أعمل منذ منتصف التسعينيات في شارع قرداحي، بحي رشدي بالإسكندرية، في ذلك الجاليري المحندق الذي أسسناه معًا، سلوى زوجتي وأنا، لبيع المشغولات اليدوية. أرقب العالم من وراء الفاترينة الزجاجية، كأنها شاشة عرض لا تهدأ. كان بيت عائلتي القديم يقع بالقرب من الجاليري، وكانت مدرستي الابتدائية تقع أمامه مباشرة، فكنت أراقب مستقبلي وأنا في تلك السن الصغيرة، أما الآن فأراقب طفولتي وأنا في هذه السن الكبيرة. ما علينا.
يرجع اسم الشارع قرداحي، لعائلة مهاجرة أتت من لبنان في بدايات القرن العشرين، واستوطنت الإسكندرية، مثل العديد من المهاجرين من الجنسيات الأخرى، بعد الحرب العالمية الأولى، اشترى عميدها قرداحي بك تاجر القطن وأحد كبار ملاك الأراضي، كما تصفه صفحة المفتش الأثري، قصرًا منيفًا، بناه المعماري الإيطالي ألدو ماريللي 1905، من صديقه ومالكه الأول بندرناجل Bindernagel. يتعبر القصر ومبنى القنصلية الإنجليزية، أقدم الأماكن في تلك المنطقة.
كان ملحقًا به عدة إسطبلات للخيل تشرف على الشارع، كانت أمي تصحبني عند زيارتها لأقاربها الذين يسكنون على مبعدة من بيتنا عشرون دقيقة سيرًا متمهلًا على الأقدام. كنا نعبر، عبر طرق مختصرة، وملتوية، بقصر قرداحي، وألمس غرة الخيول التي تشرئب بأعناقها من شبابيك الإسطبلات في انتظار موعد خروجها اليومي للسير بصحبة حراسها.
في منتصف السبعينيات بيعت الأرض التي تقع عليها الإسطبلات، وسميت تقسيم قرداحي، الذي اتسع لعشرات من العمارات السبعينية متقشفة الذوق والجمال. ولكن ظل القصر، واسم العائلة، اللذين زرعا في الشارع بذرة الهجرة.
ليست الجنسية شيئا مهمًا
في بداية السبعينيات، كنا كأطفال مراهقين نتجسس على إحدى الفيللات القريبة التي تقع في شارع نوردون، المتقاطع مع قرداحي. كان يسكن الفيلا عائلة كبيرة من الأجانب. لم تكن الجنسية شيئًا مهمًا، يكفي مصطلح الأجنبي كي يفسر هذا الشكل والسلوك المختلفين.
كانت الفيلا مسورة بالحديد المشغول، يتخلل أسياخه سور آخر من أغصان أشجار الفيكس شديدة الكثافة. في منتصف الفيلا، يقع حمام السباحة، الذي يرتاده سيدات البيت ورجاله. نقف كأطفال، كبَّرتنا المفاجأة، لنسترق النظر بين أغصان الشجر الكثيفة، ونتأمل بذهول تلك الأجساد المترامية على العشب الأخضر، وهي تستمتع بشمس الإسكندرية، التي لا نستمتع بها. نكتم ضحكاتنا، وعلامات ذهولنا أمام ذلك الإعجاز الجسدي، وتلك الأثداء المتحررة من كل شيء.
الجاليري نقطة التقاء
كان هناك العديد من القنصليات والمراكز الأجنبية تحوط بالشارع، الذي يعتبر هو وشارع كفر عبده، منفذها للشارع الكبير أبي قير . القنصلية الإنجليزية، القنصلية الألمانية، سكن مدرسي المدرسة الألمانية، المدرسة الإنجليزية، موظفو الشركة الأمريكية التي كانت تشرف على مشروع الصرف الصحي، والنادي البرتغالي الذي كان ملتقى جميع الجنسيات، يجتمعون فيه ليلًا بصدفة مكررة، ليشربوا البيرة والنبيذ بكميات كبيرة. كان شبيهًا، شكليًا، بنوادي المستعمرين في الأفلام التي تجرى وقائعها في بلد مُستَعمر، مع مسحة عربية تتكون من أولاد الطبقات العليا و"المثقفين" من أبناء المدينة، الذين اعتادوا زيارته.
حتى منتصف التسعينيات، عندما افتتحنا الجاليري، كان الشارع متوازنا بين أصله المهاجر، وبين السكان الجدد. كان الجاليري، بجانب هذه الأماكن، نقطة التقاء لمجتمع الأجانب الذين يعيشون أو يترددون على الشارع، والذين تتعدد جنسياتهم بين الولايات المتحدة، وفرنسا، وإنجلترا، وإيطاليا، وإسبانيا، وألمانيا، والهند، وبيرو، والبرازيل، وفنزويلا، وغيرها، وغيرها.
قارة أفريقيا، كانت منسية تمامًا، في هذا الحي الكوني، لم تكن ممثلة بشكل مباشر، ولكن عبر قناع جنسية أخرى، مثل الزوجين الآتيين من جنوب أفريقيا، ويعودان لأصول هولندية، أو من الأمريكيين أصحاب الأصول الأفريقية، الذين كانوا يسيرون في الشتاء يستعرضون عضلاتهم وهم يرتدن ملابس رياضية تحمل أسماء فريقهم المفضل في كرة السلة. كانت الهجرة والترحال يشكلان المسرح الكبير الذي تقف على خشبته خرائط الهجرة القديمة.
صداقات دون شروط مسبقة
كانت السمة الغالبة في التسعينيات، التي لمستها بنفسي في هؤلاء "الأجانب"، سيدات ورجال وشباب، أنهم يريدون أن يندمجوا في المجتمع الذي يعيشون فيه، ولا يعيشون على السطح، ويمدون علاقاتهم وصداقاتهم مع أقرانهم المصريين. وربما هذا يعكس وضعًا عالميًا سائلًا، كان يتم فيه الاندماج والتداخل، من دون شروط مسبقة. نشأت صداقات بيني وبين العديد منهم، تخللتها ساعات من الحوارات، المليئة بالأسئلة، من الطرفين، والمخاوف، والقليل من الصور النمطية.
أغلب من قابلت من "الأجانب" كان لهم أصول أخرى، هاجروا منها، وحملوا معهم آثار تلك الهجرة إلى الإسكندرية، وأهم هذه الآثار لذلك المهاجر القديم أنه يريد أن يتشارك مع الآخرين، ويقتسم معهم المكان، كونه أصبح طليقًا في فضاء العالم، بلا جاذبية، فيسعى لكي يؤسس مراكز إنسانية صغيرة داخل ذلك الفضاء، تتلخص في هذه العلاقات العميقة التي يقيمها مع أخيه الإنسان، في أي بلد يحط به.
ربما كانت ميريام هي الصديقة الوحيدة ذات الأصول الأفريقية، التي كانت تسكن في الشارع. كانت متزوجة من فرنسي وتحمل الجنسية أيضًا. كانت تحترف الفن التشكيلي والتصوير الفوتوغرافي. في إحدى المرات عندما زارتنا في بيتنا، أهدتنا عملًا فنيًا لها، عبارة عن مكعب صغير بحجم كف اليد، مكسو بقماش برتقالي أنيق، وقالت إنه يحوى تراب موطنها الأصلي في أفريقيا. استأجرت مريام شقة صغيرة في الشارع، لتكون مرسمًا لها، ودعتنا لزيارتها مرارًا، لنشرب الشاي، ونتحدث، ونتفرج على أعمالها.
كنا نتعامل مع اللغة كأنها الله الذي يعرفنا جيدًا، وبأي شكل يمكن أن يصل الكلام، ويكشف عن نياتنا. كانت تتكلم بالفرنسية، وأحيانًا بلغة بلدها الأصلي، وأنا أيضًا بالعربية. كان الكلام يستقر في جيب سري مرتبط بالإيمان، يكفي أنها أفرغت كل ما تريد أن تقوله، كأنها تعترف، أو تكلم نفسها الأخرى، ولا تنتظر الرد.
عندما نقل زوجها للمغرب، وكان لا بد وأن تصحبه مع أولادها في رحلته إلى هناك. مرت لتودعني. توقفت العربة بسائقها في منتصف الشارع أمام الفاترينة الزجاجية للجاليري. كنت أراقبها وهي تسير بخطى متعثرة ناحيتي، كأنها طفل لا يعرف المشي، هكذا كتبت في قصيدتي عنها. لم تكن تريد أن تغادر الإسكندرية. بحثت عنها قريبًا على الفيسبوك، وجدتها، وأرسلت لها أذكرها بسنوات الإسكندرية. تذكرَتْها. لكن لاحظت مسافة نفسية واضحة في الرسائل المتبادلة، ربما صنعتها سنوات الإقامة في باريس. شككت لوهلة أنها لا تتذكرني. ربما المهاجر بين أكثر من بلد، له ذاكرة مختلفة، وأيضًا عاطفة مختلفة، يرسم بها مسارات الهجرة.
خفة لا تحتمل
كاترين، الأمريكية، ذات الأصول النمساوية، وطولها الفارع وخجلها الأنيق، وتلعثمها المستمر. لا تتوقف ولا تخجل من الحجر الذي يقف فوق لسانها، لا أستعجلها بل أترك هذه الجملة، او الكلمة المتعثرة، أن تنساب من فمها بعد طول احتباس. تدخل من باب الجاليري، وتجلس على الكرسي الصغير، وتترك حقيبتها على الكرسي الآخر، ويستمر النقاش لساعات، فالبيع والشراء لم يكن هو الأصل في العلاقة، ولكنه كان البداية.
تعلمتُ من هنري ميللر كثيرًا في مدار الجدي، عندما كان يطرق أبواب البيوت في نيويورك ليبيع القواميس العلمية، ولكي يتحدث أيضًا مع الناس. عندما كان يقع أحدهم في الفخ ويشتري قاموسًا، ويصدق الدعاية وأوهام التقدم، التي يروجها لبيع القواميس، كان يصاب بالإحباط، فغايته ليست البيع، ولكن الحديث مع الناس، وتبادل الحوار. عاصرت مع كاترين كل مراحل نمو علاقتها بصديقها، من أصول إسكندنافية، الذي جاء معها إلى الإسكندرية، كانا يتعاملان مع بعضهما البعض كزوجين شفاهيين "بخفة روح لا تحتمل".
من وراء هذه الأحاديث، كانت كاترين تقوم بواجبها تجاه ذلك الصديق المصري، أن تفرش تلك الوسادة الروحية التي ترتاح عليها النفس وتتجاوز أي حواجز سابقة، أو صعوبات، لذا كان وقت زيارتها عبارة عن تمرين روحي للتأقلم على تلافيف وزوايا لغة وثقافة أخرى، مثل درس اليوجا، أو الثبات على وضع صعب، مثل التلعثم، حتى يتم اعتياده.
الوطن يعيش في اللغة
السيدة الأمريكية، الصينية الأصل، المبتسمة دومًا، التي لا أتذكر اسمها لصعوبة نطقه بصوتياته. كان زوجها يعمل مهندسًا في إحدى الشركات الأمريكية، فكانت تسلي نفسها خلال فترة إقامتها، التي امتدت لسنوات جاوزت العشر، بأن تأتي ببضائع من الصين، بلدها الأم، وتبيعها في الإسكندرية.
كنت أراها باستمرار في محطة الرمل تدور على المحال كعب داير، وعلى ظهرها الباك باج ممتلئة عن آخرها، ولا تخجل من هذا رغم من وضع زوجها المستريح. كانت تقضي أوقاتًا معي، ليس بغرض البيع أو الشراء، كانت نادرًا ما تشتري شيئا، وأعرف مقدما أنها لن تشتري، كانت مخلصة أكثر لجنسيتها الصينية في هذا الجزء الحيوي من الحياة. كانت تُطقَس مني عن أحوال البيع، والأماكن التي يمكن أن تبيع فيها.
تعجن لكنتها الإنجليزية بالصوتيات الصينية، وأحيانًا تختنق صدى صوتيات الإنجليزية لصالح الصينية. "الوطن يعيش في اللغة"، تقريبا كما قال هيدجر. هارموني وإيقاع جديدين للتوفيق بين اللغتين. أتخيل اللغة الصينية بصوتياتها "لغة نداء" لجموع تقف فوق الجبال والسهول تتبادل هذه الإشارات.
كانت كوميدية جدًا، في كل تعبيراتها، وقارشة ملح المصريين. كانت تكلمني عن الأجانب الآخرين كأنهم "أجانب"، وأحيانًا بسخرية منهم، كأنها ليست منهم، كانت ترى موقعها قريبًا من موقعي كمصري، لذا يجب أن نتحدث بصراحة ولا نلف عن بعض، كأن لسان حالها يقول "إحنا دافنينه سوا".
كان هو "الآخر"
كان الجاليري بالنسبة لي، بداية تكوين خبرة حقيقية ومباشرة عن الأجنبي، الذي لم أحتك به من قبل، وأقيم معه حوارًا.
كنت أراه كجواهر منفردة، عابرة بالإسكندرية، تسير في طريق البحر، يحمل كل منها الباك باج على ظهره ويتقدم في طريقه لا يلوي على شيء. رأيت صورًا كثيرة للأجنبي، كانت تضعه في صورة السائح العابر، المتعجل، المغامر، كأنه نقيض لما أنا عليه، وأحب أن أكون عليه. كان هو "الآخر"، الذي تحتاجه كي تقيم معه حوارًا، وتغير من نفسك. ربما تصوري كان ناقصًا بالفعل، ولكنه تصور يعكس غياب "الآخر الداخلي"، أو تورطه معنا في تشابكات نفسية تمنع رؤيته بصفاء.
الغريب ملك
في ندوة شاركت فيها مؤخرًا، في المركز الفرنسي بالإسكندرية، وكانت عن الهجرة، قال أحد الحضور من دولة مالي، ويدرس في جامعة سنجور، إن في بلدهم "الغريب ملك"، يقصد أنه في بلده يعامل "الغريب" معاملة الملوك.
هذا الشاب المالي، الغريب، أو الآخر، لم يصادف شبحًا لهذا الملك، وسط المجتمع السكندري وشبابه، وأتخيل عزلته، سواءً داخل الجامعة أو خارجها، كانت نظرة هذا الشاب المالي للأجنبي هي أيضًا نظرتي نفسها له في وقت ما، هو الملك، لأنه جاء من مكان آخر بعيد أتوق دوما للسفر إليه، كأنه قام بما كنت أريد أن أقوم به، نيابة عني، وفي صورته، لذا فأنا أدين بالامتنان له.
رغم رومانسية الصورة، دائمًا ما نضع الآخرين في مكان له قداسته، مهما كنا واقعيين، لأننا في يوم ما نريد أن نشغل هذا المكان ونكون "آخر" لآخرين، وهنا تكتسب هذه العملية أهمية من تلك القداسة.
السكان الأصليون
نادرًا ما كان يقترب أحد سكان الشارع، ويدخل الجاليري. كان هناك حاجز، ربما كونهم غير معتادين على مكان يبيع المشغولات اليدوية، أو كونه نقطة تجمع للأجانب، وهو الأرجح، التي تشكل حاجزًا نفسيًا. بالتأكيد كنت أخشى أن نتحول إلى هذا المكان المنفصل، أو المتعالي.
بمرور السنوات، رغم الكلام القليل مع سكانه، نشأت صداقات مع الأجيال الجديدة منه. كانت تتكون من حول الجاليري صورة ما، عرفت جزءًا منها في السنوات الأخيرة، عندما جاء أحد القاطنين في الشارع يعرض على أن أؤجر شقته لأحد الأجانب. تكرر هذا الطلب عدة مرات من أشخاص مختلفين، تحولت في نظرهم إلى سمسار عقارات شيك. ربما السبب المباشر، هذا الارتباط مع الأجانب. كنت أقف، بالنسبة إليهم، في مكان وأمسك في يدي بمفاتيح أبواب لا يعرفونها، فتحولت، في نظرهم، إلى جسر، أو وسيط، أو سمسار ثقافي أو عقارات، بينهم وبين هذا العالم الذي يقف وراء ذلك الباب المغلق.
هجرات جماعية
بعد ثورة يناير 2011، حدثت هجرات جماعية للأجانب من الشارع، ليست بالمعنى المادي ولكن المجازي، كونها تعيد صورة للإسكندرية بعد عصور التأميم في ستينيات القرن الماضي، وهجرة الأجانب منها، ولكن بالطبع بمقياس آخر. هذا القياس، بين هجرتين، يجعلني لا أرى "صورة الإسكندرية" منفردة. لا أراها إلا وبها هذا التعدد، كأنها شهادة الميلاد للمدينة.
اختار بعض سكان الشارع الأجانب أن يعودا لبلادهم، أو يختارون بلدًا آخر يُكوِّنون فيه مراكز عاطفية جديدة، هاجروا ولم يأت مكانهم أحد، جزء منهم اختار السكن بالقرب من مكان عمله، وأغلقت القنصلية الألمانية، ورحل معها مدرسو المدرسة الألمانية، وأصبحت القنصلية الإنجليزية مكانًا شرفيًا، وأغلق النادي البرتغالي، وسافر مهندسو مشروع الصرف الصحي، وغيرهم وغيرهم، وخلى الشارع لسكانه الأصليين.
ربما يمثل هذا التحول الذي حدث في الشارع مؤشرًا ليس لتحول للإسكندرية فقط، ولكن أيضًا لتحول مكان آخر تعكسه مرآة هذا الشارع. أقصد بالمكان الاخر هو "الشمال" الجغرافي بشكل ما. فهذا الفراغ وتصفية الأجانب من شارع هام، يعكس صورة أخرى في مكان آخر، لوضع العرب في دول الشمال، سواء المهاجرون أو المنفيون أو اللاجئون، فهذا الفراغ الذي نشأ هنا في "الجنوب"، يعكس الفراغ نفسه الذي نشأ هناك، في "الشمال"، لأسباب ومخاوف متوازية.
نلحظ الآن هذا الخط الفاصل الذي بدأ يُرسم من جديد، وسط ظروف عالمية شديدة التقلب، من ثورات وهجرات، وأزمات اقتصادية، وإرهاب. أصبحت الحدود واضحة بين "المواطن"، أيًا كان، وبين "الأجنبي"، فالاندماج ليس مجهودًا فرديًا، كما كان من قبل، ولكنه ثقافة عالمية، لم يعد من أهدافها إلغاء الحدود، رغم هذا القرب المجازي، وإلغاء المسافات الذي حققته الميديا، والقرية الكونية الواحدة التي نعيش فيها جميعًا، والتي تنبأ بها مارشال ماكلوهان.
مهاجر مؤقت
تغيرت صورة الأجنبي وعلاقته بالبلد الذي يعيش فيه، أصبح زائرًا من على السطح، وليس مهاجرًا مؤقتًا كما كان من قبل، فإن اختلط فسيكون من فوق السطح أيضًا. ربما لأنه يرى المجتمع الآن مثالا لما يراه لصورة الأجنبي/ الغريب، في بلده، ويلمس أيضًا هذا الفراغ والشك اللذان يحوطان به.
أعتقد أن العلاقات التي توطدت مع الأصدقاء من الأجانب، بسبب أنني خاطبت ووطدت الصلة معهم بهذا الجزء المهاجر، الموجود فيهم، الذي يريد أن يترك بلده، ويرى ثقافة أخرى، وأنا أيضًا، كنت مهاجرًا جزئيًا أو مؤقتًا، وأنا لازلت في بلدي، لذا كان التفاهم بيننا سريعا. كان كل منا مهاجر مؤقت. كانت الهجرة بمضامينها القديمة جسرًا للتفاهم.
نسخة جديدة من التعدد
بعد الثورات العربية، والحروب الأهلية، والهجرات الاضطرارية، التي اجتاحت أفريقيا في العقود الأخيرة، افتتحت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في شارع قرداحي، شغلت إحدى الفيللات مكان إحدى الشركات الأجنبية التي أوقفت نشاطها في مصر.
أصبح الشارع مزارًا لكل المهاجرين الجدد، أو اللاجئين، أو المنفيين، بغير إرادتهم، سواء من إرتيريا، أثيوبيا، التيجراي، جنوب السودان، الأمهرة، سوريا، اليمن، الصومال، وغيرها من الدول والعرقيات. أصبحت هناك نسخة جديدة للتعدد.
طوال ساعات عمل المفوضية، يعج الشارع بأصحاب البشرة السمراء، والملابس الملونة الزاهية، وبالأجساد النحلية الطويلة، بينما أطفالهم، يجلسون داخل حزام تربطه السيدة حول وسطها. يتوقف أحدهم أمام الجاليري، ليسأل عن مكان المفوضية، فالجاليري هو أول مكان عام يقابلهم في الشارع، ومنهم من يلقي نظرة، ويسأل عن البضائع المعروضة، ويفرح عندما يجد شيئًا من وطنه.
هل يعيشون في ظروف أفضل كونها هجرة داخلية من الجنوب للجنوب؟ ربما لا، لأن الاضطرار جعل هجرتهم خشنة، منغلقة على نفسها. الغريب، أو المهاجر، اللاجئ، الآن لن يعيش ملكًا، لأن هناك شروطًا جديدة يضعها العالم للتقارب، والاندماج، هناك أكثر من خط فاصل، بالرغم من تداخل المسافات. أصبحت الهجرة مفرغة من كل مضامينها القديمة، عبارة عن رحلة بدون قفزات وجودية، ولكن فرارًا من مجهول.
المهاجر الجديد
المهاجر الجديد، هو مهاجر ليس له بعد سياسي كما فى السابق، أو يملك مشاعر سياسية غامضة ومشاعر انتماء غامضة وملتبسة أيضًا، يريد أن يستجليها في بلد المهجر، ويخرج منها إنسانًا جديدًا، بالرغم من أن السياسة والديكتاتورية هي من الأسباب المباشرة في خروجه من وطنه. هو مهاجر مجازى، يسافر دون انفصال عن موطنه، رغم أنه يعرف بأنه خرج ولن يعود إليه مرة أخرى.