في طفولتي وشبابي كانت هناك بعض الطقوس التي تحرص عليها الطبقات الشعبية في الإسكندرية في مناسبات الزواج، لا يقتصر وجودها على أحياء بعينها، بل كانت منتشرة أيضًا في أحياء تسكنها الطبقتان المتوسطة والعليا. كان هناك في كل حي مزيج بين أكثر من طبقة، وأكثر من ثقافة، تجمعها مخيلة وروابط ورموز مشتركة تسمح بالتعايش والتفاهم والتقارب فيما بينها، حتى ولو كانوا غير معروفين لبعضهم البعض.
داخل الصالونات الواسعة أو الضيقة لبيوت حيّنا، كان يصل للجميع هذا الغناء الفلكوري السكندري الآتي من هذه الجمهرة التي تحتل الشارع في تلك اللحظة "صلي صلي.. صلي، واللي ما يصلي.. صلي.. أمه يهودية.. صلي.. وأبوه أرمني.. صلي.. وعلى الجدار.. على الجدار.. الفرخة باضت على الجدار.. والديك قاطرها.. على الجدار.. ويا رمان.. يا رمان.. اتدحرج واجري.. يا رمان.. وتعالى على حجري.. يا رمان.. ده أنا حجري حنين.. يارمان، ياخدك ويميِّل.. يا رمان".
كان شباب شارعنا ويافعوه، الذين نسميهم "أولاد الشارع" لأننا لم نكن نتجاوز أعتاب بيوتنا، ونرى هذا الحاجز غير المرئي، وغير المعيق أيضًا، على الاتصال بهم؛ يصنعون بتجمعهم دائرة يقف في مركزها المتحرك العريس ابن الحتة، وعروسه، بعد أن يترجلا من العربة. يرفعون أحدهم على الأكتاف، كمشجع كرة، ليغني هذه الأغنية المكشوفة شديدة الطرافة، بينما تردد الدائرة، من ورائه، على إيقاع الطبلة المدوي؛ اللزمات الإيقاعية للأغنية: صلي.. على الجدار.. يا رمان.
عرض نادر للأراجوز
كنت أتسكع في التسعينيات في حي بحري الذي وُلد وعاش والدي نصف عمره في أحد شوارعه الرئيسية. كنت أستلقط الأفراح الشعبية وأجلس بين روادها، بدون كلفة، فزحمة المكان تحجب خجل أي غريب مثلي. تجري وقائع الأفراح في الشارع، حيث يُفرش الأسفلت بنشارة الخشب الملون، وترسم به سجادة لاستقبال العروسين، حيث يجلسان في الكوشة، وأمامهما المعازيم يجلسون على ترابيزات بطول السرادق المنصوب، وأحيانًا بدون سرادق أو حدود، فأهل الحِتَّة بروابطهم المادية والمتخيلة، يصنعون هذه الحدود التي تحوط المكان.
كنت، بترددي على هذه الأفراح الشعبية التي وصل مساري في تتبعها حتى كازينو الشاطبي، ومن بعده كازينو النجوم في كامب شيزار؛ أبغي تلمس هذه الروح الجماعية داخل هذا الزحام، وأبحث عن تلك الرموز التي تجمعني بأصحابها، في مكان آخر غير العلاقات والروابط المعتادتين.
خلال التسعينيات حدث تحول في جوهر الزفة مع اختيار رموز غير دينية للطواف حولها
أغادر أفراح بحري، لأعرج في طريقي على المولد المنصوب ليل نهار بجوار مسجد أبو العباس المرسي، في مجمع المساجد لأول وآخر مرة أشاهد هناك عرضًا حيًا للأراجوز في أحد السرادقات المنصوبة حول الجامع، ومن حولي جمهور محتشد من الكبار والصغار.
أتذكر الحكاية التي حكاها توفيق الحكيم عن الأراجوز، في إحدى القرى كان الأراجوز يُعنِّف ويضرب امرأة لها نفس اسم إحدى قريبات واحد من الأطفال المتحلقين حوله، فينطلق هذا الطفل جريًا تسبقه دموعه إلى البيت، ليشكو لأبيه ما يفعله الأراجوز مع قريبتهم. إلى هذا الحد كان الخيال يلبس قناع الحقيقة.
عادة ما كانت تعبر أي زفة عرسان على ساحة مسجد أبو العباس؛ رتل من العربات المزينة بالورود تتقدمها عربة العروسين للطواف في دائرة حول هذا الرمز الديني. نفس المشهد يتكرر حول جامع سيدي جابر، أو أي رمز ديني آخر يقع في مسار الزفة، كنوع من التبرك بهذا الرمز، الذي يمثله صاحب الضريح، وهما على أعتاب حياة جديدة.
زفة بعربة قردة 1100
طواف العربات غالبًا ما يكون في شكل دائري حول الرمز الديني، مع تصاعد نفيرها الذي كلما اشتد، كلما منح الزفة خصوصية مضاعفة تفصلها، بجدران شفافة، عن باقي الأصوات العادية الأخرى.
أحيانًا يتبرع أحد المرافقين للزفة، بإبراز مهارته في قيادة إحدى عرباتها، فيخرج نصفه الأعلى من باب العربة المفتوح وقدميه وإحدى يديه فقط على الدواسة والمقود بالترتيب، كأنه بهلوان يقدم نمرةً، مجاملةً للعروسين في هذا اليوم المشهود.
الشكل الدائري في الطواف هو الأنسب حيث تتداخل البداية مع النهاية، وتشكل ما يشبه الرقصة الصوفية حول مركز ما، دوران الذرات حول المركز، أو غيرها من الدورانات التي تؤكد سلطة المركز وهيام الراقصين والطائفين حوله، ومحاولة الذوبان فيه، ورغبتهم في أن يصيروا جزءًا منه.
كانت العربات اليابانية الحديثة هي المفضلة آنذاك في هذه الزفات، بجانب العربات الشعبية ماركات فيات ولادا، المعتمدة في مثل هذه المناسبات.
في إحدى المرات شاهدت زفة عروسين داخل عربة فيات قردة 1100، وربما كانت تسمى هكذا لتشابهها في تكوينها مع جسم القرد، أو لصغر وطرافة حجمها. أحسست بالشفقة على العروسين، خاصة أن باقي الزفة كانت مكونة من التاكسيات.
تمثال أوروبا والثور
خلال التسعينيات أيضًا حدث تحول في جوهر الزفة، في طبيعة اختيارها لرموز غير دينية في المدينة للطواف حولها، أو أخذ الصور أمامها.
ربما حاز تمثال "أوروبا والثور" للمثال السكندري فتحي محمود في منطقة السلسلة، الذي يرمز لخلق مدينة الإسكندرية، على اهتمام ملحوظ، خصوصًا بعد إنشاء مكتبة الإسكندرية أمامه، فاقتسمت معه تاريخ المكان.
بدأت مجموعة جديدة من الرموز تتسرب إلى هذه المخيلة الشعبية، بالرغم من وجود التمثال منذ الستينيات، ولكنه كان بعيدًا عن أن يأخذ مكانه داخل هذه المخيلة، كأحد رموزها التي يطوف الناس حولها.
بدأ الناس يتوقفون أمام هذا الأثر المديني الحديث، وأصبحت الطريق مفتوحةً أمام التمثال ليتحول إلى رمز أمام عرسان المستقبل، الذين يضعون المدينة ورموزها وعلاماتها المهمة ضمن مخططات الاحتفال بأفراحهم؛ رغم أنهم يجهلون أسطورته، أو أهمية مكانته التاريخية منذ العصر البطلمي.
في منطقة السلسلة، التي كانت عبارة عن نتوء داخل البحر عُرف قديمًا باسم "رأس لوكياس"، اكتُشفت بقايا أسوار الإسكندرية اليونانية، تحت المياه، مع بقايا تيجان وعملات فضية، وأعمدة، أحدها لا يزال موجودًا داخل الحديقة التي تقع خلف التمثال.
المفارقة، أنه بالرغم من أن مكتبة الإسكندرية تقع في الجهة المقابلة للتمثال، ولها حضور شاهق، ومهابة معمارية، بجداريتها التي تحمل حروفًا ونقوشًا ورموزًا من كافة لغات العالم؛ لم تلفت عين هذه المخيلة الشعبية، ربما بسبب الجانب الرسمي الذي تمثله.
على بعد حوالي عشر دقائق سيرًا على الأقدام من تمثال أوروبا باتجاه محطة الرمل، يقع تمثال سعد زغلول للمثّال محمود مختار، الذي تحول إلى رمز وطني ومزار لرواد الحديقة من البسطاء الآتين من الأنفوشي وبحري، حيث تحتل الحديقة مكانًا استراتيجيًا في أعز وأغلى مناطق الإسكندرية؛ ليأخذوا معه الصور رغم ارتفاعه، ولكن المصاطب الرخامية المدرجة التي تحيط بالتمثال سمحت بالاقتراب والدخول في معيته وحيزه المؤثر.
هنا جثا عيسى الدباغ باكيًا في "السمان والخريف"، الوفدي الضائع بعد قيام ثورة 1952، وسيتعرف على ريري، المومس الطيبة ويعترف بابنته منها في النهاية.
بعد تمثال سعد، بدقائق، في المنشية، سنقابل قبر الجندي المجهول الفارغ، الذي تحول أيضًا إلى مكان لالتقاط الصور.
تابوت رمزي فارغ يتقدم الجنازة
الأماكن والرموز التي تمثلها التماثيل والمتاحف والنصب التذكارية التي تمنحها المخيلة الشعبية قداسةً ما، تعبر بشكل ما عن هوية قومية تجمع العديد من الناس الذين لا يعرفون بعضهم البعض، ويشكلون سويًا مجتمعًا متخيلًا ركائزه هذه الرموز والأماكن؛ بتعبير بندكت أندرسون صاحب كتاب الجماعات المتخيلة.
فرغم أن الجميع، على سبيل المثال، يعرفون أن لا شيء تحت هذه القبور، مثل قبر الجندي المجهول، أو أضرحة الأولياء في حالة زفة العروسين؛ تظل لها قداسة داخل المخيال الشعبي، الذي يعيد ملء هذا القبر الفارغ، بعاطفة قومية تُنشئ بدورها روابط قوية بمجتمع متخيل يؤمن بالشيء نفسه.
دخل الاستهلاك وسيطًا بين المخيلة والرمز وأصبح للمخيلة الشعبية طموح في الترقي
عند موت عبد الناصر، أقيمت جنازات رمزية في أغلب محافظات مصر، يتقدمها تابوت رمزي فارغ يمثل التابوت الأصلي، يمشي وراءه المشيعون باكين مُنكَّسي الرؤوس.
يضيف بندكت أندرسون في مكان آخر أن المتحف يُعد أيضًا أحد الرموز التي تمثل الهوية الوطنية، حيث "يتحول فيه التاريخ الحي إلى سلسلة من قطع الآثار الميتة". فرغم أنها ميتة بتعبيره، ولكن داخلها طاقة رمزية مقدسة، يمكن أن تشعل الحروب والاقتتال حولها، كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية وظهور القوميات والدول القومية، التي تقوم غالبًا على علاقات رمزية بين مجموعة من الناس، تكون مجتمعات متخيلة يمكن أن تضحي بحياتها في سبيل هذه الرموز.
زفة أمام المتحف
المتحف الروماني اليوناني في الإسكندرية في منطقة المسلة الذي أعيد تجديده وافتتاحه، تحول أيضًا إلى رمز قومي، أو مكان "يتحول فيه التاريخ الحي إلى سلسلة من قطع الآثار الميتة"، هذه القطع الميتة لها القدرة على عقد روابط وعلاقات متخيلة بين كل من ينتمي لهذه المدينة.
اختارت المخيلة الشعبية الساحة الكبيرة التي تقع أمام المتحف لتطوف الزفة حول حديقة صغيرة تتقدمها. فقد صادفت منذ عدة أيام رتلًا من العربات تطوف حول هذه الحديقة المواجهة للمتحف المضاء في الخلفية، وتهبط العروس من إحداها وتدور حول هذه الحديقة، لتأخذ بعض الصور لهذه المناسبة الخالدة.
ما حفز هذه المخيلة لاختيار هذا المكان ربما هو اتساع الساحة التي أصبحت مكانًا لنزهات الشباب، وأيضًا أناقة مبنى المتحف، وفخامة العمارات التي تحوط المكان. وربما أيضًا تحولت كل أماكن المدينة المميزة المستحدثة، وعلاماتها، إلى رموز، يسيطر عليها نمط استهلاك موحد وذائقة موحدة على كافة طبقات المجتمع.
فقد دخل الاستهلاك وسيطًا بين المخيلة وبين الرمز، وأصبح للمخيلة الشعبية طموح في الترقي، والارتباط بمخيلة طبقات أخرى تبغي أن تتمثلها، وتشاركها تلك العلاقة الرمزية، حتى ولو كانت لا تتفق معها في الهدف النهائي.
أصبح هذا المكان الذي يقع فيه المتحف مميزًا طبقيًا، وأصبحت هذه المنطقة جاذبة لمعارض الفن التشكيلي والمطاعم والكافيهات، يفصله شارع صغير عن شارع أبي قير حيث كانت تسير الاحتفالات، والمواكب سواء لاستقبال الرؤساء، أو لاستقبال هذا الكم الكبير من الأفكار الحديثة، فصار لهذا الحي سلطة رمزية ونفوذ فقده لبعض السنوات، ثم عاد الرأسمال الحديث واسترد هذه الرمزية وبث فيها الحيوية، وأصبح الحي مكانًا للتمثيل الطبقي.
تغير جوهري حدث لهذه المخيلة الشعبية، حتى أصبحت المستنسخات الرديئة لتماثيل نصفية لسيد درويش أو توفيق الحكيم أو غيرهما، التي أقيمت في عهد المحافظ المحجوب وتزين أماكن استراتيجية بجوار حديقة سعد زغلول، على سبيل المثال، مزارًا للطبقات الشعبية تُلتقط الصور أمامها. أصبحت هذه المخيلة مستباحة وأسقطت القدسية على تماثيل ومبان ميتة لا تمثل إلا نفسها أو صانعها، أو الحقبة الزمنية التي نعيشها، ولم يعد لها صلاحية أن تشارك في الحياة الشخصية، وصور مناسبات خالدة كالزواج.