القاهرة هي المدينة التي لم تفقد جاذبيتها بالنسبة لي بالرغم من كل الأحمال والضغوط التي تحوطها، وتحوطنا داخلها، لتحولها إلى مدينة بلا معنى. ربما لأن علاقتي بها قامت على شيء جوهري أسبق من الخسارة، بعيدًا عن السطح الهش للعلاقات الدعائية مع المدن، ولكن عبر طبقات معرفية وحدسية أخرى متداخلة لم تستنفد حتى الآن.
المدينة التي ما زلت أصارع معها، ولا أرفع الراية البيضاء، لا أنا ولا هي. كلانا منتصران، وكلانا منهزمان، حسب نظرة كل منا للعلاقة العادلة مع أي مدينة. نِزال مستمر، حلبة ملاكمة تتخلل كل نقاط التماس والحب والجاذبية بيني وبينها، تجعل هناك جولة مستقبلية دائمًا لتحديد المصير. أما الحاضر، بكل مخاوفه وخرابه، فليس نهاية.
أي مشاعر أكنّها عنها لها عدة وجوه متناقضة، الجاذبية أحيانًا، والخوف أحيانًا، والكراهية في أحيان أخرى، لذا أي صورة لها، أيضًا ليست نهاية. ربما هذا مايربطها بالخلود، ليس قهر الموت، ولكن خلود المعنى عبر تجدده.
السطح البراق للمدينة
ربما هذا السطح البراق للمدينة لايزال لامعًا في عيني، بالرغم من طبقات التراب التي تُهال عليه، لأني كنت زائرًا، غير مشروط بالإقامة الجبرية فيها، يطول به المقام فيغادر، ثم يعود ليكمل أيامه، ونزالاته المفتوحة معها. كل الفجوات، بين زيارة وأخرى، لم تكن زمنًا ضائعًا، بل استراحة ابن غائب. كأني، في غيابي، وفي حضوري، أنسخ بيتي هناك، بدأب دودة قز.
القاهرة مدينة دون إرث نفسي عميق، طافيه مع النيل ودروبها اللانهائية
كل قاهري كنت أقابله في صغري، أمنحه احترامًا لأنه سبقني في "تجربة" العيش في تلك المدينة، التي تمنح لساكنيها تجربة تنوير طويلة الأجل، بعدد سنوات العيش فيها، بعكس الإسكندرية، التي تخيِّر ساكنيها إما أن يكونوا متمردين أو موظفين.
جزء ميت
هناك جزء ميت، وغير ذاتي، داخل جسد المدينة، لا تملكه الإسكندرية، يكسر أنف وكبرياء "الذاتية" ويرجح بدلًا منها "العصامية"، أو الصدام المبكر بين الفرد والجماعة داخل تعاقد مشترك وهدف موحد. يُحسم عادة، في القاهرة، لصالح الاثنين معًا. فأي عقد إقامة فيه ذلك التواطؤ الإيجابي، بين المواطن والمدينة، هو ما حافظ على نجاح المعادلة إلى عقود قريبة.
خلف كل متعاقد مع المدينة "تجربة" يجتازها، وبعدها يحقق الانسجام. أما في الإسكندرية فكانت "التجربة" مأساتي، وهو ما حدث معي بالضبط عندما أيقظتْ تجربتي الشخصية المدينة من الموت، داخلي، وأنقذتني. كأن القاهرة المكان الذي استشعر المستقبل وأزماته، بينما الإسكندرية غارقة في سبات الذاتية، والعائلة، والتعدد، وكل الجيتوهات النفسية الأخرى.
كنت أبحثُ، في علاقتي بالقاهرة، عن ذلك الجزء الميت في تاريخ أي مدينة، الذي منحها ومنح سكانها تجربة البقاء. أبحث فيها عن أصحاب القلب الميت الذين نسخوا في جيناتهم جوهر نشأة المدينة. كأن لقلبها حياة محصنة بذلك الموت.
العصامية وليس التمرد
كانت القاهرة تجربة تمرد من نوع آخر، بدون نظريات، وبأدوات الحياة نفسها: السير، الصبر، الإرادة، الوحدة، والطفو فوق الذات، وغيرها. التمرد الجغرافي الذي يوسع المسافات في عينيك، ويوسع من حضور "الآخر" داخله لأنك أصبحت فائضًا عن نفسك، في كل صدام تنتج ضدًا أو شبيهًا، أو بين بين، لهم القوة نفسها في تقوية مناعة المقاومة والاستمرار.
تعلمتُ العصامية، ولبس التمرد، في القاهرة، لأني هناك دون جذور تحميني. تعلمت أن أعيش من دون مركز أعود إليه ويؤيني. هذه اللا حماية خلقت أخرى ذاتية مغايرة، كنملة تسعى وسط جيوش النمل، بدون أي إحساس بالمهانة، بذاتية مقلوبة، وبلا داخل.
ليست أمومية ولا أبوية
التوافق مع الزحام والتيه هو التجربة. الاتساع هو التجربة. الخروج سليمًا من مخاطر أن تمحى ذاتيتك، تمامًا، هو التجربة. فالمدينة ليست على مقاس شخص، وليست على مقاس ذات، فهي مصهر للذوات، صعب أنسنتها، وأيضًا صعب تشييئها.
كانت تجربة الإقامة فيها توازي تجربة الذين سافروا للخارج، هناك هالة على رؤوسهم أراها بعين خيالي. كانت الملاذ عندما قررت أن أنسلخ عن الإسكندرية إلى المدينة المنافسة. المنافس دومًا هو المنقذ، لأنه يحمل حقيقة ما طالما كان بعيدًا.
في هذه النقلة اكتسبت غيرية المدن، كانت القاهرة هي "الآخر" الذي تتطلع إليه حياتي، تنمو بجواره دون خوف. ليست الأب، أو الأم، بل مرحلة ناضجة وغير تاريخية في العلاقة بالمدن. علاقة ذاتية ومستقلة بعيدة عن إرث علاقات المدن العائلية التي نولد ونموت فيها في صمت. حتى الآن لا أعد نفسي واحدًا منها، وأيضًا لست خارجًا عنها.
كنت سائحًا في الفراغات بين الأطراف والمركز، أبحث عن ملاذي الإنساني. كانت المدينة الصديقة، وليست الأم ذات الإرث النفسي العميق كالإسكندرية. فالقاهرة مدينة دون إرث نفسي عميق، طافيه مع النيل ودروبها اللانهائية. تعلمت منها الطفو، وليس التجذير، فوق الركام، التراب، الموت، لأرى الخلود المديني، فالخلود ليس بابًا في ذاكرتنا سنصل إليه بالحفر عميقًا، بل بالطفو فوق ذاكرتنا.
أكسبتني المدينة جرأة كنت أحتاجها في البحث والتيه وفي الحديث مع الغرباء ومواعدة فتاة رأيتها صدفة في الأوتوبيس
عندما رأيت سقف الإسكندرية يضيق على جسدي وتحولاتي النفسية في التسعينيات، لم أجد غير القاهرة بليلها المفتوح. بالرغم من كونها مركزًا إلا أنك لا تشعر بالمركز، ولكن بالتيه الأبدي وسط هذا المركز الفارغ، فلم أنتظر كشوفات هناك.
ربما القاهرة مدينة مركزية، ولكنها أيضًا ليست أبوية، ولا تحتاج أن تقتلها لتعيش، بل أن تكون مسؤولًا عن نفسك، ويكون الأب صناعة ذاتية، فلا تقف أبدًا عند مفترق طرق وتخرج خنجرك وتطعن أشباحًا في الهواء.
الحديث مع الغرباء
فكرتُ في التسعينيات، دون جدية، أن أنقل حياتي إليها ولكني تراجعت. لذلك ظلت علاقتي بها حرة ونزيهة، وليس بها أي ضغوط، ومستمرة بقوة الحرية المتبادلة بيننا، بألا أكون صوتًا منسوخًا لها، ولا تكون سريرًا حانيًا لي، بل فندقًا يجافيني فيه النوم، ولا أنسى يومًا غربتي الوجودية، وليست المدينية.
أكسبتني المدينة جرأة، كنت أحتاجها، في البحث، في التيه، في الحديث مع الغرباء، في مواعدة فتاة رأيتها صدفة في الأوتوبيس، كانت المدينة التي لا يعرفني فيها أحد، فالآخر ينمو موازيًا لتجربتي بداخلها، وليس مزروعًا كالضمير في جسدي. ربما كانت في البداية جرأة مجانية دون ضمير، ولكن مع الوقت ستنضج وينبت لها ضمير.
هشاشتي وقوتي معًا
بعد كل رحلة للقاهرة، أعود للإسكندرية بدماء جديدة، ورغبة في تغيير حياتي والبداية من جديد. اتساع المدينة واتساع الحياة واتساع الليل يجدد جلد الأمل، الذي أصبح أملًا متعدد الأطراف بأرجل متعددة، كرأس ميدوزا.
أخرج منها ليلًا في طريقي للإسكندرية، أرقد على بيضة الإبداع، في بداية الطريق هناك جرح ذهني، سرعان مايلتئم في المنتصف، وأصل الإسكندرية والبيضة في قلبي، وحلم أن أستأنف السفر لها مرة أخرى وليس الأخيرة.
أحيانًا كنت هشًا أمام المدينة، أنسحب مؤقتًا من نزالي الممتد معها، وكلما بعدت عنها تبدأ قوتي في الظهور. الهشاشة والقوة معًا جزء من تجربتي في القاهرة. تضعني أمامها وتسدد لي اللكمات لتستفز الملاكم والمقاتل الذي يعيش داخلي. عبر النزيف الذهني، الذي سال طوال ليل ونهار سنوات علاقتي بها، تكوَّن مذبح نفسي اسمه القاهرة، أقف أمامه لأعترف.
خرجت ولا أعرف متى سأعود: هذا ملخص حياتي هناك. هناك عودة مؤجلة، ومستقبل مؤجل مخبوء فيها، لذا فالنهاية ليست هنا، هناك وقت، ليس منقوصًا من حياتي، لـتأمل كل شيء واللعب والمرح، والتجريب والاعتراف.
في القاهرة لا يُنسى الماضي
نكرر أنفسنا وتمردنا والمدينة هناك مستيقظة تنظر إلينا بجدية إله لا يقوى على إنقاذ مخلوقاته. كان هذا جزءًا من لا شعوري بالقاهرة، أنها لن تمنح الأمان، أو السكينة، أو النجاح، ولكن ستمنح ضفافها وتجاعيدها وعتبات مساجدها الملساء. ستمنح هذا الكنز لمن يريد، وبأي شكل يريد. ستضيف أزقة ملتوية لحياتك، ستضيف تلك الحياة التي كانت وظلت ماثلة في الحجر والمآذن، وعتبات المساجد، وليس فقط في المقابر. وربما هذا ما يميزها، عن الإسكندرية حيث الماضي مسجون تحت الأرض في المقابر، أما في القاهرة فهو منبسط وطاف كأرض مزروعة بالخلود والتماسات اللا مرئية.
في القاهرة لا يُنسى الماضي، وأيضًا لا تكون أسيرًا له، لأنه أصبح ذائبًا في الحاضر، فيمكن أن تسير معه دون أي استقطاب زمني أو تاريخي، لذا يلازمك الشعور بالخفة والقفز فوق التاريخ، وربما الشعور بالتحرر من الذكريات أيضًا، ليست المؤلمة فقط، ولكن كل الذكريات، لتعود ناسيًا وطافيًا فوق ذلك النسيان.
مرآة الإسكندرية
أكون خارج نفسي هناك، الخارج اللا منظور منها الذي ترشحه المدينة، وتمنحه للعابر. تتمدد النفس حتى تعتاد التمثل. تعيش تجربة ذاتية للنضج واستخلاص صفاءك من ذاتيتك المتغيرة.
هذا القادم من اللا مرئي كامن في الزحام، في تزاوج المرئي باللا مرئي، الموت بالخلود، الماضي الذي يلبس قناع الحاضر.
مدينة خلاصة امتزاج وتذويب أفقي لحقب تاريخية وليس رأسيًا، وهذا مايفرقها أيضًا عن الإسكندرية التي تدفعني للبحث في أعماقي، أما القاهرة تدفعني لأجدد جلدي وأوسع من شراييني مواجهًا المستقبل اليائس بجرأة ويأس موازيين.
ربما القاهرة، بالنسبة لي، مرآة للإسكندرية، المستقبل فيها هو الماضي للثانية ولكن بعد أن يصير رمادًا. مدينة الرماد والذكريات المحترقة والذكريات المنقوشة على كل تفاصيل شخصيتها المعمارية.
هناك لن تعيش بذاكرة، وأيضًا لن تخلق ذاكرة جديدة. هدأة من الذكريات واستعادة الأنفاس لتكمل حياتك خفيفًا كأحد تلك الأحجار، أو الأسبلة، التي هجرت ماضيها، وتخفت وسط حياة البشر، لتضمن عيشها ومجاورتها للآخرين، لتضمن أخوة بدون مسؤوليات فادحة. منحتني القاهرة هذه الذاكرة، وهذه الأخوية المنفتحة.
ربما تحولتْ القاهرة إلى إسكندرية كفافيس التي سأودعها، ولن أبكي أمامها، وسط همهمات الفرقة الموسيقية التي تعزف ليلًا.
ربما كانت الرحلة إليها، بحثًا عن صورة أخرى للإسكندرية. مدينة تولد من رحم ذاكرة مدينة أخرى. ربما هي رحلتنا نفسها، نمنح أدوارًا أخرى للذاكرة الموروثة، كي نتسامح مع الماضي، وأبطاله. نغير من ذاكرة المدن وميراثها، شديد السطوة، لنجد مكانًا نودعه ويودعنا بدون بكاء.