"كان أول رد فعل لأبويا على أي حاجة بعملها وأنا صغيرة يا الزعيق يا الضرب. مرة كنت واقفة في بلكونة بيتنا من غير حجاب، كنت عيّلة في إعدادي ساعتها شافني وهو في الشارع، فرّج عليا الشارع كله، زعيق وتهزيق وشتيمة قدام الناس كلها. ولما طلع الشقة قعد يضرب فيا، والموضوع مخلصش لحد كده، حلقلي شعري يومها، وقالي آدي شعرك اللي بتتباهي بيه"، تتذكر أمل عصام، التي تبلغ اليوم من العمر 23 سنة.
عانت أمل التي تعيش في محافظة الغربية، في طفولتها من العنف المنزلي. تقول لـ المنصة، "لما كنت في أولى ثانوي، خرجت مع زميلاتي وقعدنا في كافيه من غير ما أقول لبابا" ولما عادت إلى المنزل فوجئت بأنه يعرف، "نزل فيا ضرب وشتيمة وحبسني في البيت لا مدرسة ولا دروس خصوصية"، وعندما اضطرت للذهاب للامتحانات ألزمها بارتداء العباءة السوداء، قائلًا "كفاية فضايح لحد كده".
أمل واحدة من 83% من الأطفال الذين تعرضوا لأساليب عنيفة بدعوى تقويم وضبط السلوك، حسب الأرقام الرسمية للمسح الصحي للأسرة المصرية الصادر في 2021، ما أثر على صحاتهم الجسدية والنفسية، ولا يزال البعض يُعالج من آثاره حتى الآن.
حسب منظمة الصحة العالمية، تشير التقديرات إلى أن مليار طفل في المرحلة العمرية 2-17 سنة تعرّضوا لعنف بدني أو جنسي أو نفسي، أو عانوا الإهمال في عام 2021.
قانون غير كافٍ
ينص قانون الطفل رقم 12 لسنة 1996 مادة (7) مكرر ( أ ) على أن تكفل الدولة للطفل في جميع المجالات حقه في بيئة صالحة وصحية ونظيفة، واتخاذ جميع التدابير الفعالة لإلغاء الممارسات الضارة بصحته، مع مراعاة واجبات وحقوق متولي رعاية الطفل، وحقه في التأديب المباح شرعًا، ويحظر تعريض الطفل عمدًا لأي إيذاء بدني ضار أو ممارسة ضارة أو غير مشروعة.
في 2021 تقدمت النائبة في البرلمان المصري إيناس عبد الحليم بتعديل لنصوص قانون الطفل، وطالبت بإضافة تعديل على المادة 96 الخاصة بتأديب الآباء للأبناء، يجرّم إحداث إيذاء جسدي ويطالب بالإعدام حال تعرض الابن للوفاة بسبب الاعتداء البدني.
واستندت إيناس، حسب تصريحات لـ المنصة، إلى أن قانون الطفل الحالي غير كافٍ، خاصة مع تزايد حالات الاعتداء، مستشهدة بحالة اعتداء أب على ابنه ذي الـ14 سنة في الجيزة بالضرب المبرح ما أدى إلى مقتله.
أكثر من نصف الجرائم ضد الأطفال داخل الأسرة كانت بحجة تأديبهم، هذا ما وصلنا إليه حسب مسح أجريناه لجرائم العنف الأسري بحق الأطفال، اعتمادًا على أرشيف الأخبار المنشورة في صحف الأهرام واليوم السابع والوطن خلال الفترة من 2018 إلى 2022، شمل 1300 خبر.
تعرضت أمل لكل أشكال الضرب والتنكيل من والدها بعد واقعة الكافيه، وأجبرها على المكوث بالمنزل والاشتغال في أعمال البيت، غير أنها تمكنت من الحصول على شهادة الثانوية العامة، بعدما تقدمت للامتحانات من المنزل.
وحسب المسح الذي أجريناه، فإن نصف الجرائم ضد الأطفال داخل الأسرة تسبب فيها الأب.
تقول إيناس النائبة في البرلمان المصري "يفلت بعض الآباء من العقاب في قضايا الاعتداء على الأبناء بحجة المحافظة على استقرار الأسرة"، وتساءلت "إذا ما كانت الأسرة مهددة في حياة أحد أطفالها فأين هو الاستقرار؟".
آثار لا تزول
تؤكد نهال زين، أخصائية الطب النفسي، في حديثها لـ المنصة أن "الأبحاث والدراسات العلمية جميعها لا ترى العنف وسيلة صحيحة أو فعالة للتربية، بالعكس العنف له أضرار لا يمكن حصرها على الطفل قد تمتد معه طوال حياته".
وهو ما يوضحه محمد المهدي استشاري الصحة النفسية، لـ المنصة بأن الطفل المعرض للتعذيب البدني والنفسي ينظر إلى الأب والأم أو المعلم خوفًا، وتظل هذه الصورة الذهنية عند المعنف، ويتعامل بناء عليها، وتحدث للطفل صدمات نفسية أو كرب ما بعد الصدمة أو يمارس هو نفسه العنف على أشقائه أو زملائه في المدرسة أو الجيران.
أوضحت نهال أن العنف تصاحبه مشاعر غضب دون أي توضيح أو تقويم للطفل، كما أنه عادة ما يكون متكررًا وتصاعديًا، تقول "من يعنّف أطفاله قد يكون تعرض هو نفسه في الصغر للعنف، أو قد يتعرض لضغوط اجتماعية أو اقتصادية أو نفسية جعلته يكرر دائرة العنف، وفي هذه الحالة يحتاج للعلاج النفسي".
عنف نفسي
يتذكر ماجد رفيق الذي يبلغ 32 سنة، كيف لم يسلم من انتقادات والدته في الصغر، فيقول لـ المنصة "ما شفعش إني الطفل الوحيد لأبويا وأمي، دايمًا أمي كانت بتقارن بيني وبين أطفال العيلة في التصرفات أو الدراسة، وده خلاني أفقد الثقة في نفسي وأكره الناس"، ويضيف أنه كان يعاني التلعثم بسبب الضغط النفسي الذي تمارسه عليه والدته، ولا يزال يعانيه حتى الآن رغم محاولات العلاج النفسي.
يشمل العنف الوجداني أو النفسي تقييد تحرّكات الطفل، والتوبيخ، والسخرية، والتهديدات والترهيب، والتمييز، والنبذ وغير ذلك من الأشكال غير الجسدية للمعاملة العدائية، حسب منظمة الصحة العالمية.
تمثّل الضغط النفسي على ماجد، الذي يعمل الآن مبرمجًا، في إرغامه على المذاكرة لساعات طويلة يملؤها الصراخ والضرب بـالعصا والشبشب على أنحاء جسده الضئيل، على الرغم من أنه كان يعاني من صعوبات في التعلم، لكن ذلك لم يشفع له.
يضيف ماجد "لما حد من قرايبنا كان بيزورنا ومعاه طفل كانت أمي بتقارن بينا دايما في المظهر والأخلاق والدراسة. كرهت نفسي وكرهت العيلة ومكانش ليا أصحاب لحد ما كبرت، بقيت مش عايز أشوف حد ولا حد يشوفني. وحتى في المدرسة كنت في حالي مش بلعب مع زمايلي ولا بروح النادي عشان مختلطش بحد، وفضلت كده فترة طويلة ولما كبرت رحت لدكتور نفساني، ولسه آثار الموضوع معايا لحد دلوقتي رغم إنه فات عليه سنين".
يرى أحمد مصيلحي رئيس شبكة الدفاع عن الأطفال أن المشكلة لا تكمن في القانون "القانون الحالي يحمي الطفل من التعرض للأذى على يد أحد الوالدين، لأن قضايا الاعتداء على الأبناء إذا ما وصلت إلى درجة عنف معينة (القتل) تُحال إلى قانون العقوبات، وتصل العقوبة حينها إلى الإعدام".
ويرى مصيلحي أن العقوبات القانونية وحدها لا تكفي لمنع الجريمة، بل يجب أن تجابه على نطاقات مختلفة مثل النطاق الأخلاقي والمجتمعي وغيرها، فالقانون وحده لا يمنع الجريمة.
أما نور التي تبلغ من العمر 37 سنة، فتقول إنها تعرضت لعنف نفسي في صغرها "عشان أنا سمرة ووزني زايد شوية وشعري كيرلي، كانوا بيتريقوا عليا ويقولوا يا سودا يا كرتة. وده كان بيخليني أقعد في أوضتي لوحدي وأعيط، وأبقى مش حابة أقعد معاهم".
عاشت نور طفولتها محافظة الإسكندرية مع أب كان يتمنى أن يصبح له ابن، "كان نفسه يخلف ولد، فكان بيخليني ألبس لبس الولاد وأحلق زيهم، وكل ما يحصل موقف يقولي انشفي كده وخليكي جامدة زي الرجالة".
تربية إيجابية
يقول الدكتور محمد المهدي استشاري الطب النفسي، "هناك إجماع بين علماء علم النفس على أن الضرب أسوأ أنواع التهذيب، وأن التعنيف النفسي يؤدي إلى صدمات نفسية".
ولهذا يرى المهدي أن الطريقة المثالية لتربية الأطفال تكون عن طريق القدوة، سواء الأب أو الأم، والثواب والعقاب، طالما الطفل يرى والده أو والدته قدوته ويتعلم منه ويكتسب الخبرات، والثواب يكون عن طريق إثابة الطفل ومكافأته بما يحبه مثل لعبة معينة أو خروجة أو وجبة يفضلها. بينما العقاب يكون عن طريق منع ما يحبه الطفل لفترة معينة وليس طوال الوقت، والعقاب قد يكون معنويًا مثل التجاهل أو نفسيًا مثل اللوم والعتاب.
وتختلف معه نهال زين فيما يتعلق بالعقاب، فهي ترى أن "الطريقة الصحيحة لتقويم سلوك الطفل هي مدرسة التربية الإيجابية القائمة على المدح والمكافأة حال قيام الطفل بفعل حسن، والشرح والتوضيح حال قيامه بفعل سلبي، ومكافأته إذا ما تخلى عن هذا الفعل".
المنع ممكن
ويتطلب منع العنف ضد الأطفال حسب منظمة الصحة العالمية اتباع استراتيجيات تحددها في تنفيذ القوانين وتغيير القواعد والقيم، وتوفير التدريب للآباء، وضمان تمكين الأطفال المعرّضين للعنف من الحصول على رعاية طارئة فعالة، وتنمية المهارات التعليمية والحياتية.
ويشير المهدي إلى أن أولى مراحل علاج الطفل الذي تعرض إلى التعنيف، هي وقف ذلك، ثم "لا بد من الاعتذار عن العنف الذي بدر من الأب أو الأم أو المعلم، ثم استشارة طبيب نفسي. فقد يكون الشخص المتسبب في العنف تعرض لمشكلات نفسية في الصغر تسببت في هذا السلوك، أو يتعرض لنوبات غضب أو عدوانية تحتاج إلى علاج".
رفض والد أمل التحاقها بالجامعة رغم نجاحها في الثانوية، بحجة "كفاية عليكي كده يعني هتعملي إيه بالشهادة"، ما دفعها لقبول أول عريس يطرق بابها لتهرب من "جحيم" والدها.