تصمبم يوسف أيمن، المنصة
السيطرة وتكميم الأفواه تعيق تقدم المجتمعات

ترويض المجتمع بقمع السؤال

منشور الاثنين 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

عندما كنتُ في المرحلة الإعدادية، سألتُ المُدرِّس سؤالًا بسيطًا: لماذا يجب أن نحفظ هذا التعريف بهذه الصيغة تحديدًا، ولا يمكنني إعادة صياغته بطريقتي ما دام المعنى صحيحًا؟ نظر إليَّ باستغراب، ثم قال بحدَّة "اتبع ما في الكتاب. لا داعي للفلسفة".

شعرت حينها أنني ارتكبت ذنبًا ما. لم يكن في سؤالي نفسه خطأٌ، بل كان الخطأ أنني فكّرت في السؤال من الأساس.

اليوم، حين أسترجع أيام الدراسة الأولى، أشعر أنني كنت أعيش داخل نظام يحكم إغلاق الأبواب في وجه الأسئلة فلا يسمح للضوء بأن يتسلل من الشقوق. لم يُطلب مِنَّا يومًا أن نفكر أو نحلل، ولطالما كوفئنا على الطاعة والانصياع. يُقال لنا ما يجب أن نحفظه، ثم يُطلب منا استرجاعه بالحرف. وكان ذلك يكفي ليقال إننا ناجحون.

ثم ومع مرور السنوات، بدأت أدرك أن هذه ليست مشكلةً فرديةً إنها نمطٌ عامٌّ. طريقة تفكير يُعاد إنتاجها في كل مدرسة، وفي كثير من البيوت، وعلى منابر متعددة. طريقة تُقصي التفكير النقدي، وتمجّد الطاعة. لا أحد يشجعك على أن تسأل "لماذا؟"، بل يُطلب منك أن تقول "سمعًا وطاعة". كل تساؤل هو خروج عن النص، عن القطيع، عن النظام.

وأيضًا لا تتعلق المشكلة بنظام التعليم وحده، وتمتد لتُشكَّل ثقافةً كاملةً تحيط بالفرد منذ طفولته. وعندما يكون السؤال محظورًا، يصبح المجتمع بأسره رهينةَ أنماطٍ فكريةٍ جامدةٍ، لدرجة تُعيق التطور وتقف حاجزًا أمام كل محاولة للابتكار.

التربية أداةً لقمع السؤال

التربية عندنا، في كثير من الأحيان، لا تهدف إلى بناء إنسان حرّ يفكر ويحلل ويشك ويبدع، بل إلى خلق نموذج "ابن مطيع"، لا يرفع صوته، لا يخالف رأي الكبار، ولا يتجرأ على مناقشة التقاليد. نُعلِّم الطفل منذ الصغر أن "الكبار دائمًا على حق"، وأن "الذي يُعارض يُعاقب"، وأن "النظام لا يُناقش بل يُتبع". وهكذا نُخرّج أجيالًا قد تحفظ جيدًا، لكن لا تعرف كيف تفكر خارج إطار ما تعلّمته.

الطفل الذي يسأل كثيرًا يُوصف بالمزعج، والذي يعترض يوصف بـ"قليل الأدب"، والذي يحاول أن يكون له رأي يُنظر إليه كـ"متمرّد". التربية القائمة على القمع -بشكليه الناعم والخشن- تُنتج لاحقًا مجتمعات تخشى السؤال، وتُقدّس الصمت، وتُعادي كل جديد. وأساليب العقاب والثواب داخل الأسرة تُستخدم لترسيخ هذه الثقافة.

السؤال المستهجن في التعليم والتربية مستهجنٌ في الدين أضعافًا

وتشهد مصر معدلات مرتفعة من العنف البدني والتعنيف النفسي للمراهقين في البيوت والمدارس، وثقها استطلاع أجرته منظمة الأمم المتحدة للطفولة يونيسف عام 2015 بالتعاون مع المجلس القومي للأمومة والطفولة، انتهى إلى أن 60% من الأطفال بين سن 13 و17 سنة يتعرضون للعنف البدني، ونحو 75% منهم يتعرضون للعنف النفسي. 

هذا النوع من التربية يشوه شخصية الطفل، لكنه أيضًا يكبر معه، ليجعله إنسانًا مُدرَّبًا على الخضوع للسلطة والتسليم بقراراتها التي لم يُشارك في صياغتها، ولا يحق له مساءلة مبرراتها أو السعي لتغييرها. يصبح إنسانًا غير قادر على الإبداع ولا يملك رؤية نقدية لمحيطه.

التطورات في السنوات الأخيرة، لا سيما في دول مثل مصر، تشير إلى تزايد أدوات الإخضاع داخل المؤسسة التعليمية، وغياب مساحات التعبير المستقل داخل الجامعات. الأمر الذي يدفعنا للتساؤل: هل أصبح التعليم أداة للسيطرة بدلًا من التحرر؟

يتحوّل النص إلى جدار

السؤال المستهجن في التعليم والتربية مستهجنٌ في الدين أضعافًا. وبينما تشكّل الديانات في جوهرها دعوة للتفكّر فإنها تحوَّلت إلى مجموعة من الطقوس التي يعاد أداؤها في منظومة مغلقة لا يجوز نقاشها وطرح الأسئلة عنها، حتى لو كانت بعض التأويلات لا تناسب الزمان ولا المكان.

في بعض المجتمعات، من يحاول أن يقرأ النصوص بروح جديدة، أو يسأل عن تفسيرات بديلة، يُتهم مباشرة بقلة الإيمان أو الانحراف أو "زعزعة الثوابت". بدلًا من أن يُنظر إليه كمجتهد يسعى للفهم، يُنعت بأنه شاذٌّ عن الجماعة، وهنا تصبح المشكلة أعمق: ليس لأن الناس لا يفهمون الدين، بل لأن اتهامات الخروج عن السرب ترهبهم.

وذلك لا يحدث عند انتقاد الدين فقط، يحدث أيضًا عند انتقاد الطريقة التي نتعامل بها معه، وأن تُمنح تفسيرات البشر المتناقضة قداسة النص الإلهي. وحين تُمنع أي فكرة من المراجعة، يصبح الدين مجرد عبء على الفرد والمجتمع بدلًا من أن يكون مصدر إلهام وقوة. إن خلط النصوص الدينية بالتفسير البشري يؤدي إلى تفريغها من معانيها، ويعزل المجتمع عن التغيير والإصلاح الضروريّن.

ومن التعليم إلى الدين وصولًا إلى السياسة حيث تسهُل اتهامات الخيانة؛ ففي المجتمع الذي يسجن من لا يحب قيمه تصبح الأسئلةُ تهديدًا والتفكيرُ مصدرَ خطورة على سلامة الجميع. والحل؟ العودة إلى قيمنا؛ "الاحترام يعني السكوت"، و"العاقل هو من يساير". لكن العاقل، في الحقيقة، هو من يملك شجاعة السؤال، ويحترم عقله بما يكفي ليشك أحيانًا ويبحث دائمًا.

عندما يُمنع التفكير النقدي ويُعتبر الخروج عن المألوف تهديدًا، فإننا نغلق أمام أنفسنا أبواب التغيير والابتكار. يصبح المجتمع مكانًا لا يتسع للأفكار الجديدة.

كل المجتمعات التي تقدّمت بدأت بالسؤال، لا بالترديد، لأن المجتمعات التي لا تسمح بالسؤال لا يمكنها أن تبتكر، والتي تحاصر العقل لا تنتج إلا نسخًا مكررة من الماضي.

والعالم لا يرحم من لا يتغير.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.