تصوير يوسف عقيل، المنصة
المترجم والمحرر رفائيل إسحاق في مقر المنصة في القاهرة، 5 أكتوبر 2025

رفائيل كوهين: المترجم الذي اختار الوقوف على خط النار

منشور الأحد 5 تشرين الأول/أكتوبر 2025

في ربيع عام 2003، تحت سماء رفح الفلسطينية الممزقة بالدخان والغبار، صرخ رجلٌ ممسكًا بهاتف متصل بالأقمار الصناعية؛ "قولوا لإسرائيل أن توقف إطلاق النار! لا أنه لم يكن في خط النار! لقد كان يرتدي سترةً فسفوريةً!".

كان الرجلُ يقف على بُعد أمتارٍ قليلةٍ من الشاب البريطاني توم هيرندال، ابن الحادية والعشرين، الذي سقط برصاصة قناص إسرائيلي أصابت رأسه وأدخلته في غيبوبة طويلة بينما كان يحاول إخراج أطفال فلسطينيين من وسط طلقات الرصاص الإسرائيلية.

الرجل الصارخ كان رفائيل كوهين، المترجم والناشط البريطاني الأعزل؛ جاء إلى غزة في هذا الوقت البعيد لا ليحارب بل ليتضامن ويرصد.. ليحكي لعالم أعمى، علّه يرى.

"كان من الممكن أن أكون أنا"، قال لي راف، كما نُسمّيه في المنصة، حين سألته عمّا حدث يومها. "كان توم على بُعد أمتار مني حين أُصيب. في مارس/آذار وأبريل/نيسان 2003 مات كثير من الفلسطينيين وثلاثة أجانب. كنّا نأمل ساذجين وقتها أن تغيّر دماؤهم شيئًا".

وقتها كان رفائيل عضوًا في حركة التضامن العالمية/ISM، وهي حركة فلسطينية لمقاومة الاحتلال بوسائل سلمية، يشارك فيها متطوعون دوليون يرافقون المزارعين الفلسطينيين وهم يعبرون الحواجز الإسرائيلية، ويوثّقون الانتهاكات، ويقفون بأجسادهم بين البيوت والجرافات.

انضم راف إلى الحركة وسافر إلى الضفة وبعد ذلك إلى غزة، "تضامنًا مع الفلسطينيين، ولأشهد على ما يحدث وأنقله إلى العالم. لم يكن الأمر عني أو عن هويتي. كانت فلسطين هي الأصل كما هي الحال اليوم".

لكن الرجل الذي واجه الجهل والغباء أكثر من مرة حين اتهمه البعض بأنه "صهيوني" و"جاسوس"، تبدأ قصتُه قبل ذلك بسنواتٍ طويلةٍ، وبعيدًا جدًا عن رفح.

تنميطٌ وصبرٌ نبيل

وُلد رفائيل كوهين عام 1965 في مدينة برايتون جنوب لندن، لأم سويسرية وأب فلسطيني يهودي من حيفا يعمل محاميًا يدافع عن الفلسطينيين مسلمين وومسيحيين ويهود أمام المحاكم حتى قامت دولة إسرائيل، فقرر مغادرة البلاد إلى الهند ثم سويسرا ووصل بريطانيا أواخر الخمسينيات.

"كانت أمي تتحدث الألمانية السويسرية، وكان أبي، المولود تحت الحكم العثماني في حيفا، يتنقل بين آيات من التوراة بالعبرية، وآيات من القرآن بالعربية، ومقاطع من الأدب الفرنسي". هكذا عرف راف أباه؛ يهودي لا يعترف بإسرائيل ولا يرى حيفا سوى جزء مما يجب أن يكون؛ دولة واحدة لكل مواطنيها من يهود ومسيحيين ومسلمين.. دولة فلسطينية واحدة.

كانت علاقته بمصر تنميطًا من جانبها وصبرًا نبيلًا من جانبه

في هذا البيت الذي تتداخل فيه اللغات والثقافات، نشأ رفائيل على رؤية العالم واللغة لا حاجزًا بين الشعوب، بل جسر بينها.

"كنت أزور إسرائيل لأسباب عائلية ودينية. رأيت نفسي يهوديًا غير صهيوني. أدركت أن هناك شعبين، لكني بطريقة ما كنت أنتمي إلى كليهما"، هكذا نظر إلى نفسه في البدايةِ، غير أن هذا التوازن الهش انهار مع حرب الخليج الأولى.

"بين عامي 1990 و1991 كنتُ في شيكاغو ونشطت في التظاهرات التي عمّت أمريكا ضد الحرب على العراق. هناك أدركت أن الحياد في مواجهة الظلم خيانة".

درس كوهين اللغات الشرقية في جامعة أكسفورد، فأتقن العبرية الكلاسيكية والعربية الحديثة، ثم حصل على "زمالة القرن" في جامعة شيكاغو، حيث تتلمذ على يد المترجم المصري المعروف فاروق عبد الوهاب والأكاديمي الأمريكي ذي الأصول الأوكرانية ياروسلاف شتتكيفيتش. تعلم منهما أن النصوص العربية ليست ألغازًا لغويةً تُفكّ، بل عوالم حيّة تُسكن وتُحس.

بعد خمس سنوات في الجامعة، أدرك كوهين أن الحياة الأكاديمية ليست طريقه.

أول زيارة لرفائيل إلى القاهرة كانت عام 1987 لتعلّم العربية، وعاد إليها أوائل التسعينيات ليعمل محررًا ومترجمًا في صحيفة الأهرام ويكلي التى كان يرأس تحريرها وقتها الراحل حسني الجندي. في تلك السنوات المشبعة بأوهام "سلام-ما-بعد-أوسلو"، نشر راف ترجماته الأولى لشعراء مصريين مثل أمل دنقل وأحمد طه، مرددًا مع أصواتهم المُحمَّلة غضبًا ورفضًا: لا تصالح!

غير أن الاسم "كوهين" لم يمر في مصر دون ريبة.

عَلمت عبلة الرويني، الناقدة وزوجة الراحل أمل دنقل، أن مترجمًا يحمل اسم كوهين سينقل أشعار زوجها إلى الإنجليزية. استجوبته طويلًا حتى تأكدت أنه ليس إسرائيليًا ولا صهيونيًا، ثم وافقتْ على منحه الإذن بالترجمة بشرطٍ مكتوبٍ؛ ألا تُنشر الترجمة في إسرائيل أو أي مكان مناصر لها.

تلك الواقعةُ تختصر علاقته بمصر؛ تنميط من جانبها، وصبرٌ نبيلٌ من جانبه.

في عام 1994، كان راف في عمله بالأهرام عندما تلقى اتصالًا من لندن يخبره بمرض والده ثم بوفاته، فعاد إلى بلاده. لم يحتجزه أحد، ولم يُرحّل كما ادعت جريدة الأحرار بعدها بعامين في "سبق صحفي" أصفر تلقفته صحيفة الحياة اللندنية وهي تنسج عام 1997 حكاية "ترحيل المترجم الصهيوني المشبوه الذي زرعته إسرائيل وسط المثقفين المصريين" دون تدقيق. فرفع رفائيل دعوى قضائية ضدها أمام المحكمة العليا في لندن، وكسبها.

في أواخر التسعينيات، زادت قسوة متطلبات الحياة اليومية. فبعد مولد طفله الأول عام 1998، ترك كوهين مهنة الترجمة الحرة التي لا تكفل استقرارًا، وعمل مبرمج كمبيوتر ومساعد محامٍ في قضايا الجنايات، لكن فلسطين لم تغب عن قلبه.

مثقل بالحزن.. مليء بالثبات

المترجم والمحرر رفائيل إسحاق في مقر المنصة في القاهرة، 5 أكتوبر 2025

في أكتوبر/تشرين الأول 2002، سافر كوهين إلى الضفة الغربية للمشاركة في موسم حصاد الزيتون لمدة أربعة أسابيع صور خلالها فيلمًا وثائقيًا عن معاناة المزارعين الفلسطينيين على الحواجز الإسرائيلية، عُرض لاحقًا في الجامعة الأمريكية بالقاهرة.

"قبل ذهابي إلى الضفة، جلستُ على مقعد في حديقة بلندن وفكرت أنني ذاهب لمواجهة دولة وجيش. أدركت أنني قد أموت، وبكيت. لم أبكِ مرة أخرى... إلا أثناء الإبادة الحالية في غزة".

ثم جاء مارس 2003، حيث قُتلت راشيل كوري تحت جرافة إسرائيلية في رفح.

"بعد مقتل راشيل، اتصل بي أصدقاء من رفح من الحركة الدولية للتضامن/ISM وطلبوا مني العودة. ذهبت وبقيت هناك ثلاثة أسابيع. استُجوبت عند خروجي. حاولت العودة بعد شهرين، لكن الإسرائيليين منعوني من الدخول".

عاد إلى القاهرة مثقلًا بالحزن لكنه أيضًا مليء بالثبات.

بعد رجوعه إلى بريطانيا في صيف العام نفسه، واصل راف نشاطه مع مجموعة ISM-لندن، فدرّب عشرات المتطوعين للسفر إلى فلسطين، وشارك في حملات Smash EDO ضد تجارة السلاح التي سبقت حركة Palestine Action ومهدت لها، كما شارك في حملة "العدالة لتوم هارندال" للمطالبة بحق صديقه الذي قتلته إسرائيل أمام عينيه في رفح.

لكن تضامنه لم يقتصر على الشوارع، بل امتد إلى بيته.

"لأنني كنت أتحدث العربية، استضفت أنا وأمي أسامة قشوع وعمر الطيطي (شقيق الفدائي جهاد الطيطي من كتائب شهداء الأقصى) ومحمد قشطة عندما وصلوا إلى لندن" في الشقة الصغيرة بحي نوربري/Norbury، التي تحوّلت مؤقتًا إلى ملجأ للفلسطينيين الفارين من الاحتلال.

كان أسامة قشوع آنذاك شابًا فلسطينيًا هاربًا من الضفة الغربية، وأصبح لاحقًا مخرجًا وناشطًا بارزًا، أسس بيت فلسطين في لندن وأطلق Gaza Cola لتمويل الإغاثة في غزة.

في مطبخ كوهين الصغير، وعلى فنجان شاي في المساء، تلاقى المنفيون واللاجئون، وتكونت "خلية" تضامن صامتة، لكنها أعمق من أي شعار.

في عام 2006، قرر كوهين محاولة العودة إلى فلسطين ومواصلة نشاطه السياسي من هناك، "احتُجزت في مطار تل أبيب أربعة أيام. عرضوا علي أن أزودهم بمعلومات عن ISM-لندن مقابل السماح لي بالدخول. رفضت بالطبع. فوضعوني على متن طائرة إلى لندن، وبعد شهر عدت إلى القاهرة"، التي أصبحت منذ ذلك موطنه الدائم. عمل سنوات مع دار إلياس، أقدم ناشر للمعاجم في مصر، قبل أن يتفرغ تمامًا للترجمة الأدبية.

حين أطلقت المنصة نسختها الإنجليزية هذا العام كان رفائيل ضمن فريق التأسيس

ترجم رفائيل أعمالًا لأسماء عربية لامعة منها أحلام مستغانمي ذاكرة الجسد، جورج يارك حارس الموتى، أحمد مرسي قصائد الإسكندرية ونيويورك، منى برنس إني أحدثك لترى، محمود محارب الوكالة اليهودية وسوريا أثناء الثورة العربية في فلسطين، وعناوين أخرى كثيرة.

ربما تعب من ثقل الاسم وسهولة التنميط، فصار يستخدم اسم رفائيل إسحاق وهو ما لاحظته على ترجمته لمذكرات المناضل المصري الراحل سعد زهران الصادرة عن دار المحروسة. "اسمي الكامل رفائيل إسحاق موشي كوهين. حين استخدمت منصات الترجمة اسم 'رفائيل إسحاق' تواصلت معهم للاستفسار لكنى لم أعترض ولم أتوقف كثيرًا عند الأمر. في مصر، هذا أقل التباسًا... لأنني حتى لم أعد يهوديًا".

لا ثنائيات سهلة

في عام 2008، نشرت صحيفة Jewish Chronicle البريطانية خطابًا زعم أن كوهين "آوى انتحاريين" قبل تفجير تل أبيب الذي أودى بحياة 3 أشخاص وأصاب 50 في أبريل 2003، حين كان في الضفة الغربية. لكن المحكمة العليا في لندن أثبتت أن اللقاء كان عابرًا في مراسم تأبين قبل التفجير بخمسة أيام، وأنه لم يعرفهما من قبل. اعترفت الصحيفة بأن الادعاء كاذب، واعتذرت علنًا، ودفعت لراف تعويضات قدرها 30 ألف جنيه إسترليني مع تحمل كامل النفقات القانونية. 

تبرع راف بمعظم المبلغ لمؤسسات تدعم فلسطين، محوّلًا كعادته الافتراء والإيذاء إلى تضامن.

على مدار سنوات، تعاون رفائيل مع المنصة في ترجمة العديد من الموضوعات الصحفية، وحين أطلقت المنصة نسختها الإنجليزية هذا العام، كان ضمن فريق التأسيس.

وقبل أيام، أعلنت الجامعة الأمريكية بالقاهرة اختياره عضوًا في لجنة جائزة نجيب محفوظ للأدب، فاندلعت حملة صحافة صفراء تتهمه بالصهيونية والتجسس. كانت المفارقة عبثية؛ رجل خاطر بحياته في غزة والضفة من أجل الفلسطينيين، يُتهم بأنه عدوهم!

"لماذا هذا الهجوم الآن؟" يتساءل راف "يبدو أن كل سُبل المقاومة الحقيقية في مصر قد أُغلقت، فهل هناك أفضل من هذه الزوبعة لصرف الأنظار عما يجري فعلًا؟".

حين تحدثنا هاتفيًا بدا صوته متعبًا، لكن كالعادة لا أثر فيه للاستسلام.. طلب منى ألَّا أكتب شيئًا "المهم الآن هو غزة.. غزة هي القضية وهي التى تستحق أن نتكلم عنها ليل نهار لا أنا".

حياته كلها كانت رفضًا للثنائيات السهلة؛ يهودي أو عربي، شرقي أو غربي، مترجم أو مقاوم. يحمل كل تلك الهويات في ذاته، لكنه يرفض أن يُختزل في أي منها.

الآن تجاوز رفائيل كوهين الستين. سألته يومًا ونحن نتابع الأخبار: لو فُتح معبر رفح أمام المتطوعين للذهاب إلى غزة، هل تعتقد أن أحدًا سيذهب؟ أجاب بصوته الهادئ كالعادة أنا سأذهب. "لكنّك في الستين!" قلت له مداعبة "أما آن الأوان أن تعترف بأنك صرت كهلًا؟"

"سأذهب، حتى لو كان ذلك آخر ما أفعله في حياتي".