أثناء تأديتي خدمة التربية العسكرية في كلية الآداب جامعة المنصورة سنة 2019، دخل علينا المُقدم المسؤول بشاربٍ يُغطي نصف وجهه، ونظارة شمس تغطي النصف الآخر، ليُلقي مُحاضرة عن أهمية التربية العسكرية والجيش كمصنع للرجال والأبطال. وأثناء المُحاضرة المُمتدة لما يقرب من ساعة، شددنا فيها ظهورنا إلى الخلف، وخلعنا الكابات، واصطفت رؤوسنا الحليقة مُختلفة الأحجام، واحترّت مؤخراتنا اللصيقة بالمقاعد الخشبية. باغتنا المُقدم المُخضرم بسؤال في غاية الأهمية "تعرفوا إيه عن قناة السويس الجديدة وأهميتها؟".
أشار بشكل عشوائي إلى آخر الصف، وقف الطالب المُختار وفي هدوء قال "أنا بصراحة مش شايف فرق، قصدي مفيش أي حاجة ملموسة من المشروع دا". استشرى التهامس بين مئات القمصان الزرقاء، حتى قاطعهم المُقدم الذي لا يكاد فمه يظهر من شاربه "كويس.. أنا باحترم حرية الرأي، هات بطاقتك وكارنية الجامعة وتعالى. أنت ساقط في الدورة دي يا أستاذ عشان تبقى تفهم قبل ما تتكلم".
ثم انطلق السيد المُقدم يُحدثنا عن أهمية قناة السويس والمشاريع الجديدة، بكلام منمق، كالذي تردده وسائل الإعلام التابعة للنظام.
تعد التربية العسكرية مادة أساسية ضمن مواد الدراسة بأي جامعة، واجتياز الدورة بنجاح شرط أساسي للحصول على شهادة التخرج. ورغم قصر مدة الدورة؛ أسبوعان فقط بواقع 8 ساعات يوميًا في حرم الجامعة، إلا أنها تجربة ليست هينة.
دفعتني هذه الواقعة للتساؤل عن الغرض من التربية العسكرية، لماذا يكون عليَّ حتى أحصل على شهادتي أن أُشارك في شيء شبيه إلى حد ما بالحياة العسكرية؟ هل هي صورة من صور عسكرة الدولة؟ أم محاولة ملء فراغ الشباب وشحن عواطفهم بالوطنية "الناشفة"؟
في البدء كانت النكسة
حاولت العودة إلى تاريخ تلك الظاهرة، وكأني أطرح سؤالَ "كيف بدأ الخلق"، وبتكديس أزرار اللابتوب وبحث دؤوب وسبر لأغوار ملفات الإنترنت، وجدت الإجابة على السؤال من خلال أعلم أهل الأرض؛ جوجل.
بدأت التربية العسكرية كتطور لقوات الدفاع الشعبي، حسب موقع قوات الدفاع الشعبي والعسكري، فعقب ثورة يوليو 1952، أصدر اللواء محمد نجيب مرسومًا بتاريخ 25 أكتوبر/تشرين الأول 1953 بتشكيل الحرس الوطني، الذي يتكون من وحدات إقليمية؛ أفرادها مجموعة من المتطوعين بغية حماية المنشآت العامة.
وعقب نكسة يونيو 1967، اشتدت الحاجة إلى وجود جبهة داخلية لتأمين البلاد في حال حدوث اجتياح بري من العدو، خاصة مع إعلان حرب الاستنزاف، إذ أصدر الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر عام 1968 القرار رقم 55، الذي يهدف إلى إنشاء مُنظمات الدفاع الشعبي على أن تتولى بعض المهام في تأمين الجبهة الداخلية وحماية الخطوط الخلفية للقوات المُسلحة.
إلى هنا، يبدو أن الفكرة جاءت من رحِم النكسة والمواجهات الأولى مع إسرائيل، ولو عُدنا إلى ما قبل ذلك، سنجد بوادر لتلك الصورة جليّة وواضحة إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956؛ إذ تصدى أهالي بورسعيد لهجمات العدو وقتذاك.
وفي صيف عام 1971، أصدر الرئيس السادات توجيهاته بتدريس مادة التربية العسكرية لطلاب الجامعات والمدارس.
لكن الجبهة الشعبية لم تأخذ شكلها المَدرسي والجامعي المنهجي الحالي إلا سنة 1973، فحسب موقع جامعة مدينة السادات يعود تاريخ خدمة التربية العسكرية، وليدة الجبهة الشعبية، إلى القانون رقم 46 الذي أقرّه مجلس الشعب في العام نفسه؛ بهدف نشر الوعي العسكري وزرع روح الانتماء والوطنية بين صفوف طلاب الجامعات والمدارس الثانوية.
اجتاز عادل السيد، الذي يبلغ من العمر الآن 67 سنة، دورة التربية العسكرية في مدرسة الثانوية العسكرية بنين إبان حرب 73، ويقول لـ المنصة "كُنا بنصحى من النجمة، نروح المدرسة، نتدّرب على السلاح، ونكون على أتم الاستعداد إن ممكن يحصل أي هجوم علينا، ما إحنا كُنا أيام حرب، فمين اللي هيحمي البلد من جوا؟ أكيد ولادها".
يتذكر عادل الذي عمل مدرسًا للفيزياء في المنصورة "أنتو ماشفتوش حاجة، كنت بروّح البيت على الساعة 6 أو 7 بالليل مش شايف قُدامي من كُتر التمارين، أنام عشان أصحى على السلاح على طول، كانت المعاملة ميري!".
إنتاج مواطن جديد
"يوجد تعاون وإيمان شديد من قِبل المسؤولين عن الجامعات، نتيجة إيمانهم الشديد بدور التربية العسكرية في إضافة التحسينات اللازمة للطالب الذي سننتجه في الأخير ونُقدمه لبلادنا"، صرّح بذلك العقيد أحمد عبد الجواد، في حوار تليفزيوني، مُتحدثًا عن أهداف دورات التربية العسكرية للطلاب الجامعيين، ويبدو أنها توازي نصًا ما يُقال عن حياة الجيش "إنه يصنع الرجال والأبطال!" وكأن من أُعفي من الالتحاق بالجيش فاتته الرجولة!
تعكس كلمة "سننتجه" ما يدور في عقلية القائمين على دورة التربية العسكرية، وتؤكده تجارب الطلاب. يقول محمد العريشي، طالب في كلية الآداب جامعة المنصورة، لـ المنصة "لما كُنت في دورة التربية العسكرية، كان العقيد بيردد دايمًا شعار ديمقراطية الرأي وديكتاتورية التنفيذ، لكن تجربتي بتقول مافيش ديمقراطية، بيسقطوا إللي على مزاجهم".
يُتابع مُحمد "الأمثلة اللي شُفتها كتير، يعني كان لنا زميل في قسم اجتماع اختلف مع العقيد في فكرة مُعينة ليها علاقة بالتوقيت، كان شايف إن المشاريع اللي بتتعمل دلوقتي مش وقتها، فطبعًا العقيد قاله تطلع إيه أنت عشان تعترض على الوقت! وخلاه يعيد الدورة من تاني".
يراودني سؤال فانتازي؛ ماذا لو تاه أحد الفضائيين في مجرتنا، وكان حظه "المنيّل" أن يهبط إلى الأرض، تحديدًا في مصر، وسط ساحة التربية العسكرية بإحدى الكليات، فيمد بصره ليرى الصفوف التي امتلأت بالخرز الأزرق وقد نبتت له رؤوس صلعاء ووجوه مبثورة من موس الحلاقة، ألف شخص بنفس الاسطمبة. فجأة يصرخ عسكري هزيل في ذلك الحشد "انزل ستة! استعد يا مُهزأ أنت وهو.. بسرعة" فيرتمي الجميع على الأرض، وضعية استعداد تمارين "الضغط"، دون حراك أو كلام، أسفل الشمس الحارقة.
أُشفق على هذا الفضائي الزائر من هذا المشهد الهزلي لوجوه ملساء متشابهة تلسعها الشمس، إذ تسعى التربية العسكرية، كما كل النظم الصارمة، إلى إنتاج اسطمبة واحدة مكررة من خلال تعميم المظهر ونبذ كل اختلاف، سواء كان شكلًا أو فعلًا أو قولًا.
تلك النُسخ المُكررة ناتجة في الأساس عن فلسفة عسكرية أُحادية، قائمة في ذاتها على الهيام الجمعي داخل التصور الفردي. أقصد خلق مثال البطل، الجُندي المُقاتل، بصورة وكراكتر مُعينين، فيُغرس في أذهان الطلاب كنموذج للكمال والرجولة.
يُعد كابتن أمريكا أوضح مثال على فلسفة التنميط والهيام الجمعي داخل البطل الفردي التي تتبعها الأنظمة العسكرية باستخدام البروباجندا، كبوسترات الدعاية الأمريكية إبان الحرب العالمية الثانية لتشجيع المواطنين على الانضمام للجيش. كذلك يُعد مسلسل الاختيار بأجزائه الثلاثة مثالًا آخر، لخلق روبوتات مُصغرة من البطل الشعبي ولتمرير أحداث غير مُبررة وقرارات غير مدروسة!
ماكيت الماكيت
في خطاب سابق له قال رئيس الجمهورية "إحنا مش في دولة حقيقية إحنا في أشباه دول". حسب جمال حمدان صاحب كتاب عبقرية المكان، فإن مصر دولة مُتكاملة من ناحية الشكل والحدود والنظام الاقتصادي والسياسي، لكن أيًا من ذلك لا يعمل كما يعمل في الدول الأُخرى. أي أن مصر "عاملة نفسها دولة".
كُل ما يسيطر على التربية العسكرية هو خيال الصورة وفنيّة المشهد، كأن يُبادر العساكر بإجبار الطلاب على أكل اللحوم النيئة كما يحدث في تدريبات الصاعقة بالجيش، واستحضار شبح العدو والجندي البطل، كما في الأغاني العسكرية، وكترديد ملحمة النقراشي، ليُصبح كُلُ مُختلفٍ عدوًا، كما يقول كُزبرة "كلها بقى ليها أخصام.. كلها بقى ليها أعداء.. كلها مافيا وعصابات".
والآن تحت شعار "زرع الانضباط والنشفان والرجولة الجاحدة" أصبح واجبًا على كل المُتقدمين لشغل وظائف حكومية الالتحاق بدورة تأهيل في الأكاديمية العسكرية بالقاهرة لمدة 6 أشهر، ما يبدو أنه محاولة ممنهجة من الدولة لعسكرة كل صغيرة وكبيرة في البلد.
لم تترك التربية العسكرية انضباطًا في أدائي بقدر ما عززت داخلي شعورَ الخوف، الخوف من المُبادرة، والاختلاف في الرأي مع المسؤولين، خشية ردود أفعالهم غير المتوقعة، حتى في وظيفتي، أخشى مُخالفة رئيسي في الشركة، حتى لا أُفصل. ذلك الخوف، غير المُبرر، يُلازمني هنا في مصر، في دولة تسري فيها الروح العسكرية من رأسها إلى أخمص قدمها، فكيف لا أخاف الاختلاف، وكل كلمة محسوبة عليَّ؟