
ترامب.. خليط الفاشية بالدعارة
بدايةً من اليوم الأول لتوليه رئاسة الولايات المتحدة، خصصت العديد من القنوات التليفزيونية الأوروبية فقرة خاصة وثابتة في نشرات الأخبار، لـ"فرمانات" دونالد ترامب اليومية التي يوقعها "لايف" على الهواء مباشرة، دون أي دراسة، مرتجلًا أثناء التوقيع مؤتمرات صحفية، يدلي فيها بدلوه في أي موضوع. يمتلئ الدلو عادة بالقرارات العشوائية، وبآراء لا تعبِّر سوى عن درجة مقلقة من الجهل. وكلتاهما، الفرمانات والآراء، بحكم عشوائيتهما، تدمر مع كل يوم جديد أوهامنا، نحن أبناء العالم الثالث، عن تقدم العالم الأول وعلميته، وخطواته التي لا تُتخذ إلا بعد دراسة.
وبينما تتحطم أوهامنا عن العقلية العلمية للعالم الأول، تتحطم أوهام قوة وأصالة الديمقراطية الغربية عند أبناء هذا العالم بينما يراقبون ترامب وفريقه. فينطبق على أوروبا "المتفرجة" هذا الوعد الإعلاني القديم "مش هتقدر تغمض عينيك". لكن هذه الأعين المفتوحة على اتساعها لا تتلقى المرح والتسلية هذه المرة، بل الفزع.
تعي أوروبا أن جانبًا مهمًا من منهج ترامب في الحكم تكرارٌ لمنهجه القديم في رئاسته الأولى، بعد تضخيمه عدة مرات، بما يليق بشخص جريح، آتٍ لتعويض فترة الرئاسة التي يعتقد أنهم سرقوها منه، ليحطم أسس الديمقراطية وبسهولة بالغة، وحتى الآن دون أي مقاومة حقيقية.
منهج ترامب يمتد للأسلوب، للأداء الفني، بحيث تتوالى فرماناته وقراراته وتهديداته، وتتكاثر أبواب العداء التي يفتحها مع دول، وتكتلات دولية، وقطاعات اجتماعية أمريكية، بكثافة، ودون هدنة لالتقاط الأنفاس. بحيث يصعب على هذه الأطراف، وأهمها الاتحاد الأوروبي، اللحاق به. يوقعها في حالة من اللهاث، فتفتقد للزمن الكافي لدراسة فرماناته وتصريحاته، لترسم سياسات مضادة. فتبدو أوروبا وأطراف أخرى عدَّائين فاشلين في اللحاق بهذا الصاروخ المُنطلق.
زمن الفاشية
إن كانت هذه الطريقة تشكل أحد جوانب الأسلوب "الترامبي"، الأوضح في تعبيره عن التيارات اليمينية المتطرفة ذات النزعة الفاشية بصورتها الحديثة، التي تحكم عددًا من بلدان العالم، وتنافس بقوةٍ لحكم بلدان أخرى، فإن الجانب الآخر من المنهجية، الذي يعرفه الأوروبيون الواعون بأنه ليس مجنونًا، هو قدرته على التراجع، إذا شعر بالتهديد وبثبات الخصوم وواجه مقاومة، مسترجعين حقيقة أنه لم ينفذ إلا نسبة محدودة من كل السياسات التي أعلن عنها خلال ولايته الأولى.
ترامب ليس مجنونًا. هذه الحقيقة التي يجب إدراكها لنفهم ما يعبر عنه بصورة أكثر دقة. إنه القائد الأجدر لتيارات التطرف اليميني والفاشي بكل تنويعاتها عالميًا. ربما يكون الجديد هذه المرة الأمميةَ الفاشيةَ المتمتعةَ بدرجة عالية من التنسيق بينها. وتحالف الرئيس الأمريكي التام معها من ناحية، ومن ناحية أخرى مع تشكيل أقرب للعصابية، مُشكَّل من بعض أغنى رجال الأعمال في العالم، انسحقوا أمامه منذ الأيام الأولى لفوزه في الانتخابات، ليتساووا في الوقوف أمامه هو وحليفه الأقرب إيلون ماسك، في طابور الطاعة والولاء والتعاون. بداية من مالك ميتا، وصولًا لمالك أمازون، مرورًا بملاك كوكاكولا وديزني وغيرهم.
رجال أغنياء، بيض البشرة، ذكوريون، تجار عقارات أو أصحاب بيزنس لا إنتاجي في أغلبه، عديمو الخبرة السياسية والدبلوماسية، جهلة ومبتذلون، يحكمون الولايات المتحدة الآن. توصيفهم، هم وحلفائهم، بأنهم رموز الفاشية الجديدة، لا علاقة له بالاستعارات أو المجاز. فهذه التيارات والقوى والأفراد ذات النزعات الإمبريالية الحقيقية، تُعلي، بِسمات فاشية تقليدية، من قيمة الدعائية والأكاذيب، وتتحالف مع أعدائها التاريخيين بما أنهم متماثلون معها في الطبيعة. فلا يجب أن يُدهشنا أن تكون تيارات التطرف اليميني الأوروبي، من ضمنها من لا تُخفي طبيعتها كامتدادات للنازية القديمة التي أرسلت اليهود للمحرقة، أقرب حلفاء إسرائيل، الدولة ذات السمات الفاشية.
لا تنحصر السمات الفاشية في رمزية أن يلوح إيلون ماسك، وغيره من المقربين للرئيس الأمريكي، بالتحية النازية. بل تمتد إلى الاستعلاء الاستعماري للقرن التاسع عشر، الذي استعاده هتلر وموسوليني في ثلاثينيات القرن العشرين، ويعيد ترامب وفريقه إحياءه من جديد. تتجسد في إعادة تدوير فانتازيا احتلال أراضي الغير واستغلالها، من دون عناء البحث عن مبرر. بداية من تصريحاته المتعلقة بضم كندا، أو شراء جرينلاند، أو إعادة احتلال قناة بنما، والتعبير صراحة عن رغبته، كترامب؛ الفرد المقاول، في امتلاك قطاع غزة لتحويله لريفييرا الشرق الأوسط. وصولًا لتدخل فريقه في الانتخابات الألمانية، بدعم صريح لقوى اليمين المتطرف، ورثة النازية، مرورًا بإهانة الرئيس الأوكراني في المكتب البيضاوي، وكأنه مجرد ممثلٍ لمستعمرة.
زمن الاستعراضات الوقحة
منطق القوة والقدرة، بكل استعلائيته، يتحول عند هذه القوى الفاشية لمنهج، أبعد من مجرد خطاب. فخطوات ترامب وضرباته الاستعراضية التي يصعب حصرها، ورغم معرفته بأن بعض ما يطرحه مستحيل التحقق، تستهدف أحيانًا ليس خلق وقائع جديدة، بل مجرد بث الرعب والقلق عند الآخرين. تنبع من نفسية وعقلية تاجر العقارات الفاسد، الذي كانه دومًا. التاجر الذي اعتاد، حرفيًا لا مجازًا، رفقة نجمات البورنو وشراءهن. بكل ما تعبر عنه فانتازيا عالم البورنو من مبالغات في تكوين الجسد وأدائه.
لا تتوقف الضربات النفسية عند التصريحات والفرمانات والمؤتمرات الصحفية الوقحة بل تمتد لحقل الرمزيات
تتضخم هذه السمات النفسية والعقلية حين تقترن بالثراء والنفوذ الفاحشين، والاعتياد على أن تمر جرائمه، بكل تنويعاتها، دون عقاب، أيًا كانت؛ فساد مالي ورشى، دعوة الانقلاب والتحريض على اقتحام الكونجرس، اعتداءات جنسية.. وغيرها. مع إشهار لمتعته الأكبر؛ أن تكون ممارسة السلطة تحت الأضواء المكثفة واللامعة، التي لا تنطفئ ولو للحظة واحدة، مصحوبة بالكلام الفارغ الكثير الذي لا يتوقف، مثل أي ديكتاتور فاشي.
وجود ترامب بهذه السمات، كواجهة لموجة تطرف يميني عالمية، وبعد عام ونصف العام من القبول الدولي بممارسات سياسية وعسكرية تعلمت البشرية من قبل رفضها بحسم، مثل حرب الإبادة في غزة، وبجرأة أن يتخذ إجراءات شديدة التهور تُغير طابع دولته نفسها بجعلها أشبه بأكثر الديكتاتوريات وقاحةً وبدائيةً، هو نفسه ما يمكن أن يتسبب في زلازل تقوض أرضيته وسلطته.
فحين يصدر التصريح السياسي من رئيس أقوى بلد في العالم، لا يتوقف تأثيره عند حدود الأخذ والرد السياسي، بل يدفع العالم تلقائيًا للدخول في سلسلة من العمليات المركبة الاقتصادية والاجتماعية، التي تقوده لوضع/واقع جديد، خصوصًا أنه يتخذ إجراءات جذرية، يُنفذ فعلًا بعضها. لكنها وحتى هذه اللحظة في أغلبها تؤثر على مجتمعه نفسه. سواء تقليص الإدارات الحكومية، أو تصفية هيئة المعونة وهيئات أخرى، أو محاولة تطهير الولايات المتحدة من المهاجرين واللاجئين، بالقبض عليهم وتقييدهم كمجرمين دوليين وترحيلهم، وتطهير البلد من الهيئات الرقابية التي تحمي المستهلكين من أمثال "جوكر" إدارته، إيلون ماسك، وغيرها.
أسلوب الضربات النفسية المتسارعة لا يتوقف عند مسألة الهجرة، أو الإجراءات الجمركية العقابية تجاه المكسيك أو الصين، بل تمتد للحلفاء الأقرب، مثل أوكرانيا والاتحاد الأوروبي. فهو، رغم جهله، يدرك أن الخصوم الجدد إن لم يواجهوه سريعًا، سيتراجعون، وسينتصر. ولأن أوروبا حتى الآن لا تستطيع ملاحقة إيقاعه، نجده يسير في طريقه، مبالغًا في وتيرة التطرف وإيقاعه. والهدف الثابت والأكيد دائمًا هو المكسب المالي. سواء كان الحصول على المعادن النادرة في أوكرانيا، التي يحتاجها إيلون ماسك في صناعاته، أو أن يقبل المهاجرون واللاجئون المرعوبون من احتمالية ترحيلهم، بالعمل في ظروف أقرب للعبودية.
لا تتوقف الضربات النفسية عند التصريحات والفرمانات والمؤتمرات الصحفية الوقحة، بل تمتد لحقل الرمزيات. فعلى سبيل المثال يمنع الرئيس الأمريكي أكبر وكالة أنباء أمريكية، أسوشيتد برس، من دخول المكتب البيضاوي والطائرة الرئاسية للتغطية، لمجرد أنها لم تلتزم بفرمانه تغيير اسم خليج المكسيك لخليج أمريكا. ليست مجرد رمزية عن الحماقة، أو التهور، بل إنه جوهر الممارسة الديكتاتورية، والهوى الاستعماري القديم، المُستعاد في زمن الفاشية الجديد.
وفي حقل الرمزيات سنجد أن من ضمن السمات الجامعة لهؤلاء الرجال من رموز الفاشية الجديدة، باختلاف بلدانهم، أنهم ذكور ألفا. يحرصون، عن قصد، على أداءات جسدية توحي للمتفرجين بأنهم مفرطون في ذكورتهم. مع قدر عال من قلة التهذيب واللياقة، والقدرة العالية على توجيه السُّباب. وهو من ضمن منهج الضربات النفسية نفسه الذي يستهدف من ناحية الحط من السياسة والحوار والتفاوض، وتدميرهم بتحويلهم لصراعات لغوية بذيئة، وأن تكون هذه الصراعات أكثر حدةً وعنفًا إن أمكن.
إنها الروح نفسها التي نجدها في ذلك الفيديو المبتذل، الذي يصوّر فيه ترامب بتقنية الذكاء الاصطناعي حلمه في امتلاك غزة وتحويلها لمكان هجين بين الكازينو وبيت الدعارة. على خلفية مستعادة من فانتازيات الذكور الغربيين عن أجواء ألف ليلة وليلة ونسائها. وفي المنتصف، يقف هو شامخًا، في هيئة مجسم هائل، مصنوع من الذهب، كمالك للعالم، يُلقي للأطفال الفلسطينيين بالأوراق المالية.
الجهل المهووس بالذكاء
انتجت التقنية المسماة بـ"الذكاء" الاصطناعي فيديو، بالإمكان وصفه ليس فقط بالقبح والوقاحة، بل أيضًا بالغباء. غباء يعبر عن هوس الفاشيين الكلاسيكي بما يتصورونه "الاكتمال العقلي"، الذي لا يتعارض مع الهتاف ضده، ورفضه، ورؤيته كخطر، كعدو. فلا يمكن نسيان شعار الفاشية الإسبانية في ثلاثينيات القرن الماضي "الموت للذكاء"، مُشهرًا في وجه كل المثقفين والفنانين والمفكرين الرافضين للانقلاب الفرانكي والفاشية.
بعد فيديو ترامب الغزاوي الشهير بساعات قليلة، أصدر أحد أقرب حلفائه دوليًا، حاكم الأرجنتين اليميني المتطرف "ميلاي"، قانونًا بتغيير اللغة المستخدمة في الوثائق الحكومية، ليضع تصنيفات جديدة للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة. بحيث يتم تصنيفهم في درجات: أغبياء، غير مفيدين، مغفلين، وضعاف عقليًا. وبهذه التعبيرات نفسها.
ميلاي، هذا المتورط في قضايا فساد، والمهووس بالحديث عن الذكاء، واتهام كل معارضيه بالغباء والعته، الذي اشتهر باستعراضاته المسرحية حاملًا منشارًا كهربائيًا أهدى لإيلون ماسك مثله، مهددًا به خصومه بالعقاب، وشعبه بالتقشف، اضطر إلى التراجع عن فرمانه بعد أقل من يومين. فنجد هنا إحدى سمات الفاشية؛ الخوف من المجتمع إن غضب.
الهوس بالقدرات العقلية، والحديث عنها كثيرًا، نراه في أحاديث ترامب وتباهيه بالرجل الكبير في إدارته، إيلون ماسك، إذ يصفه مرارًا بأنه شديد الذكاء. وهو الهوس ذو الأصل التاريخي "الهتلري". فضحايا النازية الألمانية لم ينحصروا في اليهود والشيوعيين والديمقراطيين والمثليين جنسيًا. بل كانوا أيضًا ذوي الاحتياجات الخاصة، على اعتبار أنهم عبء على الأمة العظيمة، أمة الذكاء والتفوق.
دون الدخول في درجة ذكاء، أو غباء، كل هؤلاء الفاشيين والمهرجين الذين وصلوا لحكم أقوى بلد في العالم؛ فالمرعب حقًا هو هذا الخليط بين السلطة، والمال، والتفاهة، والجهل، والابتذال، وقلة الذوق، والتهور، والطموحات غير المحدودة. إنه الخليط نفسه الذي نراه إذا تأملنا حكام إسرائيل. الخليط الذي خلق بعد السابع من أكتوبر إبادة تصور العالم أنه تخطاها منذ الحرب العالمية الثانية. لتقدم إسرائيل موديل مُطورًا للفاشية، مقبولًا من نصف العالم، ومناسبًا للعصر الجديد.
المفارقة، غير المضحكة هذه المرة، هي أن تاريخ العالم يخبرنا بأن أنواعًا أقل تطرفًا وأكثر نباهة من هذا المزيج لم تجلب إلى البشرية سوى الكوارث والمآسي الكبرى، إن لم يتم التصدي لها وهزيمتها، وتصفية وجودها. تُعلمنا غزة أن عودة هذا الزمن بدأت. لكن غزة تخبرنا أيضًا بأن هناك طبقات أرضية، زلزالية، بدأت في التصدع والاصطدام. ليس فقط بين الولايات المتحدة وأوروبا، عبر الأطلنطي، بل بين كل قوى التطرف اليميني والفاشي من ناحية، والعالم من ناحية أخرى.
ربما من هنا، من هذه اللحظة للتحولات الكبرى التي نعيشها، وبداية تشكل الملامح الأولى لنظام عالمي جديد يختلف تمامًا عن السابق، يكون خلاصنا من هذا التشكيل العصابي الفاشي العالمي، أو أن ندخل في كابوس لم يتخيله أحد.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.