تصميم: أحمد بلال، المنصة
مركب محملة بمهاجرين

الهجرة فعلَ مقاومة

قراءة في ميراث الاستعمار العالمي

منشور الاثنين 6 تشرين الأول/أكتوبر 2025

منذ سنوات طويلة، تسيطرُ على النقاش العام في مصر والمنطقة العربية بشأن مسألة الهجرة عددٌ من الصور النمطية تختزل المهاجر واللاجئ غالبًا إما في صورة مَن يهدد الأمن القومي، أو مَن يشكّل عبئًا على الاقتصاد الوطني. لكنْ هناك مقاربات فكرية أعمق تحاول إعادة صياغة السؤال من جذوره، لتضع الهجرة في سياقها التاريخي والسياسي الأشمل.

واحدةٌ من هذه المقاربات قدمتها أستاذة القانون والمديرة السابقة لمعهد بروميس لحقوق الإنسان في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس. إيه. تيندايي أشيومي، في بحثها المهم "الهجرة فعلًا مناهضًا للاستعمار"، وفيه تخلص إلى أن حركات البشر عبر الحدود اليوم ليست مجرد نتيجة ظرفية للفقر أو الحروب، بل امتداد لتاريخ استعماري طويل لم يُطوَ بعد.

في مقدمة بحثها، تشرح أشيومي كيف أن الاستعمار الأوروبي لم يكن مجرد حدث عابر في الماضي إنما مشروع متكامل أعاد تشكيل اقتصادات ومجتمعات بأكملها، ورسم خرائط الدول، ووجه مواردها البشرية والطبيعية لخدمة المركز الاستعماري في أوروبا. هذا الإرث ترك دول الجنوب، منها مصر، في موقع التابع اقتصاديًا وسياسيًا، غير قادرة على تحقيق تنمية مستقلة أو بناء أنظمة عادلة تضمن حياة كريمة لمواطنيها.

لذلك، ترى أشيومي أن الهجرة المعاصرة من الجنوب إلى الشمال ليست خروجًا عن "النظام الطبيعي" للعلاقات الدولية، إنما هي إعادة توازن ضمني بين ما نهبه الاستعمار قديمًا وما يطلبه المهمشون اليوم من فرص وحقوق.

هنا نرى رؤية مختلفة وجذرية حول الهجرة الدولية، إذ تعتبرها امتدادًا لمسار تاريخي من الظلم الاستعماري الذي أعاد تشكيل خريطة العالم، وفرض تبعية اقتصادية وسياسية وثقافية على شعوب الجنوب العالمي. من هذا المنطلق، ينبغي التعامل مع الهجرة باعتبارها حقًا تاريخيًّا وأخلاقيًّا مشروعًا يرتبط بميراث الاستعمار، لا قضية أمنية أو أزمة إنسانية فحسب. 

الذهنية الاستعمارية

قارب يحمل مهاجرين قبالة سواحل اليونان

في الحالة المصرية، يكتسب هذا التحليل دلالات خاصة. فمنذ بسط الاحتلال البريطاني سيطرته على مصر في أواخر القرن التاسع عشر، تحولت البلاد إلى ما يشبه "الملحق الاقتصادي" للمصالح الأوروبية. زراعة القطن كانت النموذج الأبرز؛ محصول واحد احتكر مساحات واسعة من الأراضي الزراعية ليس لتلبية حاجات المصريين الغذائية، إنما لإمداد مصانع النسيج البريطانية بالمواد الخام. هذا التوجه الاقتصادي ضيّق من خيارات الفلاح المصري، وأفقد المجتمع قدرته على الاكتفاء الذاتي، وزرع بذور الهشاشة الاقتصادية التي ما زلنا نعاني منها حتى اليوم.

ومع مرور الزمن، لم تنقطع مصر عن هذه الدائرة، ودخلت في أشكال جديدة من التبعية مع السياسات النيوليبرالية منذ السبعينيات، حين فُتح الاقتصاد أمام رؤوس الأموال العالمية بشكل غير متوازن. هذه السياسات أدت إلى مزيد من الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، ودفعت ملايين المصريين إلى الهجرة، سواء إلى الخليج أو إلى أوروبا بحثًا عن حياة أفضل. هنا تصبح الهجرة المصرية في حد ذاتها جزءًا من المسار التاريخي الذي يربط الاستعمار القديم بأشكال الهيمنة الاقتصادية الجديدة.

لكن مصر التي تُصدّر المهاجرين، أصبحت أيضًا محطة رئيسية للمهاجرين واللاجئين من دول الجوار. فمع اندلاع الحروب في سوريا والسودان واليمن وليبيا، واستمرار أزمات القرن الإفريقي، أصبحت مقصد مئات الآلاف الذين يبحثون عن الأمان. كثيرًا ما يُنظر إلى هؤلاء في الخطاب الرسمي والإعلامي باعتبارهم مشكلةً أو تهديدًا، من دون الاعتراف بأن وجودهم مرتبط ببنية إقليمية ودولية تداخلت فيها المصالح الاستعمارية القديمة مع التدخلات الحديثة. فالحروب التي تدفع الناس إلى النزوح لم تأتِ من فراغ، لكنها نتاج تراكم طويل من التلاعب الخارجي والضعف الداخلي.

لكن مصر ليست وحدها في هذا المشهد. في تونس، قصة مشابهة تتكرر. آلاف الشباب التونسيين يعبرون البحر المتوسط سنويًا إلى إيطاليا وفرنسا. هناك أيضًا إرث استعماري ثقيل؛ الاقتصاد الذي أعاد الفرنسيون تشكيله لربط تونس بالأسواق الأوروبية، والسياسات النيوليبرالية التي عمّقت الفقر بعد الاستقلال.

في المغرب، الحكاية لا تختلف كثيرًا. تاريخ طويل من الاستعمار الفرنسي والإسباني، واقتصاد يعتمد على تصدير المواد الخام وتحويلات المهاجرين، جعل من الهجرة جزءًا من النسيج الاجتماعي.

هذه التجارب من مصر وتونس والمغرب تكشف عن صورة أوسع؛ الهجرة ليست مجرد حركة أفراد، إنما فعل جماعي ثوري احتجاجي يرتبط بتاريخ مشترك من الاستعمار والتبعية. وإذا كان المهاجر المصري أو التونسي أو المغربي يتجه نحو أوروبا، فهو لا يذهب إلى مكان غريب تمامًا، لكن إلى مركز ظل لعقود يستنزف موارد بلاده. هنا تصبح الهجرة شكلًا من أشكال "تفكيك الاستعمار"، أي محاولة لاستعادة جزء من الفرص التي سُلبت عبر التاريخ.

تفتح أوروبا حدودها لما يفيدها اقتصاديًا وتغلقها في وجه البشر

لكن ماذا عن أوروبا نفسها؟ إذا كانت الهجرة اليوم توصف هناك على أنها "أزمة"، فمن المهم أن نفهم كيف تصوغ القارة العجوز سياساتها في ضوء تاريخها الاستعماري. منذ تسعينيات القرن الماضي، ومع توقيع اتفاقية شنجن، أعادت أوروبا رسم حدودها بشكل يعكس مفارقة عميقة؛ الحدود أصبحت مفتوحة أمام البضائع ورؤوس الأموال الأوروبية لكنها مغلقة أكثر فأكثر أمام البشر القادمين من الجنوب. قوانين اللجوء الأوروبية، خاصة بعد 2015، شدَّدت الإجراءات وقيَّدت الحق في التنقل، بينما لم تضع في الاعتبار أن كثيرًا من هؤلاء المهاجرين يأتون من مناطق كانت خاضعة لسيطرة أوروبية، بل إن بعضهم يتحدث لغات المستعمر السابق ويملك روابط تاريخية معه.

فرنسا، التي تستقبل أكبر جالية مغاربية في أوروبا، مثال على ذلك. على الورق، القوانين الفرنسية تعتبر الهجرة من المغرب أو الجزائر "هجرة اقتصادية"، متجاهلةً أن فرنسا نفسها أعادت تشكيل اقتصادات هذه الدول خلال عقود الاستعمار بطريقة دفعت أجيالًا كاملةً إلى البحث عن فرص خارجية. وإيطاليا، التي تعتبر اليوم المهاجرين من شمال إفريقيا "مشكلة أمنية"، ظلّت حتى عقود مضت القوة الاستعمارية التي تحكم ليبيا وشاركت في رسم خريطة المتوسط بما يخدم مصالحها.

بهذا المعنى، تصبح سياسات الهجرة الأوروبية استمرارًا لذهنية استعمارية؛ تفتح أوروبا حدودها لما يفيدها اقتصاديًا، وتغلقها في وجه البشر الذين يحاولون استعادة جزء من الفرص التي سُلبت. هي المعادلة نفسها التي عرفتها مصر منذ القرن التاسع عشر؛ القطن يخرج إلى مصانع مانشستر بحرية، لكن الفلاح المصري لم تكن له حرية اختيار ما يزرع أو كيف يعيش.

تصحيح ميزان مختل

إذا اعتمدنا منظور أشيومي في قراءة المشهد، فسنكتشف أن مصر، مثل غيرها من بلدان الجنوب، عالقة في وضع مزدوج؛ من ناحية، هي بلد يُصدِّر العمالة إلى الخارج بسبب ضعف التنمية والفرص، ومن ناحية أخرى، هي بلد مستقبل لموجات لجوء قادمة من جوارها الممزق. وفي الحالتين، يبقى العامل المشترك هو التاريخ الاستعماري والعلاقات غير المتكافئة مع القوى الكبرى.

مقاربة "الهجرة كفعل مناهض للاستعمار" تقدم دعوة إلى مشروع تحرري أشمل

هذا الفهم يفرض علينا إعادة النظر في السياسات والخطابات المحلية. فالحديث عن "عبء" اللاجئين في مصر يتجاهل الجذور الاستعمارية للأزمات التي دفعتهم للنزوح. كذلك، فإن النظر إلى المهاجر المصري في أوروبا باعتباره مجرد "باحث عن عمل" يتجاهل أن اختياراته مقيدة بمنظومة اقتصادية عالمية صُممت في الأصل لتبقي الجنوب في موقع التابع.

من هنا، فإن مقاربة "الهجرة كفعل مناهض للاستعمار" لا تقدِّم فقط تفسيرًا مختلفًا، بل أيضًا دعوة إلى مشروع تحرري أشمل. مشروع يعترف بأن حركة البشر ليست تهديدًا، بل استجابة طبيعية لعدم المساواة التاريخية. في السياق المصري، هذا يعني أن التعامل مع الهجرة يجب ألا يُختزل في منطق أمني أو اقتصادي ضيق، وينبغي فهمه في سياقه التاريخي جزءًا من معركة أطول من أجل العدالة والتنمية المستقلة.

لم يكن الاستعمار الأوروبي مجرد غزو عسكري، بل عملية إعادة توزيع غير عادلة للموارد والسلطة عبر العالم، خلقت تفاوتات هائلة بين الشمال والجنوب. هذه التفاوتات لم تنتهِ مع الاستقلال السياسي، واستمرت بأشكال جديدة من الاستغلال الاقتصادي والتبعية الثقافية. ومن ثَمَّ، فإن شعوب الجنوب حين تهاجر اليوم إلى بلدان الشمال فهي في الواقع تمارس حقًا في استعادة جزء من الموارد والفرص التي سلبها الاستعمار تاريخيًا.

إذن الهجرة ليست "تهديدًا" لسيادة الدول الغنية، إنما آلية لتصحيح ميزان تاريخي مختل، وشكل من أشكال "إزالة الاستعمار" بالمعنى الحديث، حيث يسعى المهاجرون إلى كسر الحدود المصطنعة التي رسمها الاستعمار، واستعادة حضورهم وحقهم في المشاركة بالثروة العالمية التي أسهموا في إنتاجها عبر عقود من النهب والاستغلال.

بناءً على هذا الطرح، فإن الحل المستقبلي هو إعادة صياغة خطاب دولي حول الهجرة يعترف بأن مواطني العالم الثالث أصحاب حق تاريخي في الحركة والعيش والاندماج داخل الفضاء العالمي، لا متطفلين على الغرب. بهذا المعنى، تتحول الهجرة إلى أداة عدالة تاريخية أكثر منها أزمة عابرة، كما تصورها قوى اليمين الغربي.

إعادة صياغة خطابنا حول الهجرة بهذا الشكل يفتح الباب لتغيير جذري في السياسات. فبدلًا من التركيز على الحواجز والقيود، يمكن التفكير في أشكال من التعاون والتكامل ترد الاعتبار للمهاجر واللاجئ كفاعل إنساني يستحق الكرامة والحقوق. كما يمكن أن تساعد هذه الرؤية في بناء وعي مجتمعي جديد، يربط قضايا الداخل المصري بما يجري على الساحة الدولية، ويضع مصر في موقع فاعل، لا متلقّ فقط.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.