برخصة المشاع الإبداعي: i support street art
جرافيتي لدونالد ترامب

شكرًا ترامب على الفرصة "بعد الأخيرة"

لا نجاة للأنظمة العربية إلا باصطفافها خلف شعوبها

منشور الاثنين 17 فبراير 2025

تدفعني الأحداث اليومية في الملف الفلسطيني بعد تصاعد الرفض المصري السعودي الأردني لخطة تهجير الفلسطينيين من غزة، إلى توجيه الشكر للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي تسبب بهرائه القميء في تغيير الخطاب الرسمي والإعلامي في الدول الثلاث، إلى حد مقارب لما طالب به كثيرون خلال حملة الإبادة الإسرائيلية، وكانوا يُتهمون بسبب ذلك بالرعونة وعدم إدراك الحكمة!

لاحظنا تغيُّر نبرة الخطاب الرسمي والدعائي السعودي ضد إسرائيل والمقترحات الأمريكية خاصة بعدما قال نتنياهو إن لدى المملكة ما يكفي من الأراضي لتوفير دولة للفلسطينيين، بالتوازي مع تصريحات كررها مرارًا عن اقتراب التطبيع مع الرياض، التي اتسمت ردود من فيها دومًا بالروتينية واشتراط قيام دولة فلسطينية أولًا، فباتوا يستخدمون ألفاظًا أكثر حدة مؤخرًا.

شاهدنا هبّة الأردن وحشد كل أدوات العرش الهاشمي بالضغط واستغلال العلاقات التاريخية مع أمريكا وبريطانيا، للتأكيد على ثبات الموقف ورفض التهجير، لتغيير ردة الفعل العربية الواسعة على التصريحات غير الموفقة للملك عبد الله الثاني مع ترامب، التي جاءت أقل من مستوى تصريحاته السابقة قبل وبعد طوفان الأقصى، ورأينا كيف أنتج التفاعل والضغط بيانات أمريكية واضحة تبرئ ساحة الملك وتؤكد أنه لم يوافق على التهجير، ومقطع فيديو غير مسبوق من ترامب إلى الشعب الأردني مديحًا للملك وجهوده!

ومساء الثلاثاء الماضي لوّحت مصر للمرة الأولى في بيان رسمي باحتمالية زعزعة العلاقات الدبلوماسية الرسمية مع إسرائيل، في بيان أعقب لقاء ترامب وعبد الله، جاء فيه أن "أي رؤية لحل القضية الفلسطينية ينبغي أن تأخذ في الاعتبار تجنب تعريض مكتسبات السلام في المنطقة للخطر".

وذلك بعد يوم واحد من استخدام تعبير "القدس الشريف" عاصمة مأمولة للدولة الفلسطينية بدلًا من "القدس الشرقية"، وبعد أيام معدودة من هجوم مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة على مندوب إسرائيل بعدما طرح استفسارات (يمكن تصنيفها جس نبض) حول التسليح المصري في سيناء، وقبلها خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي الواضح عن رفض التهجير وحديثه بإعجاب عن مشهد عودة أهالي غزة النازحين إلى أراضيهم.

وحتى على السوشيال ميديا، نلاحظ كمَّ الحسابات المجهولة والمعلومة الخليجية والمصرية التي كانت تبث رسائل سلبية تجاه المقاومة الفلسطينية، أو تروّج لرسائل مائعة تجاه الإبادة، ثم غيّرت وجهتها مؤخرًا إلى موقع قريب من مناصري القضية.

والحاصل أننا أمام مشهد غريب عن سياق ما اعتدناه من المواقف العربية في العقود الأخيرة، ليس فقط من نسج صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته التي أحيت القضية وأعادت ترتيب الأولويات، بل هو في المقام الأول من "بركات" مقترح ترامب الذي ترجم ببساطة الآمال الصهيونية من قادة إسرائيل واللوبي العالمي التابع لها، وجسَّد أمام الأجيال الجديدة من الزعماء والشعوب العربية أحلام اليمين الصهيوني منذ تعاليم زئيف جابوتينسكي وحتى صراخ إيتمار بن غفير، بإخلاء أرض فلسطين وإحلال الشعب اليهودي بدلًا من العرب على أساس توراتي.

آلاف النازحين الغزيين في مسيرة عودتهم إلى شمال القطاع، 27 يناير 2025

تصفير الشعوب في معادلة الأرض

وربما كانت تلك الإيجابيات من أسباب تردد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعض الشيء في التفاعل الإيجابي مع مقترح ترامب، وامتناعه لأيام عن تأييده علنًا، قبل أن ينخرط بمزيد من الاستفزازات خلال زيارته لواشنطن، وربما رأى فيه فرصة لتكريس نظريته عن "سلام الردع" التي يرددها منذ ثلاثين عامًا، وخلق حلبة صراع جديدة تشغل الداخل الإسرائيلي عن ملاحقته قضائيًا وعن الإمعان في دراسة خيبات حملة الإبادة، وأيضًا غطاء لعدوانه على الضفة الغربية الذي تسكنه أيضًا فكرة التهجير عبر زيادة الضغط على الكتلة السكانية الفلسطينية والتغيير المطرد في التركيبة الديموغرافية.

وإذا كانت ثقافة ترامب لا تسمح له بمعرفة الكثير عن دقائق الشرق الأوسط، فإن نتنياهو يعي جيدًا أن التهجير لن ينجح إلا بـ"تصفير الشعوب" وإخراجها من معادلة القرار السياسي على مستويين اثنين. أولهما ليكودي بامتياز وهو إلغاء أي اعتبار للشعب الفلسطيني وحقوقه غير القابلة للتصرف بمفهوم القانون الإنساني الدولي، والعبث بكل "ما لا يمكن نقله أو من المستحيل نزعه" كتقرير المصير والاستقلال الوطني بالأرض والجنسية والمقومات السيادية والحق في الحياة والسكن والتنقل.

لقد تأسست اللجنة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف عام 1975 بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، في محاولة مبكرة لمحاصرة الجرائم الإسرائيلية الناشئة على الأرض بعد نكسة 1967. ولا يعرف كثيرون أن رئيس حكومة الليكود مناحم بيجن، شريك الرئيس الراحل أنور السادات في مفاوضات كامب ديفيد واتفاقية السلام وجائزة نوبل، كان أول من سعى إلى تحدي أعمال تلك اللجنة من خلال ممارسات التهجير بالقوة خاصة من الأراضي الزراعية والتوسع في إنشاء المستوطنات من خلال التمهيد لها بضم الأراضي للجهد العسكري، وإصدار قوانين كرست للاستيلاء على أراضي الضفة والقطاع، مما تسبب آنذاك في مصادرة 30% من أراضي الضفة، منها 94% كانت ملكيات خاصة.

أما المستوى الثاني لتصفير الشعوب، فهو الفصل التام بين سياسات الأنظمة العربية وتوجهات شعوبها الرافضة لوجود الكيان والمناهضة للتطبيع معه. وهنا علينا الاعتراف بأن جهود الضلال والتضليل التي بدأت بتوقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل نجحت في زرع أنظمة وشخصيات مؤثرة وتغيير عقائد بعض الأجهزة وتوجهات بعض النخب.

لم يكن الهدف الأول هو التطبيع، فـ"الطبع يغلب التطبيع" كما عبر لينين الرملي بإيجاز بليغ على لسان عادل إمام "بخيت حنيدق المهيطل" في "هالو أمريكا -2000". ولم يكن التسليم بوجود إسرائيل كحقيقة غير قابلة للتفاوض. بل كان الهدف هو فصل القضية الفلسطينية عن مصير باقي شعوب المنطقة. فتراوح التعامل الرسمي معها بين اعتبارها قضية مركزية ولكن في الفراغ، أو حسبانها قضية ذات طابع خاص لا يمكن تعميمه.

إن استغراق كل هذه المدة منذ بدء العدوان الحالي على غزة لنرى موقفًا عربيًا رسميًا شبه موحد، واهتمامًا أصيلًا واسعًا كما حدث بعد مقترح ترامب، دليل مؤسف على نجاح كبير لتلك الجهود الصهيونية والأمريكية في إرباك الضمير العربي وبعثرة أولوياته الجيوسياسية.

الرهان على الاصطفاف الحقيقي

على ذلك يمكن اعتبار اللحظة الراهنة بداية جديدة، تنجلي فيها الحقائق المجردة أمام أجيال لم تعاصر حروبًا كبرى، وقيادات غير محمّلة بأفكار راديكالية أو حتى تصورات عن المصير العربي المشترك. لكن استمرارية السعي الصهيوأمريكي أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن النجاة الفردية وإمكانية مساعدة الفلسطينيين عن بُعد والصداقة المتكافئة مع الإسرائيليين والنظر للمستقبل بمعزل عن الماضي، كلها أوهام ساذجة لن تصمد دقائق إذا انفلت زمام الآلة الحربية الصهيونية، أو قررت واشنطن قطع المساعدات أو مراجعة العلاقات.

اصطفاف الأنظمة مع شعوبها هو الطريق الوحيد لنجاتها من ابتزاز ترامب وأطماع نتنياهو

من فضائل اللحظة أيضًا تمايز المواقف العربية بما ينبئ عن المحددات الرئيسة لسياسات الأنظمة، ومَن بالإمكان البناء معه والاعتماد عليه، ومن ينبغي الحذر منه. وسيتكشّف هذا أكثر مع اقترابنا من موعد اجتماع الرياض المقرر الأربعاء المقبل ثم القمة العربية الطارئة المقررة 27 من الشهر الحالي.

فالظرف لا يحتمل إهدار المزيد من الوقت والفرص مع أطراف لا تجد "بديلًا" لخطة ترامب أو تتسامح بأي شكل مع التهجير وتبحث له عن ألفاظ أقل وطأة. ولا يمكن اليوم أمام هذا التهديد الوجودي قبول المال وسيلة لنخر السوس في عضد القضية، ولا مدخلًا لإفساد أي خطة جادة لإعادة الإعمار والانتقال السياسي في الأراضي الفلسطينية، مهما زادت المغريات واشتدت الحاجة. لأن خطة اليوم التالي في غزة، وقبل أن تكون عملًا عربيًا مُشتركًا، فهي جزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري، تتضاعف أهميته في ظل التهديدات الحالية.

وبينما يجري الإعداد لتلك الخطة التي لا نعرف هل ينتظرها ترامب فعلًا أم يتظاهر بذلك، فإن فرضها خيارًا وحيدًا وحتميًّا، لوقف مهاترات التهجير، يتطلب من الأنظمة العربية، تحديدًا مصر والسعودية والأردن وقطر، الالتزام بـ"الاصطفاف" مع توجهات شعوبها ومصالحها العليا والمستقبلية.

اصطفاف الأنظمة مع شعوبها هو الطريق الوحيد لنجاتها من ابتزاز ترامب وأطماع نتنياهو واللوبي، ولن يتحقق ذلك إلا باتخاذ خطوات جادة لانفتاح المناخ السياسي الداخلي والكف عن استعداء المعارضين وإزالة القيود عن الحريات نحو مصالحة وطنية شاملة، كشرط أساسي لتقوية الجبهة الداخلية تحسبًا للاضطراب الإقليمي.

وفي المضمون؛ يجب أن يكون مشروع "لجنة الإسناد" في قلب الخطة العربية، والتأسيس على الجهود المصرية المبذولة حتى الساعات الأخيرة لتقريب وجهات النظر، مقابل التزام كل من حماس وفتح بمسؤوليات وضمانات محددة، والعمل على تحديث هياكل السلطة عمومًا بتحقيق مصالحة قابلة للصمود.

ومن الخطير الآن الرضوخ لأي ضغوط -عربية أو غربية- تتجاهل الحقائق الميدانية على أرض غزة وتوازنات القوى بين الحركات والفصائل، أو قبول محاولات تجاوز المقاومة أو محاصرتها سياسيًا، لأن هذا ببساطة سيعني صناعة مشهد انتصار لإسرائيل لم تتمكن هي من انتزاعه بالحرب.

ولا ينفصل ذلك عن ضرورة استثمار حالة عدم الارتياح الأوروبي تجاه ترامب ومقترحاته المنذرة بحرب اقتصادية عالمية، وتكثيف الخطوات التي بدأتها مصر والأردن بترويج الخطة العربية في العواصم الغربية، وكذلك بناء رأي عام في الأمم المتحدة بالتعاون مع دول الجنوب، لا سيما من بذلوا جهودًا مكثفة من أجل فلسطين.

إن تهديدات ترامب -الجديّة في وجود نتنياهو- تبدو فرصةً "بعد أخيرة" في ثوب اختبار قاسٍ. لربما تفرض على الإنسان العربي، حاكمًا ومحكومًا، أن يعتصر من نفسه التقاعس والأنانية والغفلة والانبطاح، قطرةً قطرة (على طريقة أنطون تشيكوف والتخلص من العبودية) ليستيقظ يومًا نافضًا عن نفسه هموم الإبادة والخذلان وأخطاء الماضي. عندها فقط يمكننا الحديث عن المستقبل.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.