تناول المسلسل الوثائقي جيفري إبستين: فاحش الثراء (Jeffrey Epstein: Filthy Rich) الذي أطلقته شبكة نتفليكس في مايو/ أيار الماضي، قضية اعتداء الملياردير الأمريكي واسع الصلات على عشرات النساء القصر والاتجار بهن لأغراض جنسية، والتي لم تقفل بانتحاره العام الماضي بعد القبض على صديقته السابقة سيدة المجتمع البريطانية جيلين ماكسويل الشهر الماضي، انتظارًا لبدء محاكمتها بتهم "الاستمالة والاستغلال الجنسي لفتيات قاصرات".
ما يلفت الانتباه في الحلقات الأربع من المسلسل الوثائقي القصير، أنه يقدم عرضًا بانوراميًا مليئًا بالكثير من التفاصيل، التي تمتد عبر عقدين ونصف تقريبًا، بدءًا من عام 1996 عندما قدمت الفنانة التشكيلية ماريا فارمر أول بلاغ ضد إبستين، وليس انتهاءً بانتحاره في أغسطس/ آب 2019.
تعرض هذه الحلقات أبعاد القضية التي كانت تنمو مثل "كرة الثلج" -وهو تعبير شائع في وصف التطورات التي عادة ما تلحق بالقضايا من هذا النوع- حيث تبدأ القضية بشهادة امرأة أو اثنتين، ثم تلحق بها العديد من الشهادات من ناجيات، بالإضافة إلى معلومات يقدمها شهود، هم عادة أشخاص عملوا في أوقات سابقة مع المعتدي. وتكون هذه الشهادات في صورة علنية أو عبر إفادات مجهلة تصل إلى الصحف أو أقسام الشرطة أو يجمعها محامو بعض الناجيات من أجل حشد أكبر عدد من الشهادات ضد المعتدي/ المدعى عليه.
في حالة جيفري إبستين، كان هناك لدى شرطة بالم بيتش، فلوريدا، ما بين 35 إلى 40 ناجية/ ضحية على استعداد للإدلاء بشهادتهن، في مرحلة متقدمة من التحقيق. لكن الحال لم يكن كذلك في البدايات، حيث أحجمن عن توريط أنفسهن معه. تقدر وسائل الإعلام عدد الناجيات بالمئات من الشابات القاصرات، بعضهن كن في الـثانية عشرة من عمرهن، أتى بهن إبستين من فرنسا على متن طائرة وغادرن فور الاعتداء عليهن-بحسب التحقيقات التي أوردتها الحلقات الوثائقية.
الدافع لكتابة هذا المقال، هو تواتر الشهادات التي تتهم الصحفي الاستقصائي (ه. ع) بالاغتصاب والاعتداء والتحرش الجنسي، لصحفيات مصريات وسوريات، داخل مصر وخارجها. إن تأمل الشهادات المنشورة والبيان الذي أصدره المدعى عليه (ثم حذفه لاحقًا)، والفيلم القصير الذي أنتج للدفاع عنه، وكذلك التدوينات المنشورة من وقت لأخر دفاعا عنه، وبعضها من نساء، نمى لديَّ اعتقاد بأن هناك العديد من السمات المشتركة بين قضية جيفري إبستين، وقضية (ه. ع)، وربما لو حاولنا توسيع الدائرة قد نضم إليها قضية الداعية الإسلامي طارق رمضان، كنموذج يمكن أن يمنحنا بعض المعرفة عن كيفية ارتكاب المعتدين جرائمهم، واللافت أن جميعهم يتصرفون بنفس السلوك، ولديهم العديد من السمات الشخصية والنفسية المشتركة، وكذلك الحيل التي يستخدمونها لاجتذاب ضحاياهم.
في هذا المقال، أود تقديم 10 ملاحظات أساسية مستمدة من المعلومات التي عرضتها الحلقات الوثائقية عن قضية جيفري إبستين، لتعطينا لمحات عامة عن النمط الذي يتبعه المعتدين في الجرائم الجنسية ضد النساء، وعن بعض سمات المسار الطويل الذي تأخذه القضية، خاصة إذا كان الشخص صاحب نفوذ أو من المشاهير كما في حالة إبستين، الذي كان مليارديرًا فاحش الثراء متعدد العلاقات بأشخاص نافذين على رأسهم الرئيسين الحالي دونالد ترامب والأسبق بيل كلينتون، بالإضافة إلى الأمير أندرو الابن الأصغر للملكة إليزابيث، بخلاف المشاهير والفنانين الذين كانوا يصاحبونه على طائرته الخاصة ويظهرون في الحفلات التي ينظمها، وبعضهم كان يذهب لقضاء العطلات في جزيرته الخاصة ليتل سانت جيمس التي وصفها ترامب في وقت سابق من عام 2015، أي قبل انتخابه رئيسًا، بـ "البالوعة"، ووصفتها وسائل الإعلام بـ "جزيرة الآثام".
1) هالة نجومية وغموض تحيط بالمعتدي
كان إبستين يحيط نفسه -كلما تحدث- بهالة ما من النجومية والشهرة والثراء بالإضافة إلى ثقة غير محدود بما يمكن أن يصنعه النفوذ وادعاء دائم بقدرته على تحقيق الأحلام أو تقديم مقابل مادي مغرٍ للضحية. أي شيء يمكن أن يمثل عنصر جذب لها. واحدة من الناجيات قالت إن جيفري قال لها "أنا أملك قسم شرطة بالم بيتش"، بينما ذكر أحد ضيوف الفيلم ممن سبق وعمل معه "لدى جيفري إبستين إحساس أنه فوق القانون".
تظهر في الحلقات فيكي وارد الصحفية بمجلة فانيتي فير، وتعتبر من أوائل الصحفيين الذين التفتوا لقضية اعتداءات جيفري إبستين. تقول وارد "كان من المعروف عن جيفري في نيويورك، أنه شخصية ثرية متعجرفة وغامضة، كان محاطًا دائمًا بنساء جميلات للغاية وأغلبهن صغيرات جدا".
وفيما بعد، عندما استعان أحد محامي الناجيات بأخصائيين نفسيين لتحليل شخصية إبستين، ومعرفة أي نوع من الأشخاص هو، قالوا إن السمة الأساسية في شخصيته هي إنه كان نرجسيًا، لا توجد لديه القدرة على التعاطف، وطالما رأى نفسه كـ "سيد الدمى"، و كان يحاول دومًا أن يكون سيد موقفه ومسيطرًا على عالمه، وحالما يفقد السيطرة ينتابه القلق.
تجدر هنا الإشارة إلى القصة التي نشرتها مجلة فانيتي فير عن إبستين عام 2003، والتي أظهرت إلى أي مدى يتمتع الملياردير بنفوذ قوي، حيث تقول فيكي إن "المقالة التي كُلفت بكتابتها من رئيس التحرير كان مفترضًا أن تكون قصة اجتماعية لا أكثر من ذلك، لكن كانت هناك إشارة خطر". ظهرت هذه الإشارة عندما قالت لها إحدى مصادرها، إنها تعرف امرأة مرت بتجربة "سيئة جدًا" في العمل مع جيفري، وإن أختها الصغيرة تعرضت للاعتداء بواسطته عندما كانت قاصرا.
تحول التحقيق إلى إتجاه مختلف تماما. كانت السيدة التي تحدثت كمصدر تشير إلى الفنانة التشكيلية ماريا فارمر وشقيقتها آني، اللتين تقدمتا ببلاغ إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI عام 1996، يتهمن إبستين بالاعتداء الجنسي عليهما. إلا أن المحقق الذي استمع إلى ماريا، رغم أنه أوحى لها بأنه يصدقها، وضع البلاغ في الدرج ولم يتصل بها أحد بخصوصه بعد ذلك، إلى أن بدأت فيكي تعمل على قصتها للمجلة، وتواصلت مع الأختين اللتين تحدثا إليها بعد تردد.
عندما ذهبت الصحفية إلى إبستين لتطلب منه الرد على دعاوى الأختين قال لها إنهما "مفتونات" به وإن "الدافع وراء الاتهام هو الانتقام؛ لأن الإعجاب لم يكن متبادلا"، وهدد الصحفية بأنه لو لم يعجب بالمقال "لن يكون الأمر في مصلحتها". هي كانت حاملًا في هذا الوقت، قال لها "سأطلب من طبيب ساحر أن يلعن أطفالك الذين لم يولدوا بعد".
فيما بعد، وجد رئيس تحرير مجلة فانيتي فير على باب منزله رصاصة ورأس قط مقطوع، وبعدها قرر حذف قصة الأختين من القصة، وقال للصحفية "أنا أصدق جيفري إبستين"، ودُفنت القضية إلى حين.
2) شهادات بتفاصيل متشابهة
كانت الملاحظة الأساسية التي خرج بها المحققون في قسم شرطة بالم بيتش بولاية فلوريدا، عندما بدأوا العمل على القضية في عام 2005، أن كل الفتيات اللاتي تحدثن إليهم يروين القصة نفسها، اعتقدت كل واحدة منهن أنها ستقوم بتدليكه مقابل مبلغ صغير من المال، ولكنها عندما تصل تجده قد استلقى عاريًا، ليتحول الأمر من تدليك إلى اعتداء جنسي، كما إن المبلغ كان دائما بين 200 و300 دولار موضوعة في مكان ثابت، عادة ما يشير إليه إبستين في نهاية "جلسة التدليك".
3) مواصفات خاصة للضحايا
كان إبستين يختار ضحاياه من الفتيات القادمات من مناطق فقيرة، أسر مفككة، طبقات متواضعة، بيوت مضطربة بعضهن كن هاربات من منازلهن أو يتعاطين المخدرات، أحد ذويهن في السجن، أو كن هن نزيلات دور رعاية، أو تعرضن لصدمة جنسية في الماضي.
وكل فتاة كانت تأتي إليه كان يطلب منها استقطاب أخريات، بحيث تتحول الفتاة من ضحية إلى شريكة فيما يفعل، وتحصل في المقابل على مال نظير كل فتاة تأتي بها، وكانت له شروط محددة؛ فتيات صغيرات شقراوات ونحيفات. فيما بعد عندما داهمت الشرطة قصره بنيويورك، عثروا على صور لفتيات عاريات وألعاب جنسية.
هنا ظهر إن المعتدين الجنسيين مثل جيفري لديهم موهبة في انتقاء الأشخاص الذين يحتاجون شيئًا ما، يحددون تلك الحاجة ثم يستغلونها، هذا الكلام ورد في الحلقات الوثائقية، على لسان اخصائية نفسية تربوية ومستشارة في الصحة النفسية، عملت مع العديد من ضحايا الصدمات النفسية.
يخلق المعتدي لنفسه نمطًا معينًا من الفتيات يشتركن في سمات شكلية وخلفيات اجتماعية وثقافية معينة، ليس فقط لتحقيق المتعة الجنسية له، بل ليضمن أن الخوف سيكبلهن ويمنعهن من الادعاء ضده لاحقًا، حيث إنهن يعانين أصلًا من أشباح أخرى.
هنا تجدر الإشارة إلى أنه لا يضر بقضية الناجيات وجود نساء تعامل معهن المعتدي بودٍّ ولم يؤذهن؛ لأن المعتدي ينتقي ضحاياه بنفسه أو بواسطة آخرين يعملون لحسابه، لذا ليس غريبًا أن تدافع نساء عن المتهم/ المغتصب من منطلق أنهن تعاملن معه وكان عاديًا بل ودودًا، ربما المعتدي يتعمد أن يحيط نفسه أو يخلق علاقات بنساء كصديقات أو زميلات عمل ويحتفظ معهن بعلاقات في حدود اللياقة، ليكُنَّ درعًا له إذا أثيرت جرائمه هنا أو هناك. هن من سيظهرن ويدافعن عنه.
4) الخوف من النفوذ يكبل الجميع
بداية عام 2005 أصبح قسم شرطة بالم بيتش يتلقى بلاغات هاتفية من سكان الحي نفسه، تتحدث عن فتيات صغيرات يدخلن ويخرجن من فيلا إبستين، حتى ورد بلاغ من سيدة تقول إنها وجدت حوالي 300 دولار مع ابنة زوجها البالغة من العمر 14 عاما، والتي قالت لها إن واحد من الأثرياء ساكني حي بالم بيتش قد اعتدى عليها، وعندما عرضوا صور ساكني الحي، تعرفت على جيفري.
عندما بدأ محققو قسم الشرطة في التعامل مع البلاغات الواردة، لم ترغب معظم الضحايا في رفع دعاوى قضائية خوفا من نفوذ إبستين، حتى الموظفين السابقين الذين عملوا معه، لم يرغبوا في توريط أنفسهم لنفس السبب. بعضهم قال إنه لم يكن يعرف ماذا يدور خلف الأبواب المغلقة.
اللافت إن إبستين تبرع بمبلغ 100 ألف دولار على شكل معدات لقسم شرطة بالم بيتش/ فلوريدا عندما سكن الحي، وربما كان يتوقع أن يحول هذا التبرع دون إجراء تحقيقات جدية في أي من البلاغات التي قد ترد لاحقًا.
هذه النوعية من الجرائم تعتبر مهمة شاقة على كل الأطراف المعنية، حيث من الصعب التوصل إلى أشخاص على استعداد للشهادة والإدلاء بالمعلومات التي يعرفونها، أو الوقائع التي شاهدوها بأنفسهم أو أطلعوا على تفاصيلها بأي صورة. ولو لم يحدث تغيّر كبير كحملة أنا أيضا (#ME_TOO) ربما لم تكن قضية إبستين لتتحرك، بعد الاتفاق السري الذي عقده مع المدعي العام سنة 2008، وقضى على أساسه 18 شهرًا في السجن بعضها كان في جناح خاص مع تصريح يسمح له بالخروج للعمل يوميا لثمان ساعات.
5) خلفيات النساء للتشكيك في شهاداتهن
استخدم آلان ديرشوفيتز محامي إبستين -والذي اتضح فيما بعد إنه واحد ممن قدم له جيفري نساء لممارسة الجنس- خلفيات الضحايا/ الناجيات للتشكيك في صحة شهادتهن. بعضهن أجرين عمليات إجهاض، وبعضهن يتعاطين المخدرات. لذا هذا النوع من القضايا قد يجعل حياة الضحية عرضة للتفتيش والتنقيب، وقد تُكشف أشياء لا تريد لها هي أن تظهر عنها أو عن عائلتها، وفي النهاية الضحية/الناجية هي إنسانة قد تكون ارتكبت أخطاء في حياتها أو كان في تاريخ عائلتها ما قد يشين.
وحتى إذا لم يكن في تاريخها أو تاريخ عائلتها ما قد يؤخذ ضدها، فإنها ستُلام أيضا على اقترابها من المعتدي، ويمكن اتهامها بأنها سهلت له الاعتداء عليها سواء بملابسها أو بطريقتها أو بوجودها بقربه والتودد إليه والتقرب منه، وربما يجدن من يقول أن الأمر لم يكن يخلو من متعة، مال، فرص، امتيازات.
السيدة فيرجينيا روبرتس (35 سنة) والتي تقدمت بدعوى قضائية عن اعتداء جيفري عليها، ومتاجرته بها في الجنس مع الأمير أندرو وآخرين عندما كان عمرها 15 سنة، كان لشهادتها دور كبير في تحويل القضية واتساعها. ورغم أنها دعمت شهادتها بصور وتفاصيل، فإن الصحافة دافعت باستماتة عن الأمير أندرو، ووصفتها بأنها "عاهرة سابقة". هي قالت "سُميت عاهرةً متسلسلة وأمًا سيئة وكاذبة ومدمنة مخدرات".
ورغم اتخاذ إجراءات عملية للتعامل مع هذا الأمر، كالتعديل الذي جرى مؤقتًا على قانون الإجراءات الجنائية بما يسمح بالحفاظ على سرية بيانات المجنى عليه/ عليها في قضايا التحرش الجنسي، بما يعني "عدم إثبات بيانات المجني عليهم في الأوراق والمحاضر المتداولة للقضية، والاحتفاظ بها في ملف فرعي بحوزة المحقق، على أن يُعرض هذا الملف على المحكمة أو المتهم أو الدفاع عند الطلب، ويُعاقب من يفشي هذه السرية بالمادة 310 من قانون العقوبات"، تظل هناك مساحات من القلق تعتري الناجيات عند التقدم للنيابة العامة ببلاغات، وتمنعهن من الإدلاء بشهادتهن، خاصة وأن الحوادث التي من المفترض أن يُبلغ عنها تعود إلى سنوات عديدة مضت، بما يعني إعادة ذكر تفاصيلها لأشخاص لا نعرف على وجه الدقة كيف سيتعاملون معها، وكيف سيستخدم دفاع المتهم المعلومات عن الناجيات في دفاعه عن موكله، مثلما حدث مع إبستين.
6) شهادات وجوائز مزيفة
قد يدعي المعتدي حصوله على شهادات وجوائز من جهات عالمية ومحلية، أو التحاقه بوظائف مرموقة في مؤسسات معروفة.
بدأ جيفري إبستين حياته العملية بالحصول على وظيفة معلم في مدرسة، رغم أنه لم يحمل يومًا شهادة جامعية، وهذه تعتبر بداية النمط السلوكي الدائم لحياته. واحد من ضيوف الفيلم سبق وأن عمل مع إبستين في بداية حياة هذا الأخير قال "يستطيع جيفري ابستين الإفلات بأشياء عادة لا يستطيع معظم الناس الإفلات منها". وقال آخر عمل معه أيضًا "كان يستطيع السيطرة على الناس والتلاعب بهم بأسلوب متطرف". في مرحلة من حياته كان إبستين يدعي أنه مكتشف عارضات للعلامة التجارية في مجال الأزياء فيكتوريا سيكريت، ليطلب من النساء خلع ملابسهن والتحرك أمامه.
على مدار حياته المهنية، خاصة بعد أن أصبح واحدًا من كبار الأثرياء ومقربًا من أصحاب نفوذ في دول عدة، تمكن إبستين من الحفاظ على سمعة جيدة في العديد من الأوساط عن طريق كونه متبرعًا كريمًا للغاية للجامعات ومراكز الأبحاث، حتى إنه كان يشارك في مؤتمرات علمية ويدير نقاشًا مع علماء حول العديد من القضايا الجادة.
7) القضايا تكبر كـ "كرة الثلج"
نمت قضية جيفري إبستين ككرة الثلج على مدار عقود، ومرت بالعديد من التقلبات ما بين صعود وهبوط، عشرات الناجيات لم يحصلن على العدالة سريعًا، بل كان على بعضهن الانتظار لأكثر من عشرين سنة ليشعرن بأن جهات التحقيق جادة في معاقبة إبستين وجيلين ماكسويل.
من ناحية أخرى، يجب أن ندرك أن الشرطة أو جهات التحقيق القضائية قد تستغرق وقتًا طويلًا قبل أن تذهب بالقضية إلى المحكمة، خاصة مع وجود عدد كبير من الضحايا. وقت قد يمتد لسنوات تحتاج إليها جهات التحقيق وقتًا من أجل جمع الشهادات وتفنيدها، والتأكد من صحتها، وإقناع الناجيات بالإدلاء بشهادتهن، والبحث عن شهود على صلة بالمعتدي لتقديم معلومات قد تفيد التحقيق، مع توفر إرادة مبدئية لاستكمال القضية لا تستجيب لتعليمات قد تأتي من اللا مكان لوقف التحقيقات وحفظها.
وحتى مع وجود أدلة قوية وشهادات وشهود قد لا يتحرك التحقيق ليصل إلى المحكمة، الأمر يحتاج إلى ضغط وتضافر جهود مستمرة من جهات عدة منها الصحافة. في قضية جيفري إبستين استطاعت شرطة بالم بيتش عام 2005 الحصول على إذن بتفتيش منزله بعد سبعة أشهر من العمل المتواصل على القضية.
8) الصحافة مهمة؛ ولكن..
تعتبر الصحافة في قضايا الاعتداءات الجنسية وسيلة ضغط لا يستهان بها لمد الرأي العام بالمعلومات، وممارسة شكل من أشكال الضغط على جهات التحقيق من أجل التحرك وعدم التراجع والاستسلام للضغوط؛ إن وجدت.
في قضية إبستين، وبعد أن انفجرت حملة أنا أيضا، نشرت صحيفة ميامي هيرالد تقريرًا في 2018، تستعيد فيه تفاصيل الاتفاق السري الذي عقده إبستين مع المدعي العام ألكسندر كوستا عام 2008. بعد أن أقر الأول بالذنب حُكم عليه بـ 18 شهرا في سجن بالم بيتش، قضى معظمهم في منزله مع تصريح بالخروج للعمل، ومُنح والمتآمرين معه (الذين ذكرت أسماؤهم وكذلك المجهولين منهم) حصانة من كل التهم الفيدرالية، على أن يدفع تعويضات للضحايا.
استعادت صحيفة ميامي هيرالد هذا الاتفاق المشين، وجذبت الانتباه من جديد للقضية، خاصة وأن المدعي العام الذي أبرم هذه الصفقة ألكسندر كوستا أصبح لاحقًا وزيرا للعمل في إدارة دونالد ترامب. جاء هذا الاتفاق تم بعد سنتين من إدانة إبستين بممارسة البغاء. فيما بعد وبالتحديد عام 2019 أصدر قاضٍ أمريكي حكمًا بإلغاء هذا الاتفاق، وقال في ملخص الحكم إن "الحكومة الفيدرالية تحت إدارة ألكسندر كوستا اشتركت في مؤامرة مع جيفري إبستين، لانتهاك قانون حقوق ضحايا الجرائم الجنسية".
ولكن عندما يكون المتهم صحفيًا في مؤسسة لها ثقل ولديه ارتباطات بمؤسسات أخرى في الداخل والخارج، فإن ذلك قد يضعف موقف الناجيات ويقلل من الزخم الذي كان يمكن أن تناله قضيتهن لو لم يكن المتهم صحفيا وقد يقلل حجم التغطية. فالصحفيون و/ أو المؤسسات لديهم حساباتهم أيضا، وتصدي صحفي/ صحفية/ صحفيون/ مؤسسة لهذه القضية قد يترتب عليه صراع وانتقام من الصحفي نفسه، في صورة فضح لممارسات هو يعرفها، لذا قد يفكر صحفيون مرات قبل أن يتبنوا القضية أو يتعاملوا معها بمهنية، وربما يصل الأمر بصحفيين إلى الدفاع عن المتهم وتقديم أشكال مختلفة من الدعم في صورة مواد منشورة أو شهادات على وسائل التواصل الاجتماعي وسط دوائرهم، وقد يحدث أن يكون من بين هؤلاء الصحفيين نساء يشهدن لصالح المتهم.
9) طريق العدالة ليس مفروشًا بالورود
في مجتمع يعتبر التحرش والاعتداء على النساء ثقافة شائعة قد تصل إلى حد القبول، فإن طريق الناجيات إلى ساحات القضاء للقصاص من المعتدي لن يكون مفروشا بالترحيب بل بالمقاومة من أطراف عدة. والمقاومة تبدأ من التشكيك في صحة الشهادات، وناشريها، أو إدانة الشاكيات وتسفيه الشكاوى ومحاولة التقليل من قيمتها إذا كانت مجهلة.
المقاومة هنا مفهومة لأن إدانة شخص تعتبر سابقة لإدانة آخرين يشبهونه، والطريق الذي ستسلكه اليوم ناجيات من أحد المعتدين في إحدى القضايا ستسلكه ناجيات أخريات لمقاضاة آخرين، في نفس المهنة، في مناصب أعلى. ربما سيكون هناك دفاع مستميت من بعض الدوائر المرتبطة بالمعتدي، أو على الأقل صمت من أشخاص لم يكونوا ليصمتوا في ظروف مختلفة. ربما لا تجني الناجيات من سعيهن للعدالة سوى تهميش المعتدي وطرده من المؤسسات التي ينتمي إليها.
في قضية جيفري إبستين تطوعت العديد من وسائل الإعلام لوصف الناجيات بأنهن "عاهرات سابقات" أو "عاهرات صغيرات"، خاصة بعد أن ورد ذكر الأمير أندرو في القضية، أصبحت العديد من وسائل الإعلام تتبنى خطاب الأمير، وتمنحه مساحات للدفاع عن نفسه لا تمنح مثلها للضحايا، بل تكتفي بإلصاق صفات مشينة بهن، ولومهن على ما وقع لهن، أو اتهامهن بالسعي إلى الشهرة.
10) الدفاع يواجه والمتهم يستعد للهرب
ألقي القبض على إبستين في السادس من يوليو/ تموز 2019، عقب عودته من رحلة إلى باريس. ربما لو عرف أن امرًا صدر بإيقافه لبقي حيثما كان.
اللافت في الأمر أن المباحث الفيدرالية عندما اقتحمت قصره الفخم في مانهاتن، وجدت جوازات سفر مزورة، ما يعني وجود خطة بديلة للهرب، في حين أن فريق المحامين كان يعمل ويواجه الدعاوى ويتحدث إلى الإعلام وكأن إبستين غير عابىء بما يمكن أن تسفر عنه التحقيقات.