
جميعنا مذنبون.. كلب القرية وحده البريء
لماذا تحوّلت شوارعنا لساحات عنف ضد الحيوانات؟
قبل نحو 10 سنوات في شارع السويس بالحي السابع في مدينة نصر، وضعت كلبة عددًا من الجراء في حديقة عجيبة. كبر جراؤها قليلًا، مما أثار فضول كائنات أخرى أكبر حجمًا!
كنت أمارس عادتي اليومية في تفقد أحوال حيوانات الشارع من كلاب وقطط في طريق عودتي من العمل، لأجد عددًا من الأطفال حملوا صغار الكلبة بعيدًا عنها، لعبوا بهم وتركوهم في عرض الطريق. بدأت أشرح لهم مدى خطأ ما يرتكبونه، وكيف أن الكلاب الصغيرة تتألم بدون أمها، وبدون طعام، وجسدها قد ينزف دمًا بعد إلقائها على الأسفلت. أسعدني تفهمهم وحسن استجابتهم إلى أن باغتتني طفلةٌ لا تتعدى 6 سنوات بسؤال "يعني هم حقيقيين؟".
كانت لحظة كشف كبرى في وعي الصغيرة حين أدركت حقيقة أن الكلاب "حقيقية"، فغالبًا ما كانت تعتقد أنها أشياء، كالدمى، والأكياس، والملابس.
مرت السنوات لنصل إلى حادث قتل كلب من نوع هاسكي بقرية محلة مرحوم في مدينة طنطا بدعوى أنه "مسعور"، وبمساعدة طبيب بيطري يدعى حمدي حجاج. بعد أن أمسكوا به وأوسعوه ضربًا بينما هو مقيد، أعطاه الطبيب حقنة قتلته ببطء وظل يتألم وينتفض حتى لفظ نفسه الأخير، بينما يوثق أهل القرية الحادث بالفيديو وهم يضحكون.
انتشر التسجيل وفتح الباب لجدل واسع حول حقوق الحيوانات، بالأخص كلاب الشوارع. وكان أكثر ما لفت انتباهي واحد من الفيديوهات المسجلة مع أهالي القرية، حيث يتحدث فيه المذيع لامرأةٍ قائلًا أن الكلب كان حزينًا وهو يموت وبدا ذلك في نظراته الأخيرة، لترد بسخرية شديدة "حزين؟ كلب حزين؟ هوا فيه كلب بيحزن؟".
هنا عادتْ ذاكرتي للطفلة؛ لماذا لا يدركون أن الكلب كائن "حقيقي". لكن الواقعة هنا بالغةُ العنف، فلسنا أمام أطفال يلعبون بجراء صغيرة وإنما أمام قتل كائن بعد تعذيبه.
"مش مسعور"
لم تظهر على كلب القرية أي علامات سعار، من حيث مظهره الخارجي، وسلوكه، "لو كان مصابًا بالسعار لما اقترب منه الطبيب"، يشدد على هذا الطبيب البيطري الدكتور محمد الصواف في حديثه لـ المنصة.
يُعرِّف السعار بأنه مرض فيروسي تنقله الحيوانات الثديية، ويتكاثر في الغدد اللعابية للحيوان، يكثُر انتقاله عبر الكلاب بسبب طبيعة حياتها وسط البشر، بخلاف الأسود والذئاب والحيوانات البرية. ويموت الكلب أو الحيوان المسعور خلال أيام وتبدو عليه علامات محددة، ولا يمكن الاقتراب منه، ويجب وضع جميع الكائنات التي تعاملت أو اقتربت منه في عزل صحي وخضوعهم لفحص طبي.
يشير الصواف لغياب الإحصاءات الرسمية عن السعار في مصر. كما لا يوجد حصر دقيق وموحد لأعداد الحيوانات الضالة في مصر، فالمسؤولون يذكرون أرقامًا مختلفة تقدر بالملايين ما بين العشرة والعشرين.
يعود البيطري لحالة الهاسكي، ويؤكد على أن بعض الكلاب قد تهاجم وتعقر لأسباب فطرية ترجع إلى طبيعتها، أو من الخوف والتوتر، أو رد فعل على أذى تتعرض له من البشر.
وينوه لأن الطريقة المثلى للتعامل مع واقعة هجوم كلب على الأهالي، مثلما حدث، هي "إجراء اختبارات معينة من قبل مختصين حول إمكانية تعديل سلوكه، ولو ثبت عدم إمكانية ذلك من الممكن عزله في مكان بعيد يتعامل فيه مع شخص واحد فقط، وصولًا إلى اللجوء للقتل الرحيم، الذي له طريقة لكنها غير متوفرة حكوميًا".
مؤشر خطر
التعامل العنيف مع حيوانات الشارع، يراه الدكتور سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع السياسي مؤشرًا على ارتفاع نسبة العنف المجتمعي.
وتزدحمُ جروبات المهتمين بالحيوانات على السوشيال ميديا ببلاغات عن صور وفيديوهات لعنف ضد الحيوانات، ما بين قتلها بالسم، أو الاعتداء عليهم بالضرب، من بينها واقعة إلقاء شاب من محافظة المنوفية قطةً حيةً في النيل وهو يبتسم.
يعاني المجتمع المصري من غياب ثقافة حقوق الحيوان مثلما تغيب عنه ثقافة حقوق الإنسان، يؤكد الدكتور سعيد لـ المنصة، مشيرًا إلى تكرار حالات الاعتداء حتى أنها وصلت حد تدخل امرأة أجنبية مقيمة في مصر لمنع شاب من تعذيب حمار صغير.
ويحذر من أن انتشار العنف ضد الحيوانات بين البشر، وخاصة الشباب والأطفال، يجعلهم أكثر قابلية لارتكاب الجرائم مستقبلًا. ويعتقد صادق أن العنف مع الحيوانات له بعدٌ طبقيٌّ، فكلما زادت نسبة الفقر والجهل كلما زاد العنف تجاه الحيوان "من منطق أبقى أنا جعان والناس تهتم بالكلب؟!".
القسوة المتعمدة على الحيوانات قد تكون مؤشرًا مبكرًا على السلوك الإرهابي أو التطرف العنيف
تحليل صادق يتوافق مع ما انتهى له تقرير صدر في 2018 بأن القسوة المتعمدة على الحيوانات قد تكون مؤشرًا مبكرًا على السلوك الإرهابي أو التطرف العنيف، خصوصًا بين مَن يعانون من اضطرابات نفسية أو اجتماعية.
وتثبت دراسة بعنوان "العلاقة بين إساءة معاملة الحيوانات والعنف بين الأشخاص"، نُشرت سنة 1986، أن الذين يسيئون معاملة الحيوانات يكونون أكثر عرضةً للانخراط في سلوكيات عنيفة تجاه البشر، وأنه مؤشر مبكر على احتمال تطور سلوكيات عنيفة في المستقبل. كما توصلت دراسة نشرت في مجلة Journal of Interpersonal Violence عام 1999 إلى أن 70% من الأفراد الذين أساءوا معاملة الحيوانات كانوا متورطين أيضًا في جرائم عنف ضد البشر.
يشير أستاذ علم الاجتماع إلى بعد ذكوري أيضًا وراء الكثير من وقائع العنف ضد الحيوانات، حيث "تُعرّف الرجولة بالعنف والبذاءة والاستعراض على الضعيف"، مؤكدًا أن قياس تحضّر أي مجتمع يكون من خلال رصد وضع الأقليات الدينية، والمرأة، وذوي الاحتياجات الخاصة، والحيوانات.
"نلاحظ الهمجية والتوحش ضد أضعف عنصر في المجتمع، وهو حيوانات الشارع، بمشاركة الدولة التي تنفق من ميزانيتها على السموم بغرض قتل حيوانات الشارع"؛ يقارن أستاذ علم الاجتماع "في دول أخرى البلديات بتديهم أكل يوميًا". وينتقد نشاط مباحث الإنترنت مع أصحاب المنشورات السياسية ومقاطع الرقص والضحك بينما يهملون مَن ينشرون مقاطع التعذيب السادي للحيوانات.
لا ينفي هذا وجود استثناءات لافتة، أحدها شهدته محافظة الأقصر، حين أثار مقطع فيديو نُشر على فيسبوك لعامل بناء يصوّر نفسه لايف أثناء ذبح قطة صغيرة لا تتجاوز شهرين موجة غضب واسعة. تعرف عليه أحد المواطنين وقدم بلاغًا ضده، وتحركت الشرطة سريعًا للقبض عليه، وقررت النيابة حبسه أربعة أيام على ذمة التحقيق.
وفي حي العمرانية بالجيزة، حددت الشرطة هوية رجل قيَّد 3 قطط ورفض تقديم الرعاية لها أو تسليمها لمن تطوع لرعايتها. وكان السبب في تحرير القطط والتحقيق مع الرجل فيديو نشرته امرأة حاولت إنقاذ القطط على السوشيال ميديا.
الحفر في الصخر
يمتد أثر التعامل العنيف مع حيوانات الشوارع إلى البيئة، ويؤكد الدكتور هشام عيسى، خبير علوم البيئة وتغير المناخ، لـ المنصة على أن السموم المستخدمة في قتل الكلاب تمثل كارثةً على البيئة والكائنات الحية، والأراضي والمنتجات الزراعية، خاصةً في الأرياف، مطالبًا الدولة بتشجيع الجمعيات الأهلية المهتمة بالحيوان وتوفير الإمكانات لها لنقل الكلاب لأماكن آمنة وتقليل أعدادها بطريقة لا تضر بالبيئة والمجتمع.
وتهاجم منى خليل، رئيسة الاتحاد المصري لجمعيات الرفق بالحيوان، الجهات الحكومية التي تهدر المال العام في استيراد سموم ودفع رواتب لموظفين لقتل حيوانات الشارع في حملات منافية للإنسانية والمناهج العلمية ولم تثبت جدواها على مر السنين ولم تعالج المشكلة.
"إحنا بنحفر في الصخر لوحدنا" تصف منى حال المتعاطفين مع الحيوانات، مضيفة لـ المنصة "من حقي كأي مؤسسة تلقي دعم من الدولة عشان أعمل دوري وتسمح لي أتلقى تبرعات كمان".
قتل الحيوانات عقوبته قد تصل إلى 7 سنوات في حال وقعت الجريمة ليلًا
الجهود التي تبذلها منى وغيرها من المهتمين بالحيوانات تشعر أنها تضيع هباءً في ظل تعامل الدولة العنيف، "بنلاقي الحيوانات اللي تم تعقيمها وتطعيمها ووضع علامات ودانها من فلوس تبرعات المواطنين مقتولة، إحنا بنواجه عنف ضد القطط والكلاب والحمير والأحصنة وحتى الطيور والعصافير والحيوانات داخل الأقفاص في حدائق الحيوان".
وتضيف "ده حال لا يليق بأكبر دولة في المنطقة، صاحبة الحضارة الأقدم والأعرق، اللي حازت الحيوانات فيها على حقوق وصلت إلى حد التقديس، وتقريبًا الدولة الوحيدة اللي مفيهاش قوانين لحقوق الحيوانات وتجريم للعنف ضدهم".
تهاجم منى خليل كذلك "المؤسسات الدينية والتعليمية اللي متجاهلة تقديم محتوى تعليمي وتربوي عن علاقة الإنسان بالحيوان والرأفة به، والإعلام اللي بيقدم خطاب تحريضي وأخبار غير دقيقة ومعلومات مغلوطة بخصوص حيوانات الشارع".
ورغم أن المادة 355 من قانون العقوبات تنص على أنه يعاقب بالحبس مع الشغل مدة لا تزيد عن سنة وغرامة مالية لا تزيد على 200 جنيه، كل من قتل عمدًا دون مقتضى حيوانًا من دواب الركوب أو الجر أو الحمل أو من أي نوع من أنواع المواشي، أو أضر به ضررًا كبيرًا، فإن أنجيل سامي، المصورة الصحفية والناشطة في مجال إنقاذ الحيوانات، تنتقد في حديثها مع المنصة ما وصفته بالضعف الشديد في اهتمام القانون المصري بالحيوان، وبجرائم العنف ضد الحيوانات المتكررة والمنتشرة والموثقة بالصوت والصورة، وجرائم التحريض.
تنص المادة 355 من قانون العقوبات على أن كل من يقتل عمدًا، دون مبرر، حيوانًا من دواب الركوب أو الجر أو الحمل أو من أي نوع من المواشي، يُعاقب بالحبس مع الشغل، كما تنطبق العقوبة ذاتها على من يتعمد تسميم تلك الحيوانات، أو الأسماك في نهر أو ترعة أو حوض.
ويجوز كذلك وضع الجاني تحت مراقبة الشرطة لمدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على سنتين. وفي حال ارتكاب الجريمة ليلًا، تُغلّظ العقوبة لتصل إلى السجن المشدد من ثلاث إلى سبع سنوات.
ورغم هذا، ترى أنجيل أن هذه العقوبات "بسيطة للغاية"، داعيةً إلى الاطلاع على قوانين الدول الأكثر تقدمًا في احترام جميع الكائنات الحية، واستلهام تشريعاتها المشددة، من أجل الوصول إلى ثقافة عامة تنعكس في القوانين والممارسات، ملخّصها حسب قولها أنه "بإمكاننا أن نعيش معًا دون أن يؤذي بعضنا بعضًا".
يحاجج محرّضون على حيوانات الشارع من قطط وكلاب بعبارات مثل "لو كلب عضك إنت أو حد بتحبه مش هتدافع عنهم كده"؛ ولكن كثير من المتطوعين في إنقاذ حيوانات تعرضوا بالفعل للعض كأثر جانبي للتعامل مع حيوانات خائفة ومتوترة وتشعر بالألم، غير أن ذلك لم يثنهم عن مهامهم في رعاية حيوانات الشارع.
تعرضتُ شخصيًا مرتين للخدش والعض من الحيوانات التي أتعامل معها، ما اضطرني لأخذ مصل السعار، الأولى عندما خدشني "رعد"، وهو كلب شارع أسود ضخم، في كتفي، خدشًا سطحيًا وهو يحتضني مرحبًا بي في سعادة، والثانية حين أمسكت بقطة صغيرة لا يتعدى حجمها كف اليد، لإخراجها من مكان كانت محبوسة فيه لثلاثة أيام بدون طعام تصرخ ليل نهار، فكان رد فعلها الناتج عن خوفها وجوعها هو عضي لتسيل دمائي، وتهرب هي، لأبحث عنها لاحقًا، ولا أفكر إلا في أن تكون بخير. لم يؤثر ذلك في حبي ومساعدتي لحيوانات الشارع.