حساب نورهان حسن مصطفى على فيسبوك
أحمد وشقيقته نورهان، 2 يونيو 2024

الفقد وما بعده.. الانتظار القاتل لأسرة زارتها أشباح الإخفاء القسري

منشور الأربعاء 30 أكتوبر 2024

كيف يمكن وصف الحياة داخل جدران معتمة لا ترى من خلالها الشمس؟ أتذكر شعور الكآبة الذي اجتاحني عندما أمضيت أسبوعًا كاملًا في المنزل. ورغم أني كنت من اخترت العزلة، فقد افتقدت دفء شعاع الشمس على بشرتي ونسمة الهواء الرقيقة في الصباح. قبل أشهر قليلة، مررت بتجربة مشابهة، كانت أيضًا باختياري، ومع ذلك، شعرت كما لو أنني سجينة، معزولة عن عالمي الذي اعتدت عليه. وفي تلك اللحظة، خطر ببالي أخي أحمد، وأدركت: كيف يشعر الآن، وهو معزول قسرًا، بعيدًا عن عائلته ودفء حبهم.

تتساءل نفسي: هل يعرف شيئًا عن كل ما تغيَّر خلال هذه السنوات؟ هل وصل إلى مسامعه ما جرى؟ كيف حاله الآن؟ هل الشوق إلينا يمزق قلبه كما يمزق قلبي؟

أحيانًا، أحاول أن أتخيل أخي النشيط، الذي لا يهدأ، دائم الحركة والتنقل، يساعد هذا، ويتحدث مع ذاك، يحضر التدريبات، ويلتقي بأصدقائه. كيف يمضي يومه الآن وهو مكبّل اليدين، معصوب العينين، جالس في مكانه لساعات وأيام دون حركة؟ مجرد التفكير في وضعه يخنقني. كيف يتحمل كل هذا؟

تذكرت مقطعًا من رواية يا صاحبي السجن للكاتب أيمن العتوم. يتحدث فيها عن السجن والتعذيب النفسي، وكيف أن العزلة وأهوال الاختفاء قد يكونا أشد قسوة من تعذيب الجسد. أن تفقد إحساسك بالزمان والمكان، أن تحاول مقاومة شعور العزلة حتى تصبح أنت والعزلة أصدقاء، لكنها صداقة باردة تخفي وراءها ألمًا يتصاعد بداخلك، شعورًا بالفقد يتكرر مع كل لحظة تمر.

أحمد حسن مصطفى، 14 سبتمبر 2024

لكننا لسنا وحدنا في هذه الرحلة القاسية. فهناك المئات وربما الآلاف ممن اختفوا قسرًا في مصر منذ 2013، لم تجد الأمم المتحدة بُدًّا من سؤال مصر عن مصيرهم. هؤلاء المختفون ليسوا مجرد أرقام. خلف كل حالة قصة، وحياة، وعائلة تعيش في انتظار مرير مثلنا، تبحث في كل يوم عن إجابة… عن أمل. هذه الأرقام لا تشمل سوى الحالات التي تم توثيقها، وربما هناك العديد ممن لم يُسمع عنهم بعد. فكل عائلة، مثلنا، تعيش وجعها الخاص وسط صمت لا يرحم.

أسأل نفسي مرارًا: هل عاش أخي كل هذا؟ هل مرَّ بتلك اللحظات التي يتلاشى فيها الأمل؟ هل فقد رغبته في الحياة؟ هل اختبر اليأس كما يصفه الأدباء حين يصبح الموت أمنية؟

لا أستطيع تحمُّل فكرة أن أخي الصغير الذي كان بالنسبة لي أعز من الجميع، يمر بكل هذه المعاناة. نعم، هو صغيري مع فارق العمر بيننا. كان دائمًا حالةً استثنائيةً في حياتي، ومنذ صغره، كان جزءًا مني. لا أحتمل مرارة التفكير في ما قد يمر به.

أعلم أن التعذيب النفسي له طرق لا تُحتمل، وربما أكثرها قسوة أن تُقطع عن عالمك، أن يقال لك إن عائلتك قد فقدت الأمل في عودتك، وإنك وحيد في هذه الدنيا. هذا الألم ليس فقط شعوري، بل شعور كل من فقد عزيزًا في ظروف مماثلة. تكرار هذه الأفكار يثقل عليّ في بعض الأوقات، ويبدو كأنه جزء من رحلة الفقد المستمرة.

ومع ذلك، ليس هذا هو الأسوأ. تخيَّل أن يُقال له إنك قد أُعلنت ميتًا، وأن الحياة استمرت من دونك. كيف يمكن لأحد أن يتحمل سماع مثل هذه الكلمات؟

تعود إليّ ذكريات من الروايات التي قرأتها عن السجون والاختفاء، رغم أنني قرأتها قبل أن يُقبض على أخي. كانت تبكيني آنذاك، لكن الآن، كل كلمة تتردد في ذهني بحرقة مضاعفة. مضت خمس سنوات ونصف منذ اختفائه. خمس سنوات مليئة بالأحداث التي كان يجب أن يكون جزءًا منها، لكنه لم يكن. كان من المفترض أن يتخرج الآن، أن يصبح محاميًا كما خططنا. كان يجب أن يكون حاضرًا في زفاف شقيقتنا، أو يرافقني في أولى سفرياتي.

لا تنتهي رحلتنا عند الفقد لكنها تتعمق أكثر

وأتساءل: هل يفكر في كل هذا كما أفعل؟ هل يقول لنفسه: لو كنت هنا، لكان هذا قد حدث؟

أما نحن هنا، فنعاني انتظارًا آخر. أذكر أول مرة قال لي أحدهم؛ "للأسف يا نور، لا يمكننا إطلاق حملة للمطالبة بالكشف عن أخيك. إنه ليس شخصية معروفة أو ناشطًا حقوقيًا". شعرت في تلك اللحظة بمرارة إضافية، وكأنني فقدته مرتين. بكيت، وأنا أشعر بالهزيمة. كيف لي، وأنا المحامية التي تعرف القانون وتدافع عن الحقوق، أن أجد نفسي عاجزة عن حماية أخي؟ إذا كنت أعاني أنا، فما حال الأسر البسيطة التي لا تجد من يسمع صوتها؟

خلال هذه السنوات الخمس، طرقت كل باب ممكن. البعض أنكر حتى اختفاءه، والبعض الآخر شكك في روايتي، بينما تلقى آخرون شكواي كجزء من إجراءات روتينية. قلة فقط تعاطفوا، والباقون قدموا ردودًا مبهمةً. لم نحصل سوى على الصمت.

الصمت هو ما يواجهنا، كما يواجه كل عائلة عانت من فقدان أحبائها. بعض النساء ولدن أطفالهن أثناء رحلة البحث عن أزواجهن، وبعضهن مضى العمر دون أن يتحقق حلمهن باللقاء. ومع ذلك، يبقى الأمل بالله هو الشيء الوحيد الذي يُبقينا على قيد الحياة، الشيء الذي يمدّنا بالصبر والقوة لمواصلة البحث.

لا تنتهي رحلتنا عند الفقد، بل تتعمق أكثر. كل عائلة تسير في مسار مشابه، تبحث عن الإجابات نفسها: أين فلان؟ هل لا يزال حيًا؟ هل رآه أحد؟ هل سُمِع اسمُه في مكان ما؟ تنتقل هذه الأسئلة من فم إلى فم، لكن الإجابات ضبابية ومؤلمة. البعض يحصل على رسائل صغيرة من أولئك الذين قضوا أشهرًا أو سنوات مع أحبائهم في السجن. أما أنا، فقد وصلني شيء واحد فقط خلال خمس سنوات ونصف. معلومة واحدة عن أحمد أبلغني بها أحد المخفيين قسريًا التقيته صدفة في نيابة أمن الدولة، طمأنني أنه لا يزال على قيد الحياة.

هل تكفي تلك المعلومة كل أسئلتي؟ بالطبع لا. لكنها تبقي الأمل حيًا في قلبي، كما في قلوب الكثيرين مثلي.

أحيانًا أفتح نافذة غرفتي ليلًا، وأتأمل السماء الممتدة. في تلك اللحظات، أبحث عن نجم بعيد يتوهج في ظلمة الليل. أفكر في أن هذا النجم، رغم أنه يبدو صغيرًا، قد استغرق سنوات ضوئية ليصل إلينا، ولا يزال ينبض بالحياة في البعد الشاسع. ربما يشبه الأمل الذي أحمله في قلبي. ربما هو الأمل الذي يُبقي أخي على قيد الحياة أيضًا، رغم الصمت، رغم الظلام.

نعم، الصمت قاسٍ، والفقد أشد قسوة. لكن بين كل هذا، يبقى بصيص من نور. ربما سيأتي اليوم الذي نعرف فيه الحقيقة، الذي يعود فيه من نحب. حتى ذلك الحين، سأظل أبحث عن نجمي البعيد.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.