تسير في طريق عام، يقابلها أحدهم ويوجه لها كلمات خارجة تصف مواضع بجسدها، أو ما يرغب هو أن يفعله ضد هذا الجسد، ربما لن يكتفي بالكلمات ويقرر مدّ يده. بين غضب وارتباك وخوف تتقلب مشاعر الفتاة في ثوان معدودة، تستجمع بعض قواها وترد الإهانة؛ فلا يفاجئها رد فعل خصمها المتحرش وإنما رد فعل شهود الواقعة.
المفاجئ لأي فتاة هنا هو اختصامها من قبل هؤلاء. فالفتاة لا يحق لها إهانة رجل.. هكذا يرى المتضررون من مواجهة الفتيات لجريمة التحرش، وهو ما كشفته أكثر من واقعة، بصورة بلغت حد وصف مَن تقاوم التحرش علنًا بأنها "اتنشن هور" أو "عاوزة تشتهر"، وغيرها من اﻷحكام التي صارت أكثر حدّة وتجريحًا عمّا قبل، بعد أن صار للسوشيال ميديا حضورها وتأثيرها القوي في كل حادث.
أقرب مثال على هذا السيناريو المعادي للنساء، ما حدث للشابتين روزانا ناجح وجهاد الراوي، اللتين تعرضتا للتحرش في عيد اﻷضحى، وحين قاومتا؛ تعدى عليهما المتحرش بالضرب، ووجد سندًا وظهيرًا له في المارة. لجأت الفتاتان للقضاء الذي حكم مطلع هذا الأسبوع بحبس المتحرش سنتين مع الشغل والنفاذ، وبحبسه ثلاث أشهر وغرامة ألفي جنيه بتهمة الضرب، وتغريمه 10 آلاف أخرى بتهمة السب، وتعويضهما بـ20 ألف جنيه.
بنات "معقدة"
تتهم زميلها في العمل بالتحرش؛ تُقرر اللجوء للإجراءات الإدارية، تتعرض بعض تفاصيل مشكلتها للتسريب إلى السوشيال ميديا؛ فتبدأ حملات الهجوم عليها بالتزامن مع حملات التضامن.
لا غرابة في ظهور مَن يدافع عن المتهم، فالقانون يكفل ذلك إذا وصل المتهم للمحكمة، لكن اﻷزمة الحقيقة كانت في استهداف أي ضحية للتحرش بالهجوم عبر مسارين: الأول هو الحديث عنها بعبارات من قبيل أنها "كانت تسرد حكايات التحرش بها كثيرًا" وكأن تكرار الشكوى من التحرش صار بمثابة مأخذ أو "سوابق"، وليس مشكلة المجتمع العاجز عن توفير بيئة آمنة، وتركها لـ"الشكوى مرارًا وتكرارًا".
فهل هناك قاعدة قانونية أو إنسانية أو حتى عُرفية تتحدث عن حد أقصى لمرّات الشكوى من التحرش تبتلع بعدها النساء ألسنتهن إذا ما تعرضن له؟ لو أن إجابة هذا السؤال بنعم؛ فلنطرح سؤالًا آخر:
هل ينطبق هذا اﻷمر على مجتمع تعرّضت 99% من نسائه للتحرش وفق دراسة للأمم المتحدة عام 2013، وتُصنّف عاصمته كـ"أكثر المدن الكبرى في العالم خطرًا على النساء"؟
وأما المسار الثاني الذي هوجمت به السيدة صاحبة شكوى "التحرش" ضد زميلها، فكان نشر فيديو لها، يعود إلى العام الماضي أثناء حملة me too#، كانت تحكي فيه عن تحرش تعرضت له وهي طفلة، مع التعليق على الفيديو بعبارة "دي عُقدة قديمة".
الحديث عن التحرش بطفلة وما سببه من "عقدة" مزعومة، ولّد أسئلة أخرى: ألا يحق لمن تعرّضت لعنف جنسي في أي من مراحل عمرها أن تشكو من التحرش؟ هل هناك قائمة بالفئات التي يحق لها الشكوى من التحرش لا تضم هؤلاء "المعقدّات"؟ وهل اﻷولى بالوقت والجهد إثبات أن إحداهن "مُعقّدة" أم توفير بيئة آمنة لها ولـ 45.9 مليون أنثى مصرية تعرّضت نسبة 14.5% منهن لعنف جنسي، وفقًا لجهاز الإحصاء 2017؟
أما السؤال اﻷكثر إلحاحًا: لو أن سيدة تعاني مشكلة نفسية بالفعل أو "مُعَقّدة"، على حد وصف المهاجمين، اشتكت من تعرّضها للتحرش؛ هل ستجد نفسها محل رعاية ودعم، أو على الأقل ستؤخذ شكواها بموضوعية وعلى محمل الجد أم ستصبح مُتهمة بـ"الجنون والكلاكيع" وربما الهلوسة أو التلفيق؟
"اتنشن هور"
في منتصف أغسطس/ آب الماضي، كان فيسبوك وتويتر على موعد مع معركة "أون سا رن" الشهيرة، والسبب فيديو التقطته شابة لشخص تعرّض لها خلال وقوفها في الطريق العام.
لن نخوض في تفاصيل الواقعة التي صارت معروفة. سننطلق إلى النقاط الخلافية مباشرة، وأولها كانت حول توصيف الشاب "مُتحرش أم شيك وجنتل".
السؤال هنا: مَن صاحب الحق في تسمية دعوة من غريب لاحتساء القهوة بـ"الشياكة" أو بـ "التحرش" والرد عليها إما بشكرًا أو بالعقاب المناسب؟
الإجابة هنا محسومة بالنسبة لي على اﻷقل، وحدها التي تعرّضت للواقعة صاحبة هذا الحق.
المثير أن هذا المجتمع الذي انتفض فيه ركاب أتوبيس، ومن ورائهم جحافل على فيسبوك ضد رجل لمجرد أن زوجته أراحت رأسها على كتفه، واحتفى فيه آخرون بصفعة "قفا" تلقاها شاب في المترو ﻷنه يتحدث بلطف مع فتاة بجواره عن رضا منها، فيه مَن يستنكر ردّ فعل الفتاة ضد شاب"أون سا ران".
سؤال على هامش هذه المواقف الثلاثة وردود الفعل عليها: لماذا انتفض الغاضبون ضد موقفين بدا فيهما الانسجام والتراضي ودافعوا عن موقف بدا فيه مقاومة وغضب من فتاة؟
أما آخر وأكثر النقاط الخلافية حدّة، والتي بدت كتأفف وضيق بمقاومة التحرش، كانت حول تصوير الشاب من اﻷساس، فبينما اعتبره البعض عقابًا "للمتحرش"، رآه البعض اﻵخر بلا داعٍ وأنه كان لابد للفتاة وأن تكتفي بلف وجهها بعيدًا عنه في صمت، لكن آخرين هاجموها بسببه صراحة، بين متعاطفين مع الشاب رأوا الفيديو "حُبًا منها للشهرة".
الهروب من مصير إيمان مصطفى
على مدار أعوام، وفي غالبية حالات التحرش، إن نجت الفتاة من يد خصمها المباشر، ولم تلق مصير الصعيدية إيمان مصطفى التي قتلها مَن تحرش بها، فغالبًا ما ستلقى لوم وربما توبيخ من خصوم غير مباشرين، قد يكونوا عائلتها أو دوائرها المجتمعية القريبة، أصدقاء أو زملاء، وبالطبع شهود الواقعة.
السبب هو أن هؤلاء دائمًا ما يجدون سببًا للهجوم علي الفتيات المقاومات لجريمة التحرش: كلمات نطقتها أو طريقتها في الحديث، ربما ضحكتها أو تواجدها في مكان لا يصح أن تتواجد فيه، أو مواعيدها. وبالطبع يبقى السبب اﻷشهر على الإطلاق: ملابسها.
بحثًا عن سبب لمعين اللوم الذي لا ينضب، كان للطب النفسي تفسير. فوفقًا لمقال منشور بموقع سيكولوجي توادي، ربما تبرمجت عقولنا على الميل للوم الضحية وليس الجاني؛ ومحركنا في هذا المسار هو رغبتنا في حماية أنفسنا والبقاء في المنطقة اﻵمنة حيث نرى العالم ورديًا.
لهذا، والرأي للمقال نفسه، نلوم الضحية بمنطق أن اﻷشياء السيئة تحدث لمن يستحقها، أو على اﻷقل لمن لم يحتط جيدًا ضدها. وهؤلاء بالتأكيد ليسوا نحن.. فنحن في أمان ﻷننا لسنا أشرار أو مهملين وسُذج.
اللوم في مصر وانتقاد المقاومة قديم، وظهر جليًا في ساعة من عام 2008، حين عنّف مارّة بأحد شوارع مصر الجديدة فتاة قاومت محاولاتهم لتهريب سائق تحرش بها وكاد يدهسها حين حاولت الإمساك به، وحين رفضت اعتذاره المشروط بإفلاته من العقاب؛ سألوها باستنكار "انتى عايزة إيه يعني"؟
غير مستبعد أبدًا أن نجد بين مَن هاجموها لإصرارها على اﻹبلاغ عنه، ذلك الرجل أو تلك السيدة الذين نسمعهم يأمرون أطفالهم "اللي يضربك اضربه"، لكن يجب ألاّّ ننسى أنهما أيضًا قد يكونا من المؤمنين بالقاعدة المجتمعية الشهيرة غير المفهومة "البنت المحترمة ماتردش على اللي بيعاكسها".
في تلك الساعة كانوا ضدها، لكم تكن صدمتهم من التحرش، بل من رد فعل الفتاة. سألها أحدهم باستنكار حين رأى تصميمها على اصطحاب المتحرش لقسم الشرطة "أنا مش فاهم إنتى واقفة كده فى وسط الرجالة تعملي إيه؟".
أجابت الفتاة عن السؤالين السابقين عمليًا، إذ أقامت دعوى قضائية، كانت سابقة آنذاك، وزاد بعدها الأمل في تغيير طريقة التفكير، لكن للأسف اﻷمر لم يتغير كثيرًا، فبعد مرور عقد على قضية تلك الفتاة القاهرية، نهى رشدي، وجدت قرينتها الصعيدية رانيا فهمي مَن يساعد المتحرش على الهرب، ومَن يُثنيها عن مقاضاة المتحرش، وكانت نصيحتهم لها "ماتفضحيش نفسك".
مزيد من اﻷسئلة على هامش هاتين القضيتين الصادر فيهما حُكمًا قضائيًا: مَن اﻷولى بسؤال "أنت بتعمل إيه؟" نهى أم المتحرش؟ ومَن الذي يجب أن يخاف الفضيحة.. رانيا أم المتحرش؟
المثير أنه وفي أوج انتصار نهى رشدي، قرر صحفي أن يُضمّن حواره معها سؤالاً عما كانت ترتديه في ذلك اليوم.
لو أن المغزى من سؤال "كنتي لابسة إيه؟" كان مفهومًا قبل عقد من اليوم حتى ولو غير مقبول، فإن ما لن يصبح مفهومًا أو مقبولاً على الإطلاق هو ليّ ذراع الوقائع والحقائق، بل وشطب المنطق من اﻷساس، بصورة يفلت معها المتحرش من العقاب أو على اﻷقل تتقاسم معه ضحيته الذنب.
والغريب أن هذا البحث عن ثغرات في شكوى الناجية، يستغرق فيه البعض حد الغرق في تفاصيل الحرية الشخصية للفتاة، ربما حد نسيان القضية الرئيسية، الاعتداء الذي وقع.
لا يحدث هذا من شهود العيان فقط أو اﻷهل، بل يأتي أحيانًا من برامج تليفزيونية شهيرة، مثل البرنامج الذي استضاف فتاة نجت لتوها من حادث تحرش؛ فشهدت حلقتها عرض صور وفيديوهات خاصة بها أُخذت من هاتفها الذي كان في عهدة البرنامج حتى انتهاء التسجيل؛ فتحولت الفتاة بين عشية وضحاها من خانة مجني عليها إلى خانة الدفاع عن نفسها ضد التشويه المعنوي.
السؤال هنا: هل تصبح الصور الشخصية مسوغًا للحكم على اﻷفراد وسلوكياتهم؟ هل هي أداة موضوعية للتشكيك في دقة شكواهم؟ بل من اﻷساس ما هو الاستحقاق الذي اكتسبناه لنصدر بمنتهى اﻷريحية أحكامًا أخلاقية على الآخرين؟
دعونا نذهب إلى نقطة أبعد: هل الحكم الشخصي من جانب البعض على سيدة أو فتاة بأنها "سيئة السُمعة" يعني تصالحًا وإشارة خضراء للمتحرشين؟ هل يُسقط عنها الحق في الحياة الآمنة؟
قدم القضاء جزء من الإجابة عن كل تلك الأسئلة، حين أدان الإعلامية الشهيرة بـ"السب والقذف"، واﻷهم "الاعتداء على الحياة الشخصية"؛ فكان وحكم بحبسها 6 أشهر وتغريمها 10 آلاف جنيه وكفالة 15 ألف جنيه.
لكن ما دفعته تلك الفتاة كان أكبر، 22 غرزة بالوجه في الجراحة اﻷولى لها ضمن سلسلة جراحات، تعالج وجهها من جرح قطعي أحدثه بها خصمها المتحرش كانتقام منها على مقاومة التحرش.
إذن هو تحرش ثم لوم وتوبيخ ونبذ، بل وانتقام قد يكون بالقتل أو التشويه الجسدي، ذلك بعض مما تلقاه الفتيات إذا ما قاومن، فجزائهن يكون قلب الطاولة عليهن واستنكار إصرارهن على الدفاع عن أنفسهن، بتوجيه السؤال الشهير "إنتي عايزة إيه يعني؟".
ربما يجيد الإجابة عن هذا السؤال أسرة إيمان "شهيدة التحرش"، أو نهى رشدي التي كادت تموت دهسًا على يد متحرش، أو منة التي التقطت فيديو لشاب ضايقها فصار نجمًا يتحدث للبرامج ويلتقط صورًا مع مشاهير، بينما تلقت هي التوبيخ، أو سمية التي شوّه الخصم وجهها وشوه إعلاميون صورتها وشكك البعض في قضيتها، ربما تجيب آلاف أو ملايين النساء، يتعرضن للتحرش يوميًا أيًا كان مظهرهن أو مستواهن أو أعمارهن، ولا يردن إلا بيئة آمنة وانتصار مجتمعي وإنساني لحقهن في الحياة كأقرانهن.
المؤكد أن ما تريده النساء هو ألاّ يصبحن في مرمى المتحرشين، والأهم: ألّا يصبحن في مرمى الهجوم واللوم إذا اخترن قول لا في وجه جريمة اسمها التحرش.