلاء الأشخاص لقال لك بوضوح إنهم بشر يستحقون الحياة. بل ربما ذكر لك تلميذًا أو تلميذة درَّس لهما، جاءا في الأصل من غزة أو من منطقة من مناطقنا المنكوبة.
لكن ذلك لا يعني أنه لا يستنبط تلك الرؤية. عميقًا عميقًا في داخله، لا يزال الإنسان الأبيض يرانا بوصفنا نمثل درجة ما من الحيوانات. نشبه البشر، ونفعل أفعالهم، وربما نفكر على نفس الدرجة، لكن هناك جزءًا وحشيًا، غير متحضر بالكامل، غير مستأنس تمامًا، يطل برأسه عليهم من وقت لآخر.
محاولات صعبة في هذه الأوقات
قبل السابع من أكتوبر، كنت أقرأ في أمرين. الأول هو elytron، أو الجناح الغمدي عند الخنافس. بالتأكيد هذا المشهد مألوف بشكل ما، ربما من أفلام الرسوم المتحركة. تُقرر الخنفساء أن تطير، فتفتح جناحيها الغمديين، ثم تطير باستخدام الجناحين الحقيقيين. مع الوقت، عرفنا أن هذين الجناحين الغمديين جناحان عاديان، لكنهما تصلَّبا لحماية ما تحتهما مثل الدروع.
أما الأمر الثاني فهو ما يُطلق عليه moulting، أو الانسلاخ بالعربية. وهي ظاهرة تحدث في كثير من الكائنات، فقارية أو لا فقارية، يتخلص فيها الحيوان من أجزاء معينة من جسمه، ليؤدي بذلك غرضًا وظيفيًا محددًا. يحدث ذلك في بعض الحيوانات بصورة موسمية، أو في أوقات معينة من السنة، أو حتى في مرحلة بعينها من دورات حياتهم.
نحن البشر مثلًا، نطرح عنا طبقات الجلد الميِّت طيلة الوقت. تفعل القطط ذلك في مواسم معينة، في الربيع مثلًا، يتساقط شعر القطط، لتتخلص من كل الشعر الذي راكمته على امتداد فترة الشتاء، الطيور أيضًا تغيّر ريشها أثناء نموها، لتكتسب ألوانها المميزة التي عادة ما تظهر بعد انتهاء فترات الحضانة.
أحيانًا ما تسبب تلك العملية درجة من الهشاشة عند الكائن الحي الذي يمر بها، بعض أنواع البط مثلًا تفقد القدرة على الطيران أثناء تلك المرحلة، ولهذا تلجأ إلى الاختفاء قليلًا عن العالم، تبتعد عن المنافسة، وتختفي عن الأنظار قليلًا حتى تستعيد قدرتها على الطيران فتطير. وهكذا الدنيا.
في النهاية لم أكتب عن هذين الموضوعين. تصبح القراءة والكتابة والكلام والتعبير والتفكير، أمورًا صعبة في هذه الأوقات.
تأملات أبعد من اللحظة
حقًا أنني أعيش في زمن أسود. المهم أن بريخت في قصيدته تلك، يُخبرنا بجملة شهيرة، كادت أن تصبح مثلًا، يقول فيها: الحديث عن الأشجار يوشك أن يكون جريمة/ لأنه يعني السكوت عن أشياء أكثر هولًا.
وأنا أجد هذا كلامًا فارغًا بصراحة، مع احترامي الكامل لأبي المسرح ما بعد الحداثي، ومُسقط الحائط الرابع بين الممثلين والجمهور. فأحيانًا لا يكون أمام الإنسان في لحظات بعينها إلا الحديث عن الأشجار، والصمت أمام جرائم أشد هولًا. وهكذا الدنيا.
لكن ما يتوجب على الإنسان فعله في رأيي، هو أن يتحدث عن الأشجار صادقًا في حديثه، وأن يتحرى ذلك الصدق في أيِّ حديث كان. ففي النهاية، ينتصر الناس حين ينتصرون بذلك. لا بالهروب، لكن بالتمسّك بكل فكرة أصيلة، حتى لو كانت تأملًا بعيدًا عن اللحظة.
في الأيام الصعبة تُختبر الأفكار، لكن ما يبقى منها يصبح أقوى. هذه هي الدنيا؛ محاولة تلو أخرى. وليس أمام الإنسان إلا أن يحاول.