دخلت جامعة المنصورة أدرس الطب، في عام 1979، وكانت النسبة الغالبة من بنات دفعتي دون حجاب، وتخرجت فيها صيف 1985، والنسبة الغالبة من بناتها محجبات ومنتقبات. ما الذي جرى بالضبط في تلك السنوات؟
كانت جدران البنيات مغطاة بالبنط العريض: الحجاب قبل الحساب، ومنشورات الجماعة الإسلامية داخل الجامعة تركز في خطابتها عليه، وليس على الحرس الجامعي، وتقييد النشاط الطلابي من قبل الأمن والإدارة على حد سواء.
لماذا هذا الدأب المحموم على تغطية النساء؟ ولماذا نحيل كل جرائم التحرش والاغتصاب إلى ملابس الضحية؟ وكيف تحولنا في السنوات الأخيرة من "إيه اللي وداها هناك" إلى "هيه كانت لابسه إيه"؟
حاول البعض خلال هذه السنوات الطويلة التهوين من المسألة، بأن الحجاب تحول من فرض ديني وهابي إلى ظاهرة اجتماعية؛ استجابة دفاعية لعصاب جماعي، عودة إلى الوراء بعد فشل العبور إلى الحداثة، وليس ما بعدها بالطبع، أو ثمن الحداثة المشوهة، وسيطرة القبيلة وانهيار الدولة القومية، ونهاية الحلم بالنهوض بعد عثرة طويلة في ظلام الخلافة العثمانية الطويل.
نبذ العمود وتهشيمه
لا أعتقدُ في نفسي القدرة على الخوض في جدل طال وغالبًا سيطول، لكن أعتقد أنني أملك حق التفكير بصوت عال، وأن أمشي على بساط يخصني، حتى لا أسقط في فخ جاهز على أرض الخصوم.
والبساط الذي يخصني يربط بين أرضين: أرض الشعر وأرض الطب. في الشعر تزامنت حركات التحرر في النصف الثاني من القرن العشرين، وربما بدافع منها دون قصد بالطبع، مع كسر عامود الشعر العربي، والاتجاه إلى الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة، وعلى رأس الرواد الثلاثة للشكل الجديد ظهرت الشاعرة العراقية نازك الملائكة.
لم يكن كسر عامود الشعر سوى كسر لهيمنة الذكورة على الشعر العربي، فالعامود هو رمز أساسي لكل الحضارات الذكورية خاصة في حوض الأبيض المتوسط، ليس فقط لأنه يرمز إلى العضو الذكري، بل لأنه أيضًا سلم أملس يشير به رجل الأرض إلى إله السماء، وبالتالي ينطوي على نبوة ما، لذا يمكن القول إن عمود الشعر العربي رمز مزدوج للذكورة والنبوة معًا.
كسر الرواد ذكورة العامود، لكن التفعيلة الواحدة المكررة احتفظت للشاعر بالنبوة. لم يكن الشاعر العربي جاهزًا للتخلي عن هذه النبوة التي لا تخدم مشروعه الشعري الحداثي، بل تخدم مشروع الدولة القومية نفسها.
وحين عُرض الشعر الجديد على لجنة الشعر التي يترأسها عباس محمود العقاد، أحالها إلى لجنة النثر. كان العقاد واعيًا تمامًا بما يعنيه كسر عامود الشعر العربي، فذيل توقيعه بعبارة شهيرة: أرادوا أن يتخلصوا من عامود الشعر فتخلصوا منه (أي من الشعر نفسه).
تورتة مكشوفة للذباب
هل كانت مصادفة قدرية أن يكون العقاد تحديدًا في مواجهة الشعر الجديد؟ لا أعتقد، العقاد المزهو بعصاميته، وعبقريته التي أسقطها على السلف الصالح، ونرجسيته التي جرحتها امرأة (مديحة يسري) فضلت الفن على البقاء في بيته، فلم ترتح روحه إلا بعد أن رسم له صديقه وتلميذه التشكيلي صلاح طاهر لوحة رمزية: تورتة مكشوفة يحوم حولها الذباب (الوصف نفسه يستخدمه السلفيون الجدد) فعلقها فوق سريره، مكان الصورة العارية التقليدية في حجرة النوم.
العقاد الذكوري المهان سيرى الإهانة في كسر ذكورة الشعر العربي. في الأخير انكسرت الذكورة، وبقيت النبوة، لكن إلى حين.
والملاحظة الأخرى ليست في ندرة الشاعرات في الستينيات والسبعينيات بل اختفاء نازك الملائكة نفسها. بإمكان المرأة أن تحرس الذكورة، أن تحتضن النبي المرتعش، لكن لا فرصة لها في أن تكون نبية.
في العام 1967 صحا الجميع على الكارثة. انكسرت صورة الزعيم صاحب الطلة الذكورية المهيبة، وصور الشعراء الأنبياء جميعًا، من كان حوله ومن كان ضده، الصادق منهم والكذبة. سيكتب صلاح عبد الصبور نفسه إعلانًا رسميا بموت الشاعر النبي في نصه الشهير يوميات نبي يحمل قلمًا ينتظر نبيًا يحمل سيفًا. ستفتح الهزيمة الباب لشعر جديد دون ذكورة ودون نبوة، لكنه لم يحدث سوى بعد أكثر من عشرين سنة في قصيدة النثر، وما تنطوي عليه من حس أنثوي، لا يسعى لتغيير العالم، بل يحتفي باليومي والعادي وحيوية التفاصيل، وهو ما يعطي الفرصة كاملة لحضور النساء في كتابة هذه النصوص الجديدة.
خلال تلك السنوات العشرين كان على الشعب الذي لم ينكسر، بعد، أن يرمم الحلم المشروخ، والزعيم المكسور، وهيبة الدولة المهدرة، وياله من حمل ثقيل. بقي شباب الفقراء والطبقة المتوسطة من خريجي الجامعات في الصحراء، على خط النار، يبنون حائط الصواريخ، يحتضنون السلاح والرغبة العميقة في العبور.
رجلًا مقسومًا
بعد ست سنوات كاملة من الصبر والانتظار عبروا، وانتصروا، وبعد النصر اكتشفوا أن الدولة باعتهم بعد اتفاقية فصل القوات في 1975 . هنا كانت الإهانة كاملة، وما كان مفترضًا أن يحدث بعد الهزيمة المريعة حدث بعد النصر المشبوه: انهارت الروح. تدفقت أموال النفط على الخليج، وتدفقت أفواج الشباب الذي ضاع عمره في رمل سيناء ليضيع في رمل الجزيرة العربية. هجرة جماعية، خرج كل واحد فيها بطوله، ترك أسرته، زوجته وأطفاله، في النجوع البعيدة والقرى المجهولة والمدن الصغيرة، لكي يبني نفسه المكسورة.
في الخليج فاجأه وفرة المال والوقت، وأجهزة الفيديو وشرائط الـVHS، المحملة بأفلام السبعينيات المصرية المتخمة بالراقصات، والميني چيب، والقبلات، وأفلام البورنو الإسكندنافية. كان عليه أن يستسلم بالليل للعادة السرية، وأن يربط بالنهار بين الحرية والعري، وبين العلمانية والانحلال وتعدد العلاقات. كان أبًا غائبا بالغصب، ورجلًا مقسومًا بين الخيبة والشعور بالذنب، فكان عليه أن يكثر من الاستغفار والصلاة، وأن يغسل ذنوبه بالعمرة، والحج.
وحين عاد، بأموال النفط، عاد بذكورة مهدورة حرفيًا، تعاني ضعفًا في الانتصاب، وسرعة في القذف، فبنى بيتًا لأهله، وأغلقه عليهم، لكي يحمي لحمه من المتلصصين، وألزمهم في الخروج بالحجاب، حتى لا ينقض عليهم الذباب، وقصر هو الثياب وأطلق اللحية، ليس علامة على التقوى، بل قناعًا يخفي به عجزه الجنسي وقلة الحيلة.
وفي الغياب كان مفهوما الرجل والمرأة يخضعان لاختلاف جذري وعميق، ولم يكن الرجل قادرًا على استيعاب مفهومه الجديد كممول، تعيش زوجته في خيره، ويكبر أبناؤه في غيابه. بينما استوعبت المرأة دورها ومفهومها الجديد، بحكم خبراتها الاجتماعية التي راكمتها عبر سنين طويلة من القيادة والتحكم داخل البيوت. فإذا كان زوجها يجبرها على الحجاب فليكن، وليتحجب بناتها الصغار أيضًا، طالما عجلة القيادة في يدها، في حضوره وفي الغياب.
المرأة تحكم وتصعد، والرجل ينسحب، مرغمًا، يضع ذيله بين أرجله مهزومًا، يسافر وحيدًا أو يحمل الأسرة كلها إلى الخليج، حيث حجاب المرأة زي وطني، ولكل بيت قفل يحكم الباب، أو باختياره كمؤيد بائس لحقوق النساء.
في الشعر كان شعراء السبعينات في مصر ينضجون إما على طريقة أوديب: بقتل الأب القريب، الزعيم الراحل أو رواد النص التفعيلي السابقين، أو استدعاء أب حاضر في الشعر لكنه بعيد.
يهيمون في صور غامضة تغلق باب الشعر عليهم، وتسد الأفق أمام فهم يليق بعالم يموت بالفعل وعالم جديد. ستنقسم سينما الثمانينيات بين تيارين: واقعية ترثي جيل الهزيمة والنصر المهدور (سواق الأتوبيس، خرج ولم يعد، الحب فوق هضبة الهرم، للحب قصة أخيرة.....) وبين صعود المرأة القوية في أفلام نادية الجندي (الباطنية، شهد الملكة، خمسة باب، عصر القوة....). في هذه الأثناء وبينما كانت المرأة تثبت كفاءتها في كل المجالات، من التفوق في الثانوية العامة إلى التميز الرياضي، كان الرجل يدافع عن عالمه الذكوري المنهار، وعن رجولته المهدرة، بالچيم وتربية العضلات. شعور خائب بالقوة يعطيه الحق في فرض الحجاب على النساء، ثم التحرش بالسافرة والمحجبة على حد سواء.
في هذا التفكير بصوت عال مع صديقة عزيزة، قالت لي لا تنسى أن جداتنا كن الحاكمات بأمرهن داخل البيوت. قلت لها: داخل البيوت، أن تقود سفينة في بحيرة داخلية لا يعني أنها ستصبح القبطان، الشارع أمر آخر يا صديقتي، الشارع لنا. ولا تنسي أن نجيب محفوظ كان ذكيًا جدًا وخبيثًا أيضًا. تعلمنا منه أن سي السيد هو صناعتها الشخصية، تمنحه السلطة كاملة مقابل الأمان. والمرة الوحيدة التي خرجت من البيت دون إذنه، لم تصب بجرح في جبينها، ولا كسرت ذراعها، بل كسرت رجلها، فالزمي بيتك.