فليكر برخصة المشاع الإبداعي
جرافيتي لياسر عرفات

نظر إليه ياسر عرفات ولم يبتسم

أوليفر ستون "شخص غير مرغوب فيه"

منشور الثلاثاء 31 يناير 2023 - آخر تحديث الأربعاء 1 فبراير 2023

للكاتب والصحفي اللبناني يوسف بزي رواية باسم "نظر إليَّ ياسر عرفات وابتسم"، يلتقط فيها مفارقة من ضمن ذكرياته كمقاتل في الحرب الأهلية اللبنانية؛ كان مراهقًا مرتديًا الملابس العسكرية لإحدى الميليشيات، تقاطع مع ياسر عرفات، فنظر إليه الأخير، وابتسم في وجهه.

اشتهر ياسر عرفات/ أبو عمار بأشياء كثيرة، من ضمنها الوجه الضاحك وكثرة القبلات والأحضان، وأن يرفع طفلًا من بين المحيطين به بين يديه، لتُلتقط له الصور بصحبته، لدرجة أن البعض من داخل صفوف الثورة الفلسطينية، أو مناصريها، كانوا ينتقدون "دبلوماسية الأحضان والقبلات"، بدلًا عن الخطاب السياسي القوي في العلاقات الدبلوماسية والتفاوض.

لا أتذكر أيهما سبق الآخر؛ قراءتي لرواية يوسف بزي بعد صدورها عام 2005، أم مشاهدتي لـفيلم أوليفر ستون عن عرفات "شخص غير مرغوب فيه"، المنتج قبل صدور الرواية. لكنهما ارتبطا في ذاكرتي، فبينما أتخيل عرفات في بيروت 1981 يبتسم للفتي يوسف، أمزج هذه الصورة بذلك المشهد السريع لعرفات، العجوز المحاصر في المقاطعة برام الله عام 2003، ينظر نظرة باهتة، تفضح لا مبالاته، للمخرج الأمريكي الشهير أوليفر ستون القادم إلى المقاطعة ليُخرج فيلمًا عنه.

تحدثتُ في مقال سابق عن فيلم "قطار منتصف الليل" إخراج آلان باركر وسيناريو أوليفر ستون، وعن تلك المجموعة الهلامية المتخيلة لسينمائيين متمردين في عالم الإنتاج السينمائي الكبير ومن داخل الاستوديوهات الهوليودية. لا بد أن من أبرزهم خلال العقود الأربعة الأخيرة أوليفر ستون، الذي كان يوصف بأنه "ضد النظام/السيستيم"، حين كانت تلك الصفة تنحصر في الفوضويين ومن شابههم، وقبل أن تشمل أطيافًا كثيرة من أقصى اليسار لأقصى اليمين، وصولًا لترامب وبولسونارو المعادين أيضًا "للسيستيم"، حتى وهما علي قمته.

برغم نقده في أفلامه الكثيرة ملامح من النظام الأمريكي، فإن ستون ظل مقبولًا داخل الاستوديوهات الكبيرة، المفترض نظريًا تمرده عليها كونها جزءًا من السيستيم. إلا في مرة واحدة، أو على الأقل المرة التي نعرفها.

ففي بدايات العقد الأول من الألفية الجديدة يقرر أوليفر ستون أن يقدم سلسلة من الأفلام التسجيلية عن سياسيين ممن تعتبرهم الإدارات الأمريكية أعداءً. يتعثر إنتاج تلك السلسلة من داخل الولايات المتحدة، فيجد المخرج شركة إنتاج إسبانية لتشاركه في إنتاجها، مع مشاركة أرجنتينية رمزية.

قيل في كواليس شركة "مورينا فيلمز" في مدريد، إن الشخص الأول الذي داعب خيال أوليفر ستون للتصوير معه كان صدام حسين، الذي امتنع بعد إبلاغه بالمشروع، خلال الشهور التي سبقت غزو العراق وإسقاط الاحتلال الأمريكي لنظامه، عن الرد بالقبول أو الرفض، بحجة التفكير في المسألة. وقع الغزو الأمريكي للعراق، فكانت الشخصية الأولى التي ظهرت في السلسلة فيدل كاسترو.

قدم ستون عن كاسترو ثلاثة أفلام، كان أولهم "القائد"عام 2003. وفي السنة نفسها ينتج فيلم "شخص غير مرغوب فيه" عن ياسر عرفات. مع ملاحظة أن تواريخ إنتاج الفيلم الأخير تختلف حسب المصادر، بين 2002 إلى 2004. لكن من المؤكد أن تصوير الفيلم في فلسطين حدث خلال السنتين الأخيرتين من حياة عرفات أثناء حصاره بالمقاطعة في رام الله، قبل وفاته في نوفمبر/ تشرين الثاني 2004.

تتوالى الشخصيات التي يتناولها ستون بعد ذلك الفيلم؛ رئيس فينزويلا الراحل هوجو شابيز، وأخيرًا بوتين. لكن بالعودة للشخصيتين الأوليين؛ كاسترو وعرفات، نجد أن الزعيم الكوبي يرحب بأوليفر ستون كصديق حميم، ويستغل فرصة تصوير مخرج أمريكي شمالي شهير معه ليقدم تصوراته ونموذجه الثوري وتاريخه بأناقة وجاذبية. 

نشعر في بعض أجزاء الفيلم أن المخرج الشمالي لا يفهم جيدًا النموذج الذي يقف أمامه، يتأمله بغرابة، ويحتفظ بتلك المسافة الدقيقة التي تفصل بينهما، المسافة التي تفرق بين الأنا والآخر، بحيث يظل الآخر، حتى وإن تعاطفنا معه وأُعجبنا به، آخر، لا نتماهى معه كبطل، بل نشعر كمتفرجين بالقرب أكثر من البطل الأخر لهذه السلسلة؛ المخرج أمام الكاميرا، البادي كبطل يعبر عن آرائه وأفكاره، ولا يكتفي بالسؤال، بل يفعل ويقود مسار الأحداث أحيانًا كأي بطل سينمائي.  

https://www.youtube.com/watch?v=mKLpDCNBqxg

يكسر وفد من أهم كتاب وشعراء العالم حصار الدبابات الإسرائيلية المفروض على المقاطعة بصحبة محمود درويش، فقد جاؤوا لإعلان تضامنهم مع الشاعر وشعبه. يدخلون للقاء عرفات، ومن بينهم نرى أوليفر ستون.

لسبب ما غامض، وسيظل على الأغلب غامضًا، لا يرحب أبو عمار بالمخرج مثلما رحب بالآخرين، ينظر إليه بابتسامة باهتة لا مبالية، محتفظًا بمسافة مكانية بينهما في القاعة الواسعة. مرة واحدة يتحدث فيها أوليفر ستون لعرفات عن قرب، فيخبره عن مشروعه وبأنه أعد فيلمًا عن فيدل كاسترو. لا نعرف رد فعل عرفات، فالمشهد انقطع فجأة.

يذهب أوليفر ستون في رحلة طويلة وصولًا للأراضي المحتلة ليصنع فيلمًا عن شخص لا يعيره اهتمامًا، ويسمي الفيلم بـ"شخص غير مرغوب فيه"، فيقع المتفرج في حيرة، من هو الشخص غير المرغوب فيه؟ هل هو أبو عمار كما يبدو من ملابسات اللحظة السياسية وقرار إسرائيل بإجماع قادتها على التخلص منه؟ أم أن غير المرغوب في تلك المساحة الصغيرة من العالم؛ صالة الاستقبال التي تم اختصار حياة عرفات بداخلها لسنتين، هو المخرج الأمريكي العالمي الشهير؟

لا إجابة لذلك السؤال في الفيلم الذي تحول تمامًا، فبينما تعتمد السلسلة على أن يتحول أعداء الولايات المتحدة لأبطال، ويرسمون هم صورتهم بكلماتهم وأفعالهم، بمشاركة بطل آخر، المخرج الذي يعبر عن بعض آراء المعارضين والخصوم والأعداء أمام السياسي/ البطل، يقرر أوليفر ستون الجالس في عدد من المشاهد في قاعة استقبال الفندق أمام الكاميرا، منتظرًا أن يسمح عرفات لهم بزيارته للتصوير معه، والغاضب من تجاهله ومن عدم تحديد موعد، أن يفعل العكس هذه المرة.

يستحضر المخرج أعداء بطله المباشرين ليحولهم إلى أبطال، وليرسموا هم صورة الإرهابي لهذا البطل. فيصبح أبطال الفيلم الذين يخبروننا عن عرفات؛ أيهود باراك، وبنيامين نتنياهو، وشيمون بيريز، وأحد المسؤولين عن جهاز أمني إسرائيلي. أي من يحاولون القضاء على البطل! بالإضافة لبعض الكومبارس مقدمين في مشاهد عابرة؛ شخص ملثم ومسلح في حجرة صغيرة ومظلمة يُقدّم باعتباره أحد قادة كتائب شهداء الأقصى، وقائد من حماس يتم تشويه صورته أمام الجمهور الغربي للفيلم بإبراز تفصيلة أنه لم يصافح المترجمة اللبنانية المصاحبة لفريق التصوير لأنه توضأ قبل لقائهم.

لا يتوقف المخرج عن الحركة بين الناحيتين، الناحية الإسرائيلية في الأراضي المحتلة عام 1948، وأراضي ما سُميت بالسلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله. ويحرص في كل مرة ينتقل فيها بين العالمين على إبراز الفرق بينهما، العالم الإسرائيلي متمدين ونظيف وبه أبراج ومبانٍ عالية يلمع زجاج واجهاتها، يواجه على الجانب الآخر القمامة والتراب، وجمل. نعم.. جمل، فنحن بنظر المخرج في عالم البداوة والبدائية والسلاح والعنف، عالم العصور الوسطى بامتياز.

يصف بعض الإسرائيليون عرفات في الفيلم بأنه مجرد فأر في مركب يغرق. فيتبنى أوليفر ستون ذلك التصور، أو يُضمِّنه من ضمن خطابات فيلمه، لكنه يعدله ليصبح أبو عمار فأرًا كاذبًا وراقصًا. يقوم بعمل "فوتو مونتاج" على طراز بعض مشاهد فيلمه السابق والشهير "قتلة بالفطرة" (1994)، لاختصار زمن ممتد في عدد من اللقطات السريعة، فيقدم عبارات منتزعة من خطابات متفرقة لعرفات، في أزمنة مختلفة، مع تركيب صور لراقصة شرقية تحيط بوجهه، وتشكل خلفية الصورة. فيؤكد بروباجاندا أعدائه، أنه مجرد فأر كاذب، لا يريد السلام حقيقة، يغير توجهاته بسرعة تغيير الراقصة لوجهة خصرها.

ينتهي الفيلم دون أن يعرف مخرجه لماذا أهدر الزعيم الفلسطيني تلك الفرصة التاريخية بأن يكون بطلًا لفيلمه. ولأنه لا يفهم بطله المفترض، واللحظة التي يعيشها، فلا يجد تفسيرًا سوى أنه فأر في مركب غارق، محاط بمعاونيه الأقرب، لا يستطيع تركهم لأنه خائف من الغرق بمفرده، فيصبح الكلام، أو التصوير، معه وبمفرده، مستحيل.

بعد فيلم "القائد" بشهور، الفيلم الأول الذي نفذه أوليفر ستون عن فيدل كاسترو، وبالتوازي مع فيلم "شخص غير مرغوب فيه"، تعلن الصحف العالمية القبض في كوبا على عدد من المواطنين بينما كانوا يحاولون خطف طائرة، من ضمن موجة من محاولات خطف المراكب والطائرات، بدايات القرن، وتحويل مسارها إلى أراضي الولايات المتحدة الأمريكية، ويُعلن عن تحويل تلك المجموعة للمحاكمة، واحتمالات الحكم عليهم بعقوبة الإعدام.

ينزعج المخرج الأمريكي؛ فكيف لصديقه فيدل أن يسمح بعقوبة الإعدام، فيعود لكوبا لعمل الفيلم الثاني عن فيدل كاسترو "نظرة إلى فيدل"، معاتبًا إياه بلهجة شبيهة بلهجة الصحفي الأمريكي الأبيض في فيلم روائي سابق له، "سلفادور" (1986)، حين ينهر اليساريين في جمهورية السلفادور اللاتينية، كيف يمارسون ما يمارسه أعدائهم، ويحكم عليهم بأنهم في الجوهر مثل أعدائهم.

حضر دائمًا السؤال الأخلاقي في السينما، وبالذات في السينما التسجيلية لمجرد تناولها الحياة الحقيقية لأشخاص حقيقيين. يقدم أوليفر ستون، بالتعاون مع فيدل كاسترو، أحد المشاهد النموذجية لدراسة المسألة الأخلاقية في السينما التسجيلية؛ مشهد "محاكمة سينمائية": يتم استدعاء الرجال الثمانية الخاضعين للتحقيق والمحاكمة بتهمة اختطاف الطائرة إلى طاولة الاجتماعات المستطيلة لفيدل كاسترو، يتم إجلاسهم في جانب منها، بينما على رأسها فيدل نفسه، ويحتل جانبها الثالث، في مقابله، المحامون. أما الضلع الرابع، المواجه للمتهمين، فيحتله أوليفر ستون، مشاركًا فيدل كاسترو محاكمة الجميع أخلاقيًا، ليس من موقع السلطة السياسية، فهو لا يملكها، بل من موقع سلطة الرجل الأبيض الحامل للقيم الراقية، والآتي بهؤلاء المعاونين الحاملين للكاميرات.

يستمر المشهد عشر دقائق، وهو المشهد الرئيسي في الفيلم، وإن بالغت قليلًا فسأقول إن الفيلم صنع من أجل ذلك المشهد تحديدًا، حيث يواجه المتهمون المحتمل فقدانهم لحياتهم التحقيق الذي يديره المخرج أمام الكاميرات، وأمام قائد الدولة والثورة فيدل كاسترو، وعليهم الإجابة عن كل الأسئلة، بداية من جودة المعاملة التي يتلقونها في السجن، ويجيبون طبعًا بأنها جيدة، وصولًا لمزاد يُفتح بالعقاب الذي يقترحونه لأنفسهم وعدد السنوات المناسب للحكم عليهم، مرورًا بظروف الحياة في الجزيرة الكوبية، دوافعهم لخطف الطائرة، ظروف أسرهم، وإن كانوا نادمين أم لا. لينتهي المشهد بأن يدعوا فيدل المحامين للوقوف، راجيًا منهم أن يبذلوا أقصى جهودهم للدفاع عن المتهمين، ويؤكد على أنه ليس قاضيًا.

حكم على خمسة منهم بالإعدام، وعلى الثلاثة الآخرين بالسجن ثلاثين سنةً.

المخرج الشمالي، ككثير من الرجال البيض، يؤمن حقيقة بمبادئ حقوق الانسان، يحملها ويبشر بها حتى وإن أخطأ. فأوليفر ستون الذي شارك شابًا في حرب فيتنام، مثل أبطال أفلامه "بلاتون" (1986)، و"مولود في الرابع من يوليو" (1989)، ومثل بطل "سلفادور" السابق الإشارة إليه، ذهب للحرب في فيتنام لأنه مؤمن بقيم ما، قيم حرية ومساواة وحقوق انسان، دفعته هذه القيم للحرب وقتل الآخر الذي لا يعرفه ولا يفهمه، متصورًا أن على أمريكا أن تدافع عن هذه القيم في العالم كله.

وإن تحول لاحقًا لمخرج متمرد رافض للحرب، أو لجندي شريف ومستقيم يواجه زملائه، أو لجندي سابق متقاعد ومعارض، أو لصحفي صعلوك، فلأنه اكتشف أن الكثيرين من داخل "السيستيم" لا يؤمنون حقيقة بهذه القيم التي آمن هو بها، وعلى الرجل الأبيض التبشير بها، سواء داخل الولايات المتحدة، أو في فيتنام، أو كوبا، أو فلسطين، أو أماكن أخرى من العالم. متجنبًا المغامرة الإبداعية والفكرية الأصعب التي خاضها مخرجون آخرون، مثل مارتن سكورسيزي في "سائق التاكسي" (1976)، وفرانسيس فورد كوبولا في "نهاية العالم الآن" (1979)، اللذين نزعا سمتي المثالية والتطهر عن الرجل الأبيض، وطرحا سؤالًا أساسيًا؛ من أين اكتسب ذلك الرجل الأبيض وهم التفوق الذي يدفعه لوضع الآخرين في ميزان قيمه، وقياسهم بناءً عليه، ومحاكمتهم، وتبشيرهم بهذه القيم؟