سكرين شوت من يوتيوب
محمود عبد العزيز وعلي حسنين في مشهد من فيلم الكيت كات (1991)، إخراج داود عبد السيد

المثقف الغافل عن رؤية شعبه

استبعاد المجتمع من حمدين صباحي إلى برهان غليون

منشور الثلاثاء 24 ديسمبر 2024

نشر موقع المدن اللبناني، وبينما كانت هيئة تحرير الشام، النصرة سابقًا، تتقدم من حلب لحمص، قبل أيام قليلة من هرب بشار الأسد، صورة من قناة إسرائيلية، يحتل أحد أركانها الشعار الوطني الإسرائيلي "إسرائيل في حرب". وهناك، على نفس الشاشة، يتحدث سوريٌّ من إدلب، ممن يوصفون بأنهم قيادات المعارضة، أو الفصائل، مع التليفزيون الإسرائيلي عن تطورات المعارك، وهزيمة العدو الأسد، الذي لا بد وأن يكون العداء معه، بناء على هذا المشهد، أكبر من العداء لإسرائيل.

أثارت هذه الصورة غضب البعض. فظهرت تبريراتها الساذجة، مثل أن هذا المعارض لم يكن يعرف أنه يتحدث مع قناة إسرائيلية، وهذا يصعب تصديقه. فتوقيت العمليات في سوريا، دون أي تورط في الدفاع عن النظام الفاسد للأسد الطاغية، توقيت إسرائيلي بامتياز. توقيت مُحدد بمتى ينبغي اتخاذ الخطوة التالية لرسم حدود وملامح الشرق الأوسط الإسرائيلي الجديد. أو على أقل تقدير يستفيد مما حققته إسرائيل في المنطقة خلال العام السابق.

لحظة مشهدية بامتياز؛ تكريس الهزيمة الفلسطينية، وتحويل إبادة الشعب الفلسطيني في غزة لممارسة عادية، وفصل المسارات المقاوِمة، وخنق وعزل حزب الله، وكذلك القضاء على أي منابع أو روافد تسليح أو تمويل للمقاوَمة في المنطقة. وهو ما تأكَّد بعد هذه الصورة بأيام، بتدمير إسرائيل لما تبقَّى من الجيش السوري، واحتلال أراضٍ سوريِّةٍ جديدةٍ بعد ساعات من سقوط بشار. ودون أن يتخذ أصحاب السلطة الجدد في دمشق أي موقف، ولو كلامي، من هذا الاعتداء، مكتفين لاحقًا بتصريح مبهم بأن سوريا لن تخوض حروبًا بعد اليوم، ودعوة المجتمع الدولي لوقف الاعتداءات الإسرائيلية.

إنها اللحظة المواتية لتدشين موقع جديد، ربما يفتح جراح السوريين من جديد، أو يُدخلهم للمجهول، ويلوّح للبنانيين بألَّا ينسوا حروبهم الأهلية السابقة، ولا أن هذا الوحش الإسرائيلي/الأمريكي قادر على جعلهم، وجعلنا جميعًا، نعيش الجحيم الذي يقرره لنا إن أراد، ولن يكون رد الفعل عليه سوى صمت دولي، ورضاء سلطوي عربي.

المثقف الغائب مُمجدًا للقوة

من لقاء حمدين صباحي وبشار الأسد

سقطت عائلة الأسد المستبدة والفاسدة، فغرَّد حمدين صباحي، الرمز الأهم للتيار القومي في مصر، بالتالي؛ "آه يا سوريا الحبيبة، الطعنة غائرة في قلب العروبة. لكن العروبة لا تموت". لكن لنترك مؤقتًا حمدين صباحي وتغريداته وصوره السابقة مع الأسد مطلع أغسطس/آب 2023، لنتوقف سريعًا أمام رمز آخر، لكنه سوري.

بعد تقرير المدن عن الظهور السوري على الشاشات الإسرائيلية، الذي يُذكِّر بعناصر جيش لبنان الجنوبي العميلة لإسرائيل سابقًا، باعتباره شيئًا عاديًا، يتعلق بانحيازات مختلفة علينا قبولها إن كنا ديمقراطيين، عاد المفكر الديمقراطي برهان غليون، الرئيس السابق للمجلس الوطني السوري المعارض، للظهور على نفس الموقع ومواقع أخرى. لكن ليس كمفكر هذه المرة، فقد تنازل قبل أعوام عن هذا الدور، متحولًا إلى ما يقترب من صورة "المتحدث الميليشياوي"، المتورط في حرب أهلية، ليُسبغ على عنفِ السلاحِ بعضَ الثقافة.

قدَّم برهان غليون قبل سقوط الأسد بأيام قليلة، ما يبدو دليلًا جديدًا على "فقر" أفكار المثقف في لحظة تحوله لمتحدث باسم جهة ما، عندما كتب إن الحل في سوريا لا يخرج عن ثلاثة مخارج؛ إما أن يتنازل الأسد عن السلطة، أو أن يطيح به انقلاب عسكري، أو أن تستمر الحرب.

هنا يبدو تهافت المثقف، إذ يتعمق الانقسام بينه وبين الشعب المفترض أنه يعبر عنه، أو يتعمق غيابه الكامل عنه. فمع تجاهل كم الأكاذيب والمغالطات التي يروجها حول نوعية هذه المعارضة نفسها، نجد أن المثقف المعارض، المفترض منه أن يكون مثقفًا عضويًا بتعبيرات جرامشي، يعود للسلطوية، لمنطق القوة، في كل خياراته الثلاثة.

فتنازل بشار الأسد عن سلطته كرئيس لن يحل مشاكل سوريا، ولن يخلق فيها نظامًا ديمقراطيًا أو علمانيًا أو عادلًا بشكل تلقائي، بل هو مجرد تغيير في طبيعةِ ووجهِ القامع. والخيار الثاني؛ الانقلاب العسكري ضده، هو روشتة سنوات الخمسينيات والستينيات التي جلبت لنا أنظمتنا هذه، بكل ما سبَّبته من خراب. أما الحرب، التدمير، الدم والخراب، فلا يطورون أي مجتمع أو أي بلد، ولم يقودوا أبدًا لديمقراطية أو عدالة. الحرب تدمر الشعب وفقط، وتنسف خياراته السياسية.

ما تحقق فعليًا مزيج من الخيارين الأول والثاني؛ فطريقة سيطرة الفصائل على سائر المناطق السورية، وهرب بشار وعائلته، وسطوة ميليشيا هيئة تحرير الشام، وتعيينها لرئيس وزراء انتقالي وحكومة تنتمي إليها بالكامل، هو ما يقترب من ملامح الانقلاب والتنازل.

على عكس الأفراد والمجموعات الصغيرة التي تسعى وتحلُم بمسار نضال سياسي سلمي وثوري، وعلى عكس ملايين السوريين الطامحين إلى العيش في مجتمع حر ومسالم وعادل، نجد أمامنا النماذج النقيضة. ربما يكون أكثرها فجاجة الجولاني سابقًا، أحمد الشرع حاليًا، الذي أتذكر بينما أتأمله، اسمًا على نفس الوزن في مصر؛ العرجاني، الذي يؤسس هذه الأيام حزبًا قبائليًا.

النماذج الإنسانية التي تُعبِّر عن منطق القوة المسلحة، بفجاجة، تحتاج إلى أمثال برهان غليون لتستمر ويستمر تعاطيها. ولذلك لا دهشة في أن يقرر موقع المدن تلميع برهان غليون في هذه اللحظة، بجملة بلا معنى، لكنها تترك أثرًا أسطوريًا مدهشًا؛ "أحد أبرز المفكرين السوريين الذين ساهموا في إنتاج الفكر السياسي العربي ونقده".

ناهيك عن كوميدية أن تؤسس شيئًا وتنقده في الوقت ذاته، فلا يوجد شيء اسمه "الفكر السياسي العربي"، بل هناك مدارس لا تنتهي من الفكر السياسي في البلاد العربية، تنبع من منظومات فكرية مختلفة، وأحيانًا متناقضة، وتستند، وهو الأهم، على مصالح طبقات اجتماعية محددة.

خطاب الحب لا ينتج سياسات واقعية لحل أزمات شعب عاش 13 عامًا من التدمير الممنهج

يَظهر الجوهر السلطوي للخطاب ومنطق القوة حين يقول المفكر "إذا أرادت واشنطن إغراق روسيا في مستنقع سوري متفاقم ليس هناك حل، وسوف تتفاقم مأساة السوريين. وإذا قررت روسيا العمل ضد أمريكا في سوريا سوف نواجه أيضًا تمديدًا للأزمة إلى أجل غير مسمى". ويختتم حديثه بالقول "العنف ينتج العنف المضاد والكراهية الكراهية المضادة تمامًا كما تنتج المودة المودة والإخاء الإخاء".

تتمثل المأساة هنا في أن علينا، نحن شعوب الشرق الأوسط، أن نُسلِّم بأننا مجرد أدوات في لعبة بين دولتين/قوتين؛ روسيا وأمريكا، هما من تقرران مصيرنا. وإن رفضنا ذلك، فليس علينا، بناء على ما يقوله، اللجوء إلى أفكار ومناهج الصراع السياسي والاجتماعي، بل إلى خطاب الحب الساذج؛ أحبوا بعضكم بعضًا. خطاب الحب الذي لا ينتج سياسات أو تصورات حقيقية وواقعية لحل أزمات شعب عاش 13 عامًا من التدمير الممنهج.

المثقف الغائب خطيبًا في الصحراء

لا يعنيني برهان غليون تحديدًا سوى باعتباره نموذجًا لمن سنراهم من سياسيين/مفكرين في الفترات المقبلة. فتقسيم البلاد، وتدمير قطاعات شعبية، سيكون أيضًا تحت شعارات الديمقراطية الإسرائيلية، المعتمدة على نبذ الكُره، تحت مظلة أن الأقوى دوليًا هو من يحدد لنا مصيرنا. وهذا النوع تحديدًا من الديمقراطية السياسية، وحين تلتحم بالحالة الميليشياوية والأصولية الدينية، لا تقود إلا للفوضى على أقل تقدير، وتفتح أبواب الاقتتال الأهلي.

هذه نماذج ملائمة لزمن ترامب وبوتين ونتنياهو؛ المجسدين لمنطق القوة والفساد والدم الممتزج بتدين زائف وتحايل على قواعد الديمقراطية نفسها. نماذج تنفي طريق المعارضة والثورة المدنية الشعبية من الداخل، وترى في النضال الديمقراطي والعمل السياسي تهديدًا لها. ولذلك فمصير سوريا، بناء على ما سترسمه هذه القوى، لن يتحدد فقط بناء على ما إذا كانت السلطة الجديدة ستحقق الأمن والعدالة والديمقراطية والمساواة للسوريين فقط، وبرد فعل الميليشيات الأخرى، بل أيضًا بموقف سوريا الجديدة من إسرائيل.

المثقف الغافل المنفصل عن شعبه هو من لا يدرك الآن أننا لم نعد مستعدين لنُستعبد بأي ذريعة

استدعاء إسرائيل في هذا السياق، وموقف السلطة السورية الجديدة منها، ليس استدعاءً للمركزية الفلسطينية التي يلوِّح بشبحها المثقف النقيض لبرهان غليون، وإن كان يلتقي معه في نفس النقطة؛ حمدين صباحي، وتياره الداعم لأنظمة مستبدة لم تقدم لفلسطين كقضية سوى الخراب. ليس فقط الأسد، بل قبله صدام حسين والقذافي.

هذا الاستدعاء طبيعي في لحظة الإبادة. فبإبادتها للشعب الفلسطيني، وعدوانها على لبنان، وتدميرها للجيش السوري واحتلال أراضٍ سورية جديدة، ارتكبت إسرائيل، وعمَّقت، الغلطة الكبرى؛ إعلانها بدء عملية إعادة تقسيم هذا الشرق، وبوضوح، بين قطاعات مجتمعية وقوى وأنظمة تنتمي لها، وقطاعات شعبية وقوى أخرى تعي الآن أنها في المعسكر المضاد، معسكر رفض الاستبداد والاستعمار لصالح الديمقراطية ومقاومة جديدة، ويتأصّل وجودها فيه.

الخطأ هو أن إسرائيل وحلفاءها في المنطقة، تصوروا فعلًا أنهم قادرون على إبادة الشعب الفلسطيني بالكامل، وجعله عبرة لبقية شعوب المنطقة، دون أن ينتبهوا أنهم يدخلون مرحلة النزاع المفتوح، ويحيون ويكرسون من جديد قواعد العداء.

معسكر الديمقراطية والصراع السلمي والثوري من أجل التغيير والحرية، الذي بالطبع هو المعسكر الأضعف والمهزوم حاليًا، لا يملك سوى المقاومة عبر عقود طويلة قادمة، وبأشكال جديدة. لا يملك غير أن يربط نضاله الديمقراطي والاجتماعي في بلدانه، بتحرر الشعب الفلسطيني وإنهاء وجود الدولة الفاشية الإسرائيلية.

لا يمكن لهذا المعسكر أن يلتقي مع دعاوى المثقفين من نوعية برهان غليون، الذي ينفي الشعب لصالح القوى الكبرى، ولا يرفض منطق "سقط الأسد فسقط العداء مع إسرائيل". كما لا يمكن لمعسكر الديمقراطية والتحرر والعدالة الحقيقية أن يلتقي مع مثقف وسياسي من نوع حمدين صباحي، الذي يبدو نقيضًا لبرهان غليون، لكنه يتفق معه في نفي الشعب لصالح النظام الفاسد والمستبد، مادام هذا النظام يدَّعي العروبة.

حمدين صباحي ببكائياته على نظام احتفظ طيلة عقود بـ"حق الرد على إسرائيل" ولم يستخدمه مطلقًا، يقف بهذا المعنى خارج الشعب السوري الذي يصوره كشعبه. والحقيقة الهزلية هي أن مصير هذا الشعب لا يعنيه مادامت شعارات وأعلام العروبة والممانعة محلقة، فيما لا يجرؤ إلا نادرًا على انتقاد رئيس بلده، مصر، "قلب العروبة النابض"، الذي تسير سياساته على طريق نقيض لهذه العروبة والاستقلال وإنهاء الاحتلال. ولا يجرؤ كذلك على تأسيس معارضة حقيقية له.

المثقف النائم، الغافل، المفصول عن شعبه، هو من لا يدرك الآن أن شعوبنا لم تعد على استعداد لأن تُستعبد بحجج مركزية القضية الفلسطين والعداء مع إسرائيل، أو غيرها من الخطابات القومجية الاستبدادية. ولا أن تُستبعد بالحجج النقيضة، التي تنفي حقيقة أن وجودَ إسرائيل مهددٌ أساسي لحياتنا، وتفترض أن علينا تجاهلها، والاكتفاء بأن نكون مجرد أدوات تتلاعب بها القوى الدولية والإقليمية.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.