تصميم: المنصة

ولادة عصر الإقطاع الجديد.. إيلون ماسك يحكم العالم

منشور الخميس 28 نوفمبر 2024

في خطاب النصر الذي ألقاه دونالد ترامب بعد فوزه في الانتخابات، وجّه الشكر لأسرته وحملته الانتخابية، ثم لأكثر من ربع ساعة تحدَّث عن إيلون ماسك، مُضفِّرًا، كعادته، الحقائق بالمبالغات والأكاذيب. تكلم بانبهار عن رؤيته لأحد صواريخ ماسك، متفاخرًا بأن لا الصين ولا روسيا لديهما مثل هذه التكنولوجيا، ثم كذب مُدَّعيًا توفير ماسك إنترنت مجانيًا لضحايا إعصار هيلين.

وفي النهاية، ختم ترامب حديثه معلنًا أن إيلون ماسك سيرأس لجنةً سيشكِّلها لتحديث الحكومة الفيدرالية، ستكون لها صلاحية إنهاء عمل وكالات وهيئات حكومية وإعادة تحديث هيئات أخرى. كل هذا لأن ماسك أنفق أكثر من 120 مليون دولار لدعم حملة ترامب، وقبل غلق باب التصويت نزل بنفسه إلى الولايات المتأرجحة وقاد جهود حشد المُصوِّتين.

بوجود ماسك في إدارة ترامب بهذه الصلاحيات، تجر أمريكا العالم إلى واقع جديد قيد التشكل، وصفه كارل ماركس بالطور الأخير من الرأسمالية، بينما تصيح كامالا هاريس ومعها رموز الليبرالية الغربية بأنها الفاشية الكاملة. في هذا الطور، ينسل آخر خيط في كيلوت الديمقراطية والتمثيل النيابي، وتغيب أي حدود بين رأس المال وسلطات الدولة. أما حرية السوق فيُستبدل بها الإقطاع التكنولوجي.

سيتولى إيلون ماسك مهام الرقابة على الوكالات الحكومية التي يفترض بها أن تراقب استثماراته وأعماله، وسيكون قادرًا على توجيه هذه الهيئات وتحديد أسلوب عملها، وعلى إعادة صياغة تشريعات تستهدف منافسيه، سواء كانوا في السوق الأمريكية أو العالمية. إنه وضع لم تحلم به الأوليجاركية الروسية أو الحزب الشيوعي الصيني، وقفزة لم يستطِع أي بلد تحقيقها؛ بالتحول من دولة قومية إلى إقطاعية أو عزبة لصالح رأسمالييها.

حتى في مصر، عندما حاول جمال مبارك تصعيد أحمد عز وتسليمه مقاليد تطوير الحكومة، انفجرت العزبة في وجهيهما.

طبقة جديدة من طبقات الجحيم

إيلون ماسك

في الطور الأخير من الرأسمالية تشتد المنافسة بين رؤوس الأموال ويلتهم الكبير الصغير، ويصبح الاحتكار بديلًا عن المنافسة، ولتعظيم الأرباح وتخفيض المصروفات تتوسع الرأسمالية في تخفيض الأجور واستبدال الماكينة باليد العاملة، سواء كانت هذه الماكينة آلةً بخاريةً أو ذكاءً اصطناعيًا.

تحاول الدولة تقريب الفجوة بطبع الأوراق النقدية، فيرتفع التضخم ويزداد الفقراء فقرًا بينما يقفز الأغنياء من خانة المليارديرات إلى خانة التريليونيرات، حتى أصبح 1% من سكان أمريكا يملكون ثلث ثروة البلد الذي يمتلك بدوره ثلث ثروة الكوكب.

الوضع الأمريكي نفسه نجده مستنسخًا في الصين وروسيا، إذ تتركز الثروة في يد حفنة صغيرة تمثل النسبة المجهرية نفسها، والأسوأ أن هذه الدائرة الضيقة تحرص على ألَّا تخرج الثروة خارج سلالتها العائلية أو العرقية، تمامًا كحال الدول العربية، إذ تملك بضع عائلات مَلَكية وحاكمة في الخليج كل ثروات النفط العربية وتستغلها لإبقاء كل السلطة والثروة في يديها فقط.

يرى الكاتب والمحلل الاقتصادي يانيس فاروفاكيس، وزير المالية اليوناني الأسبق، أن الرأسمالية كما نعرفها ماتت عام 2008، حين حدثت الأزمة الاقتصادية وانكشف فساد البنوك والمؤسسات الاقتصادية الأمريكية. وطبقًا لقواعد السوق الحرة، كان على الخاسر أن يخرج، لكن بدلًا من ذلك دخلت الحكومة الأمريكية السوق لتنقذ الخاسرين بل وتكافئهم، ومنحت الدعم السياسي والغطاء المالي لكل المؤسسات المالية التي كانت على وشك الإفلاس.

طبعت البنوك تريليونات الدولارات وضخَّتها في السوق، لتذهب بشكل أساسي إلى شركات التكنولوجيا وجيوب زوكربيرج وبيزوس وماسك، وغيرهم من خراتيت وادي السيليكون وشركات الإنترنت، الذين بدورهم استخدموا هذه الأموال في تغيير شكل الإنترنت ومستقبله والتوسع في الاستثمار في مراكز البيانات وتكنولوجيا المراقبة.

ما دفعته النخبة السياسية الأمريكية لهذه الشركات في 2008، ردته الشركات في انتخابات ترامب الأولى 2016 واستفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهي تستعرض قوة الخوارزميات وقدرتها على التلاعب بالمواطنين وقيادتهم كما البهائم الضريرة نحو مسلخ الفاشية الحديثة. محمد نعيم في أحد مقالات سلسلة قرن الأزمة الممتدة يفصِّل الجذور التاريخية التي أوصلتنا لتلك اللحظة الكابوسية.

لكن ها نحن ندخل فصلًا جديدًا من طبقات الجحيم، فوجود إيلون ماسك على رأس لجنة إصلاح الحكومة الفيدرالية، هو إعلان عن بداية عصر الفاشية التكنولوجية التي سيصبح فيها ملكًا للأوليجاركية العالمية. فبعد بضعة شهور، سيصبح أغنى رجل في العالم شريكًا في حكم وإدارة أكبر ترسانة عسكرية ونووية على الكوكب، دون أي ضمان بألَّا يُسخِّرها لخدمة مصالحه ورؤاه الخاصة.

الإبادة ستكون شعار المستقبل بقنابل الألفي كيلوجرام التي لا تخفي نفسها أو بالأسلحة المُهربة وسط الطعام

تتجلى مؤشرات هذا الوضع الجديد كل يوم منذ فوز ترامب، الذي أعلن بنفسه أن ماسك شارك في مكالمة طويلة أجراها مع الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي، صرح بعدها جي دي فانس، نائب ترامب، بأن الولايات المتحدة الأمريكية قد تُقلِّص دعمها أو تنسحب من الناتو إذا أصرت الدول الأوروبية على فرض قوانين ولوائح تضر بشركات واستثمارات إيلون ماسك، سواء في مجال صناعة السيارات الكهربائية أو شبكته الاجتماعية إكس.

سؤال المستقبل هو هل سترضى الأوليجاركية الأمريكية والعالمية بماسك ملكًا متوجًا؟ هل ستقبل الأوليجاركية الروسية والإقطاع الصيني والأوروبي بالخضوع لماسك وقواعده، وتتقاسم ثروات الكوكب الطبيعية معه وطبقًا لشروطه؟

تقديري أنهم سيقبلون، وستمر عملية التفاوض بين النخبة الإقطاعية المالكة للكوكب عبر مفاوضات بعضها تجاري ودبلوماسي، وبعضها سيتطلب تدخلًا عسكريًا. لكن في كل الحالات سيمر هذ القبول على جثثنا جميعًا، سنكون نحن وقود المعارك القادمة على تقسيم الليثيوم والمعادن اللازمة لصناعة بطاريات السيارات والشرائح الإلكترونية، وفئران التجارب التي ستوضع في سجون الخوارزميات والغباء الاصطناعي لمراقبتها والسيطرة على انفعالاتها، وهي بداخل فقاعة لا تحتوى إلا على فيديوهات أم خالد ومواسم الرياض. أما من سيحاول التمرد، فسيكون مصيره مثل مصير الفلسطينيين في غزة: الإبادة. 

الإبادة ستكون شعار المستقبل، ستتم أحيانًا بقنابل الألفي رطل التي لا تُخفي نفسها، كما في غزة ولبنان، أو بأسلحة مُهربة كمساعدات طبية وإنسانية، كما في السودان. 

ترامب ونسخه المُصغَّرة

بعد أسبوع من إعلان فوزه، ذهب ترامب لمشاهدة مباراة UFC، وهي رياضة عنيفة غير أولمبية بدأ صعودها منذ عقدين، يتقاتل فيه منافسان دون أي قواعد. جلس الرئيس المنتخب وإلى يمينه إيلون ماسك، وإلى يساره ياسر الرميان، محافظ صندوق الاستثمارات السعودي. إجمالي الثروة التي يتحكم بها الرجلان تتجاوز 1.2 تريليون دولار.

تجمع هؤلاء الثلاثة رؤية واحدة للعالم، يكونون فيها مُلَّاك الثروة وملوك الشعوب. في عالمهم، تنتقل البضائع ويتحرك الرأسمال بسهولة، لكن العمالة تظل مقيدة بقوانين الكفالة والهجرة التى سيطبقها ترامب.

صحيح أن السعودية نانانا تسعى إلى أن تتحول لصورة أمريكا حيث الاستعراض والرقص والاستهلاك، لكن النخب السياسية والرأسمالية الأمريكية بدورها تحلم بالتحول لنظام حكم كما السعودية، حيث لا تمييز بين السلطة السياسية ورأسمال، ولا حقوق للعمال؛ لا نقابات ولا اتحادات عمالية. فقط قبضة أمنية حديدية في يد، وخوارزمية الإنترنت في اليد الأخرى، للتحكم فيما يراه الناس ويتحدثون به.

هناك شبح جديد يخيِّم على العالم، سنشهد تجلياته في السنوات المقبلة ونحن نرى الكثير من القيادات السياسية في العالم وهم يتحولون إلى نسخ مصغرة من ترامب، أو إلى كائنات دودية وطفيلية تعيش على روث الفاشية الإقطاعية الجديدة.

خطابات الحرية والديمقراطية وحق الأفراد في حياة كريمة والشعوب في تقرير مصيرها ستصبح محل شك، بل إن الحياة ستتوقف عن أن تكون حقًا بحد ذاتها، لتتحول إلى منَّة وفضل من الضابط الإسرائيلي الذي طار من ميامي فلوريدا ليشارك في الإبادة لثلاثة شهور ويعود ليحضر حفل تنصيب ترامب، أو من إيلون ماسك الذي يريد تقليص ميزانية التعليم والمدارس الأمريكية لحرمان ملايين الأطفال من وجبة الإفطار والتغذية المدرسية، ليأخذ هذه الأموال ويبني بها صواريخَ عظيمةً تأخذه ونخبته إلى المريخ.

يمكنك أن تنظر حولك، وسترى نسختك المحلية من ماسك أو الضابط الإسرائيلي. سيراهن السادة الجدد على استخدام التكنولوجيا لمراقبة الجماهير والسيطرة عليهم، وسيَخضع الناس لأوهام النجاة الفردية وحلم الثراء بالانحناء وصلوات الشكر والمديح في عبقرية إيلون ماسك أو سمو ولي العهد. ووسط كل هذا، سترتفع درجة حرارة الكواكب وسيزداد عنف الكوارث الطبيعية الناتجة عن استنزاف ثرواته، حتى تبدو الجائحة القادمة أو الكارثة البيئية المنتظرة وكأنها أمل ورحمة، لعلك تجد شيئًا من العزاء بأنك لن تكون وحدك.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.