كان صباح الأول من أبريل/نيسان 2019 عاديًا في حياة أحمد حسن مصطفى، وأسرته، لكن خاتمته لم تكن كذلك، فاليوم الذي بدأ بحديث ودي ومناكفة بين الأخ وشقيقته انتهى بمأساة.
في ذلك النهار توجه كلٌ إلى عمله، وبقي أحمد، الذي لم يكمل بعد عامه التاسع عشر، وشقيقته نورهان المحامية، التي استيقظت على صوت شخصية لوفي من مسلسل الكرتون الشهير ون بيس أحد المسلسلات المفضلة لدى أخيها.
تقول لـ المنصة "هزرت معه وقلت له مش هتكبر أبدًا، وبدأت أناكفه كالعادة وأشرب من قهوته التي يحبها باللبن مع سكر زيادة، وسألته: رايح فين؟ قال لي: عندي كورس جرافيك، واتفقت معاه نتقابل عند صديق مشترك".
أسرع أحمد ليلحق بموعد الكورس لإتقان فنون الجرافيك التي يأمل أن يستخدمها في تحسين جودة الصور التي يلتقطها بكاميرا يستعيرها من شقيقه محمد، لكنه لم يلتق شقيقته عند الصديق المشترك ولم يعد إلى الشقة.
بدأ القلق يتسرب إلى الأسرة بعد تأخر عودة أحمد، على غير عادته، خاصة أن هاتفه بقي مغلقًا لفترة طويلة، "الطبيعي لما كان تليفونه بيفصل، كان بيتصل من تليفون أي حد من أصحابه ويطمنا عليه لأنه كان عارف إن أمي بتقلق بسرعة فكان حريص إنه يطمئنها".
كتب أفراد الأسرة على حساباتهم على فيسبوك عن تغيب أحمد، وطلبوا المساعدة في البحث عنه، فتحرك أصدقاؤه ومعارفه، وعرفوا أنه لم يحضر الكورس في هذا اليوم.
زاد القلق وبدأ أفراد من الأسرة ف السؤال عنه بأقسام الشرطة والمستشفيات المجاورة، لمحل السكن في حي المقطم بالقاهرة، لكن لم يتوصلوا إلى أي معلومة، ثم عرفوا أن رجال أمن في أزياء مدنية أوقفوه في الشارع الذي يوجد به محل سكنه واصطحبوه معهم.
تضيف نورهان "توجه والدي أستاذ الفلسفة إلى قسم الشرطة لتحرير محضر بالواقعة، لكن ضباط القسم رفضوا".
ولأن نورهان محامية لم تستسلم وقدمت بلاغات وتلغرافات إلى النائب العام ووزارة الداخلية بعد أن رفض قسم شرطة المقطم تحرير محضر بالواقعة.
وعقب حادث الاختفاء الغامض بشهر واحد أخبر أحد المحامين الأسرة بأن نجلها موجود في قسم شرطة مدينة نصر ثانٍ، "لكن عند توجهي للقسم أنكروا وجوده بعد أن طلبوا الانتظار لمدة 15 دقيقة".
فُوجئت بجثة مجهولة الملامح وطُلب منها التعرف عليها
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2019 توجهت الأسرة إلى مجلس الدولة وأقامت دعوى لإلزام الداخلية بالكشف عن مصير أحمد، وفي 1 فبراير/شباط 2020، رد محامي الدولة بمذكرة أوضح فيها أن أحمد ليس مودعًا في أي من السجون أو مطلوبًا على ذمة قضية، وفي 14 مارس/آذار من العام نفسه صدر حكم بوقف القرار السلبي بالامتناع عن الإفصاح عن مكان أحمد.
بعد حكم مجلس الدولة رقم 5811 لسنة 74 ق، تلقت أسرة أحمد إخطارًا من القسم للحضور وتحرير محضر باختفائه تنفيذًا للحكم، لكن لم يغير ذلك في الواقع شيئًا. وزادت صعوبة الأيام على الأسرة إلا أن أصعبها على الإطلاق كان يوم 29 يوليو/تموز 2020، حين تلقت نورهان اتصالًا هاتفيًا من قسم شرطة الشروق يطلب منها الحضور فورًا.
في البداية توقعت أن يكون شقيقها محتجزًا لديهم، لكن عند وصولها "فوجئت بجثة مجهولة الملامح، وطُلب مني التعرف عليها لمعرفة ما إذا كانت تعود لشقيقي أم لا. كما تم استدعاء والدي لأخذ عينة DNA".
لم تتطابق العينات لكن المأساة استمرت، فخاضت الأسرة مسارًا وديًا للسؤال عن مكان نجلها، ووسطت عددًا من السياسيين والنواب الذين كان لهم دور في الإفراج عن محبوسين احتياطيًا، أبرزهم محمد أنور السادات، رئيس حزب التنمية والإصلاح، وتقدموا بشكاوى واستغاثات إلى المجلس القومي لحقوق الإنسان، وأعضاء في لجنة العفو الرئاسي ومجلس الوزراء ولم يتلقوا أي رد.
اختبرت الأسرة مرارة اختفاء أحد أفرادها من قبل، في أبريل أيضًا لكن في عام 2016، حين شارك محمد الشقيق الأكبر لأحمد في تظاهرات تعارض تنازل مصر عن جزيرتي تيران وصنافير، لكن أفرج عنه عقب أشهر قليلة، ومنذ ذلك الحين بالغ الوالدان في تحذير أفراد الأسرة من عواقب التورط في أي عمل سياسي، وقتها كان أحمد في السادسة عشرة من عمره، واتقاءً للانخراط في أي نشاط سياسي رحب والده بتوجيه طاقته إلى العمل الخيري التطوعي، فالتحق بجمعية رسالة للأعمال الخيرية.
تغلي الأسئلة في رؤوس أفراد الأسرة عن أسباب الإخفاء القسري لأحمد الشاب الذي يهوى التصوير ويدرس الحقوق ويوجه طاقته للعمل الخيري، ولا يكتب على فيسبوك أي كلام يعبر عن توجه سياسي أو امتعاض من النظام أو تململ من أداء الحكومة، وجميعها أسباب وإن كانت واهية ومخالفة للدستور فإنها كانت ذريعة استخدمها الأمن لتوقيف مواطنين أو إخفائهم قسريًا.
قبل أيام ظهرت وجيدة إسماعيل، والدة أحمد في فيديو على فيسبوك وهي تحسب عدد الأيام التي اختفى فيها أحمد "1997 يوم بعد كام يوم هيكون 2000 يوم على ابني وهو مختفي، مرت أيام وسنين وأعياد ومناسبات وأنا معرفش حاجة عن ابني"، وتضيف "عمري ما تخيلت إني أكون في الموقف ده أو أعمل فيديو زي ده".
تحمل الأم صورة أحمد طول الفيديو، وترفعها على شاشة وتقول "ده أحمد زي ما انتم شايفين منتهى الطيبة والأخلاق والكل بيشكر فيه، عمره ما عمل حاجة وحشة، ومن ساعة ما اتقبض عليه وأنا معرفش عنه أي حاجة".
أحمد هو الأخ الأصغر بين 4 إخوة (محمد ونورهان وأميرة)، من مواليد 16 أغسطس 2000، يعني أنه لم يكن قد أتم عامه الـ18 يوم القبض عليه، وقتها كان طالبًا في الفرقة الأولى بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، وحصل على تقدير جيد جدًا في الفصل الدراسي الأول، وحاليًا عمر أحمد 24 عامًا، تخرج زملاؤه من الجامعة وبدأوا حياتهم العملية، بينما أسرة أحمد لا تزال تبحث عنه.
رغم صغر سنه وقت القبض عليه فإنه كان يعرف "داخلة كل واحد فينا، يعني أنا لما أزعل من حاجة عارف أني بحب الورد والشوكولاتة، فكنت أصحي آلاقيه جايب لي ورد ويحضني بقوة ويطبطب علي، ولما كانت أميرة تزعل يجيب لها شاورما ويفاجئها".
تقاوم نورهان طول فترة غياب شقيقها بالحكي عنه كثيرًا، وتتذكر تفاصيل الأشياء التي كان يحبها، تحكي أنه كان يحب حلوى المشبك جدًا والملبن بعين الجمل والشوكولاتة بالبندق والفولية، وفي العيد كان "يصحى بدري وأول واحد يجهز، ونروح نصلي العيد، وبعدين نشرب عصير قصب، وبعدها نروح ناكل شاورما فراخ، في الشتاء، كان بيحب ياكل محشي كرنب اللي أمي بتعمله ومكرونة بشاميل".
نفسي حد يطمن قلبي عليه
يبدو من حديث نورهان عن شقيقها أنه شاب عادي لم يتخل بعد عن عادة قراءة مجلة ميكي، وسلسلة المغامرون الخمسة وما وراء الطبيعة، ومشاهدة أفلام الكرتون والأنمي، يعشق كرة القدم مثل غالبية المصريين وسبق له أن كان حارس مرمى في أحد فرق الناشئين بنادي السكة الحديد العريق.
شاب مصري عادي يحب الحيوانات ويجرب التصوير ويتعلم الجرافيك ويسمع أغاني فيروز وحمزة نمرة، و"لما كان يتضايق يحب ينزل يمشي وهو حاطط السماعات ويروح يقعد على كورنيش المقطم".
لا تريد نورهان وأسرتها أن يتحول أحمد إلى مجرد رقم في تقرير عن المخفيّن قسريًا، وأن يكون واحدًا من 4 آلاف شخص سألت لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة، مصر، عن إخفائهم قسريًا في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
تقول إنها طرقت مع أسرتها كل الأبواب، وسلكوا كل الطرق لكن لم يصلوا إلى أي شيء يطفئ نار الحيرة ويمحو من مخيلتهم أي سيناريوهات مأساوية تتعلق بمصير شقيقها، ورغم ذلك فإن الأسرة لا تزال متمسكة بأمل العثور عليه.
ولعل بكاء الأم في الفيديو الذي نشرته شقيقته على فيسبوك ومناشدتها المسؤولين وأي شخص بإمكانه المساعدة التحرك لكشف مصير نجلها وأمنيتها المشروعة "نفسي حد يطمن قلبي عليه"، أن يكون سببًا في نجاة أحمد من ظلمة الغياب مجهول السبب أو الوجهة.