"لو غابت عن عيني بحس بخوف مفاجئ، لكن بحاول ما اتصرفش بشكل يرعبها أو يخليها ما تعيش طفولتها وحريتها"، تراود سارة سالم هذه الأفكار كل يوم وهي تودّع طفلتها على باب المدرسة، محاصرة بهواجس ورثتها عن تجربتها الخاصة؛ إذ تعرضت لاعتداء جنسي من أحد أقاربها وهي طفلة.
يزيد من هواجس سارة، التي تعمل صحفية، ما تقوله الأرقام والإحصاءات حول انتشار حوادث الاعتداء على الأطفال، إذ تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن هناك حوالي مليار طفل أعمارهم بين عامين و17 سنة تعرضوا للعنف الجسدي أو الجنسي أو العاطفي خلال عام 2015 وحده، حسب دراسة منشورة.
وتحدد بيانات مركز تقييم الأطفال، وهو مركز أمريكي للدفاع عن الأطفال ضحايا الاعتداءات الجنسية، العمر الأكثر عرضةً للتحرش بين الأطفال بأنه بين الـ7 و13 عامًا، ويبلغ متوسط جرائم الاعتداء الجنسي على الأطفال في سن التاسعة ذروته.
الطفل الذي تعرض للتحرش، عندما يصبح أبًا/أمًا يكون هاجسه الكبير كيف أحمي طفلي؟ مدفوعًا بخوف مبالغ فيه من مروره بالتجربة ذاتها، خاصة إذا لم يكن تلقى بعدها دعمًا نفسيًا. تقول سارة لـ المنصة "أفكار وحشة كتير بتيجي على بالي، لكن بقاومها".
أن تدعم بقلبك
أما أفكار يوسف، التي تعمل في المؤسسة المصرية للنهوض بأوضاع الطفولة/EFAAC، فتغيرت نظرتها بعد سنوات عملها عن قرب مع الأطفال، لتصبح "شديدة الملاحظة لأي تغيير" يتعلق بأبنائها وأحفادها.
تقابل أفكار يوميًا أطفالًا تعرضوا للانتهاك النفسي والجسدي، ما أكسبها حساسية زائدة لدائرة الخطر المحيطة بهم. قضت أفكار 12 سنة في المؤسسة، جعلتها تتعاطف مع الأطفال وأمهاتهم، "مش حالات، دول بني آدمين" تقول لـ المنصة.
كما ساهمت التجارب التي عايشتها في زيادة اهتمامها بحفيدتيها، "بسألهم كتير عن أحوالهم وخروجاتهم وأصدقائهم وعلاقاتهم بمدرسيهم ومدربيهم".
تتكفل المؤسسة بعلاج الأطفال الذين تعرضوا للتحرش الجنسي جسديًا ونفسيًا في حال لجوء الأهل إليهم، أو في حالات أطفال الشوارع التي تسعى المؤسسة إلى إعادة تأهليهم. وهم الفئة الأكثر تعرضًا للتحرش، حسب أفكار.
الاعتداء جريمة
تواجه سارة صعوبات في تربية ابنتها ذات الـ11 سنة، فهي أم عزباء/مطلقة، تحاول الإجابة على أسئلة يفرضها الواقع من نوعية؛ كيف تتصرف إذا ما سمعت من طفلتها أنها تعرضت للمس أو التصوير أو الاغتصاب؟ أو إذا ما شعرت بتهديد أو مضايقة حدثت لابنتها؟ ما يجعلنا نصل للسؤال الأهم لماذا يتعرض الأطفال للاعتداء؟
يجيب طلال فيصل استشاري الطب النفسي بجامعة ماربورج بألمانيا، الذي يُعرّف "البيدوفيليا" بأنها مرض اشتهاء الذكور والإناث جنسيًا قبل سن البلوغ.
ويوضح طلال لـ المنصة "من المهم التفرقة بين الاعتداء الجنسي الذي يقع على الطفل وبين مشكلة الاشتهاء والرغبة بدون أي تعدٍ. الاشتهاء هو مجرد انحراف، لا يعتبر جريمة، وإنما مرض يستلزم العلاج، بعكس الاعتداء".
ويضيف طلال أن أشكال الاعتداء الجنسي على الأطفال تختلف "بين تتبع ومراقبة الطفل، ومحاولة التقرب منه وتهديده، ومشاهدة أفلام وصور إباحية لأطفال، وتصويرهم أيضًا، وبالطبع اللمس والاعتداء الجسدي المباشر، كل هذا يعتبر جرائم يُحاسب عليها القانون".
تنص المادتان 268 و269 من قانون العقوبات على أن كل من هتك عرض طفل (أي لمس جسده) عمره أقل من 18 سنة، يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن 7 سنوات، وتشدد العقوبة في حالة إذا كان الفاعل من أقارب المجني عليه أو المتولين تربيته، أو ممن لهم سلطان عليه، أو في حالة تعدد مرتكبي الجريمة، وإذا اجتمع الأمران تصل العقوبة إلى المؤبد، وفقًا للقانون المصري.
لا يمنح اعتبار "البيدوفيليا" مرضًا نفسيًا حصانةً لأصحابه يقول طلال فيصل "أغلب مرضى البيدوفيليا محتفظين بأهليتهم، وأيضًا أغلب حالات الاعتداء يتم اعتبارها جريمة حتى لو كان دافعَها خللٌ نفسيٌّ".
ويوضح الطبيب النفسي "في معظم الجرائم التي يكون فيها الجاني مريضًا نفسيًا نحاول معرفة هل الجاني/المريض فاقد أهليته أم قادر على التفرقة بين الخطأ والصواب؟ فأحيانًا يكون المريض فاقد الأهلية مثل مرضى الفصام الشديد ومرضى اضطراب الوعي والاكتئاب الشديد المصاحب بهلاوس وضلالات".
الخوف من الشكوى
تؤكد منظمة يونيسف أن ما لا يقل عن 120 مليون فتاة تحت سن العشرين أبلغن عن إجبارهن على ممارسة الجنس أو القيام بأفعال جنسية أخرى، ومن المرجح أن يكون الرقم الفعلي أعلى من ذلك بكثير، خاصةً وأن ملايين الفتيات لا يخبرن أحدًا بتعرضهن للتحرش.
عدم إفصاح الطفل عن تعرضه للتحرش أو الاعتداء هو أمر وارد جدًا، حسب يونيسف، وهو ما يجعله يعاني وحده دون تلقي مساعدة، وهو ما اختبرته سارة.
تقول "الحادثة حصلت وأنا عندي 11 سنة، ومقدرتش أتكلم عنها وأبدأ طريق التعافي غير بعد أكتر من 20 سنة، لما لجأت لطبيب نفسي وبدأت بمساعدته أحلل مشاعر الغضب والقهر والنقص اللي حسيته سنين طويلة، واللي خلاني قبلت بمعاملة وظروف سيئة لأني كنت باعتبر نفسي ناقصة شيء عن بقية الستات. الحكي لوحده بدون اللجوء لطبيب نفسي مكانش أحسن حاجة، لأنه كان بيعيد تدوير المشاعر السيئة بدون نتيجة أو خلاص منها".
ربما لو كانت والدة سارة لاحظت أن ابنتها على غير طبيعتها لساعدتها، وربما لو شعرت سارة بالاطمئنان لحكت لأمها ماحدث في حينه.
علامات وإشارات
نشرت أبعاد والأونروا دليلًا يشمل المؤشرات والأعراض الشائعة التي تدل على حدوث اعتداء جنسي وفق الفئات العمرية. و"أبعاد" هي منظمة معتمدة من المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة تهدف لتحقيق المساواة بين الجنسين.
الطفل تحت سن الـ5 سنوات:
تظهر عليه أعراض بكاء وتذمر وصراخ أكثر من العادة وتعلق غير اعتيادي بمقدمي الرعاية، كما يرفض ترك الأماكن الآمنة، ويعاني من صعوبة في النوم وفقدان القدرة على التخاطب. يفقد قدرته على التحكم في التبول، ويُظهر اهتمامًا بنشاطات جنسية لا تناسب عمره.
الطفل بين سن الـ6 و9 سنوات:
تتشابه الأعراض مع ما يظهر على الأطفال تحت سن 5 سنوات، بالإضافة إلى شعوره بالخوف من أشخاص محددين، أو أماكن معينة، أو ممارسة نشاطات محددة.
كما أنه قد يرفض الذهاب فجأةً للمدرسة، ويلمس الأعضاء التناسلية بشكل متكرر، ويتفادى أفراد العائلة والأصدقاء، أو يلجأ للانزواء بشكل عام، ويرفض تناول الطعام أو يرغب في تناوله طوال الوقت.
المراهقون من 10 لـ17 سنة:
يعانون اكتئابًا وحزنًا مزمنًا، واضطرابات في النوم، بالإضافة إلى افتعال مشاكل في المدرسة أو تجنب الذهاب إليها، وإظهار الغضب، وصعوبات في تكوين علاقات مع الزملاء، والانقطاع عن العائلة والأصدقاء، أو إيذاء الذات (مخدرات، كحول، إحداث إصابات أو جروح لنفسه)، تغيُّر في الأداء المدرسي، اضطرابات في الشهية، أفكار وميل للانتحار.
المفتاح هو الأمان
تقدم مؤسسة "Child Mind" نصائح للآباء لتعليم الأطفال خصوصية إجسادهم وكيف يحافظون على مساحاتهم الشخصية الخاصة وعدم السماح للآخرين باختراقها، مؤكدة على أهمية الحديث مع الطفل في وقت مبكر عن أجزاء جسمه، وتسميتها بأسمائها الصحيحة، وأن بعض هذه الأجزاء غير مسموح أن يراها أو يلمسها أحد (ما عدا الأب والأم أثناء النظافة، والطبيب أثناء الكشف في وجود الأم والأب)، كما أنه غير مسموح للطفل أن يلمس هذه الأجزاء في جسد الآخرين لأنها أجزاء خاصة/private parts.
وهو ما تطبقه أفكار مع حفيدتها ذات العامين والنصف، "محدش يلمسك هنا، ولا يشوف الجزء اللي تحت هدومك الداخلية"، ودائمًا ما تحذرها بشكل بسيط ولطيف، وتقول "أصبحت أم وأنا عندي 19 سنة، وده خلاني قريبة من أولادي في التفكير، وزي ما والدي كان أول صديق ليا، كنت حريصة أن أكون صديقة لأبنائي، فكانوا يحكولي كل حاجة وبيطلبوا نصيحتي حتى في غلطاتهم".
الدرس الذي يجب أن يتعلمه الطفل أنه لا توجد أسرار بينه وبين أمه وأبيه فيما يتعلق بجسده، إذ يميل المعتدي لاستخدام لعبة "سرنا الصغير" بينه وبين الطفل، حسب مؤسسة "Child Mind"، والأهم هو تعليمه كيف يقول "لا"، ويغادر المكان حين يشعر بأنه في موقف غير مريح أو مع شخص لا يشعر معه بالارتياح.
يومًا ما، قال طفل اسمه أحمد، أحد الذين تلقوا التأهيل النفسي في "EFAAC"، جملة أثّرت في أفكار وجعلتها تدرك أهمية أن يطمئن إليك الطفل ويشعر معك بالأمان ليخبرك معاناته وأيضًا أحلامه، تقول أفكار "فاكرة جملته كويس، قاللي أنا عمر ما حد سألني إنت عايز إيه ولا نفسك تعمل إيه؟ لما سمعنا حكايته اكتشفنا إنه اتعرض للتحرش من ناس كبيرة في الشارع، وده كان واحد من الأسباب اللي خلته يرتكب مخالفات". وتضيف "سوّت المؤسسة أوضاعه القانونية أولًا، ثم بدأت في مراعاته نفسيًا واجتماعيًا".
نجدة الطفل
يتعامل هاني هلال رئيس مجلس أمناء المؤسسة المصرية للنهوض بأوضاع الأطفال مع 575 حالة طفل سنويًا، ومن واقع خبرته يقول لـ المنصة "أغلبهم بيكونوا في حالة نزاع مع القانون لارتكاب مخالفات قانونية كالسرقة والضرب والاتجار بالمخدرات. لكن لما يبدأ يتكلم ويحكي، نكتشف إنه تعرض للتحرش أو الاعتداء، أغلبهم بيكونوا جايين من الشارع وفيه مناطق ما بتسمحش بمرورهم إلا بالرضوخ للاعتداء".
ويضيف "فيه حالات لأطفال أخرى بيكون صعب الطفل يوصلنا، وهنا بتيجي أهمية انتباه الأب أو الأم اللي بيتواصلوا معانا عشان نتدخل بالدعم".
تشرح أفكار يوسف الطريقة "بنعمل جلسات استباقية للأطفال وأسرهم اللي بيكونوا في وضع خطر، بيكونوا متحولين لنا من وزارة التضامن والمجلس القومي، بنوعّيهم لطريقة التعامل لمنع الاعتداء أو طريقة التعامل إذا حصل".
يكون الطفل معرضًا للخطر في حالات النزاع الأسري أو بدون أوراق ثبوتية نتيجة زواج عرفي أو قبلي، والذين يُتركون بلا أب وأم ويتوجهون للشارع، فيتم استغلالهم جنسيًا ويتعرضون للعنف. تستبق المؤسسة، حسب أفكار، ذلك باستخراج أوراق لهم وإلحاقهم بالتعليم، ثم تقدم دعمًا نفسيًا واجتماعيًا لهم ولأسرهم.
أحد مقدمي الدعم أيضًا خط نجدة الطفل تقول أفكار "الخط عاد للعمل بفاعلية، هو كان تابع للمجلس القومي للطفولة وكان في أوقات كتير بلا جدوى. ماكانوش بيردوا على الناس ولا يتابعوا الشكاوى، لأن المجلس كان تابع لوزارة الصحة، لكن المجلس استقل وأصبح أسرع في اتخاذ القرارات والتواصل مع الوزارات، وبالتالي أصبح متعاون أكتر في حل المشاكل والعقبات".
تسعى سارة سالم إلى التغلب على مخاوفها واستعادة الثقة في الناس، "أنا طول الوقت خايفة، بس بقاوم"، تعلمت من رحلة علاجها النفسي كيف تحلل أسباب إحساسها بالخوف قبل أن تتصرف وفقها، لتستمر في محاولاتها العيش مع ابنتها بأقل قدر من الخسائر.