كلما ظننا أنها الحلقة الأخيرة من المسلسل الكابوسي الذي يمثل علاقة المطربة المصرية شيرين عبد الوهاب بزوجها السابق المطرب حسام حبيب، فاجأتنا حلقة جديدة أكثر رعبًا من جميع ما سبق.
لا تنحصر المشكلة في دور الضحية الذي تروج له المطربة الشهيرة بوعي ومن دون وعي. فشيرين مُقارنة بنساء أخريات، من طبقات اجتماعية واقتصادية أقل، تملك على الأقل ميزة الاستقلال المادي، وتُمارس مهنة لا تُعاني من أجرها المتدني كونها امرأة، أو تضطر إلى قضاء ساعات عمل مُضنية دون مقابل منطقي، كأغلب المصريات.
على العكس من ذلك، تُقدِّر الجماهير العريضة صوت شيرين الطربي، الذي قد يقول البعض إنه يملأ بقوته فراغًا واسعًا تركته مُطربات رحلن من أزمنة غابرة. كان يُمكن لشيرين أن تطوي صفحة علاقتها "السامة"، حسب وصف لميس الحديدي في إحدى حلقات المسلسل الشيريني الذي نُتابعه دون اختيار، لكن شيرين نفسها تأبى أن تتركنا بسلام.
يتحفظ الطبيب النفسي المُقيم في أمريكا د. عصام الخواجة، على هذا الوصف الشائع "العلاقة التوكسيك"، مُطالبًا مَنْ يستخدمه أن يكون أكثر إنصافًا وهو يقرر مقدار ما شارك به من سُم في المعادلة، لأن هذا النوع من العلاقات يتضمن دائمًا طرفين وليس طرفًا واحدًا.
يُمكن للوصف هنا أن ينطبق ليس فقط على علاقة المطربة بزوجها السابق المطرب، لكن كذلك على علاقتها بنا كمُتفرجين، فهي تُريد أن تُشهدنا دائمًا على ما يحلّ بها، أو بطبيعة الحال ما تُريدنا أن نعرف عمّا يحل بها، دون أن تُفكر في ضررنا النفسي المُحتمل. تعتذر مرارًا عن توريط جمهورها في مشاكلها، ثم تورطه مجددًا، بكل بساطة.
مازلتُ أحاول أن أتخيّل متابعة ربات البيوت، شكوى شيرين، لصديقتها لميس، فالمكالمة كانت ودية بشكل زائد عن الحد، على الهواء مباشرة. وصفت شيرين مشاهد "الضرب والسحل والشتيمة اللي متقبلهاش واحدة ست على نفسها" لكن شيرين، وليس في ذلك بطولة، قبلتها على نفسها. أتخيلهن يُقدمن تعاطفًا غير مشروط مع النجمة الكبيرة وهي تصف نفسها بـ"الصرمة"، بينما هي من الناحية اللوجستية غير مُجبرة على البقاء في تلك "العلاقة التوكسيك"، على عكس السواد الأعظم من النساء المُتعاطفات معها.
هؤلاء النساء منهن من تواجه الضرب والسحل والشتيمة، ومنهن مَنْ لم يُصادفن غيره طوال حيواتهن، ولا يستطعن التخلص منه كما تستطيع شيرين، لأنهن غير قادرات اقتصاديًا، ولا يتحلين بأي امتيازات مما لدى المطربة، وأقلها الامتيازات المعنوية.
أتخيل هذا المشهد، فأحزن على ضحاياها من المُستمعات. تُصوّر شيرين لهن أنها تُشبههن، لكن ذلك غير حقيقي. صحيح أن شيرين ضحية، لكن ضحية مَنْ؟ هذا سؤال آخر يستحق التأمل بشأنه.
لقاء شيرين مع لميس الحديدي
ذات الرداء الأحمر
تبدأ إحدى النسخ الفرنسية للقصة الشهيرة ذات الرداء الأحمر، بوصف حال أم بطلة الحكاية الصغيرة بـ "الجنون". وإن لم يكن جامع القصة استبق إلى ذلك الوصف لكُنا وصلنا إلى النتيجة نفسها، بعد بضعة سطور. إذ تتخذ الأم قرارًا غير حكيم بإرسال الطفلة الصغيرة إلى الغابة، كي تحمل طعامًا إلى جدتها، التي تسكن في كوخ قديم.
تذهب الصغيرة في رحلة طويلة في الغابة، ولأنه ينبغي أن يكون ذئب واحد على الأقل هناك (يقول نيتشه إن الحياة هي الأذى)، فإنها تلتقي ذلك الذئب، الذي لا يُجهد نفسه في محاولة ادعاء أنه ليس ذئبًا، لأن الصغيرة لا تملك الخبرة للتفريق بين الكائنات البريئة مثلها، واللئيمة التي يُمكن أن تفترسها.
هكذا يُفسَّر جنون الأم بانعدام وعيها، وبالتالي انعدام وعي الصغيرة التي تُربيها. ولأنها فريسة سهلة، لا يتعجل الذئب التهامها. يسألها إلى أين هي ذاهبة؟ فتدل بسذاجة عن مكان كوخ جدتها، ليعدها أن يلتقيا لاحقًا. يصل إلى الكوخ قبلها، ويطرق الباب. تسأله الجدة مَنْ يكون؟ وتُصدقه بلا ذرة شك حين يُجيبها بصوته الذئبي، أنه حفيدتها. تُخبره عن مكان المفتاح ليدخل. يلتهمها الذئب ببساطة. تمثل الجدة مجددًا انعدام وعي الأنثى وغياب حدسها إزاء صيّاديها. جنون الجدة هو أصل جنون الأم.
عندما تصل الطفلة إلى الكوخ، يكون الذئب ارتدى ثياب جدتها، وينتظرها في السرير. يُغيِّر قليلًا من صوته، لكنه يظل مفضوحًا. المفارقة أن ذات الرداء الأحمر تقدم ثقتها للذئب على بياض. وتنتهي الأسطورة، في هذه النسخة بالتهامها، بعد أن يطلب منها الصيّاد أن تخلع ثيابها وتنضم إليه في سريره، المشهد الذي فسره البعض بالغواية الجنسية.
في حياتنا الحقيقية خارج الأساطير، وعلى العكس من سوء الحظ الذي تتسم به قصة ذات الرداء الأحمر، لا يكون التهامنا حتميًا ولا نهائيًا. نحن النساء قد يلتهمنا صديقات، وأصدقاء، سوف يلتهمنا المجتمع لا محالة، أو يبلعنا حوت الحُب الكبير. غير أن احتمالات النجاة ما تزال هناك، ليست سهلةً نعم، لكننا أيضًا لسنا وحيدات، سبقتنا إلى النجاة أعداد لا تُحصى من النساء من جميع أنحاء العالم.
في حوار غير المُشار إليه هنا ترد شيرين على سؤال عن عمليات التجميل، تقول إنها لم تلجأ من قبل إليها وتدلل على ذلك بأنها لم تُصلح حتى البروز الطفيف لشفتها العليا، على إثر لكمة تلقتها من أخيها. تقول هذا ثم تضحك. كما تضحك لميس مؤخرًا على أشياء لا تُضحِك، كتشبيه شيرين لجسدها بجسد الملحن الراحل حسن أبو السعود في رثائها الأعمى لنفسها. تتركنا مصدومين حيال طريقتها في وصف جريمة عنف أسري.
تختصم شيرين مجتمعًا كاملًا، لا شخص زوجها السابق، بعكس ما تظن. تُدين، دون أن تدري، منظومةً اجتماعيةً تُغذي في البنت دونيتها تجاه أخيها، ثم تجاه زوجها. تمنح الزوج سلطات خارقة عليها باسم الشرع مرّة والعُرف مرات.
على سبيل المثال، في الحوار الأخير مع لميس الحديدي، تحكي شيرين عن تنازلها عن إحدى السيارات التي تملكها لزوجها السابق، كي لا يشعر بالعار إذا توقف أمام أحد ضباط المرور، لأن السيارة باسم زوجته. تبرر شيرين تصرفها بأنها "متربية وبنت أصول". والحقيقة أنها متربية وبنت أصول هذا المجتمع، الذي يُفضّل صورة الرجل ولو كان محض ظل على الحيطة، كما تُفضله شيرين ولو على صورة المُعتدي إن كان أخًا أو زوجًا.
نظرية كينج كونج
في كتابها الشهير نظرية كينج كونج King Kong Théorie الذي صدرت في فرنسا طبعته الأولى عن دار نشر جراسيه سنة 2006 وتُرجم إلى لغات عديدة ليس من بينها العربية بعد، وهذه أيضًا ليست مُصادفة، تحكي فرجيني ديبانت حادث اغتصابها على يد أربعة شباب على الطريق السريع في فرنسا.
كانت فرجيني التي تُحب التجول بطريقة الأوتوستوب، تحمل سكينًا صغيرًا في جيبها الخلفي من البنطلون الجينز، لكنها لم تفكر، ولو للحظة، ساعة الاعتداء حتى في التهديد باستخدامه لحماية نفسها. كان همها الوحيد، ألا يكتشفه المُغتصبِون كي لا يُمعنون في تهديدها أكثر هي وصديقتها. وتنتهي في الفصل ذاته إلى أن المجتمع لا يُعلِّم المرأة الدفاع عن نفسها جسديًا ضد اعتداء الرجل، حتى في لحظة الاغتصاب.
إن عودة النساء للانتقام من مُغتصبيهن، ليس سوى خيال هوليوودي صنعه مخرجون رجال، كما تصف فرجيني. والعنف كما تُفهمه المجتمعات للإناث هو عُنف أحادي، دائمًا من الرجال إلى النساء وليس العكس. دور النساء هنا، مثل هناك، هو الخضوع ريثما تمر العلقة.
تُعبِّر شيرين عن هذا الوعي شبه البدائي، الذي لم تطوره الشهرة ولا الخبرة الإنسانية. فهل يُمكن اكتساب أي خبرة دون أن يتأمل التجربةَ صاحبُها بأمانة، أو على الأقل، دون أن يسعى إلى ذلك؟ تجاهر بتخليها الطوعي عن قواها، لصالح ضَعف الشريك الذي يلجأ بدوره إلى المزيد من العنف كل مرة في محاولة لإخفاء هشاشته.
الإشكالية التي يُفجرها ضعف شيرين هنا هي المزيد من التطبيع مع سياسات قهر النساء. فإن كانت تُهان وهي شيرين عبد الوهاب، ماذا سيحدث للأخريات الأقل حظًا منها؟ المزيد من التخلي الطوعي عن أسلحتهن، وإعادة النضال إلى ما قبل حتى نقطة الصفر، لأن شيرين لم تكن/ ليست/ لن تكون خاضعة اقتصاديًا لزوجها السابق، على العكس كانت تتفوق عليه. إنها خاضعة نفسيًا ومعنويًا وفكريًا، وهذا أسوأ، وخضوعها ذاك يُنسينا للأسف الكثير مما تعلمناه ذاتيًا، وما اشتغلنا على لا تعلمه اجتماعيًا.
لا أحد يعلم كيف يُمكن أن ينتهي هذا المسلسل الكئيب. برغم أن الواقع يقول إن نهايته لا تعني أحدًا غير شيرين. لكنه ربما يصير في أفضل الأحوال أمثولةً، فرصةً لإعادة الحسابات، والاجتهاد في البحث عن طرق أخرى لإنقاذ ذات الرداء الأحمر على أرض الواقع، لا في الأسطورة.