تصميم سيف الدين أحمد، المنصة 2025
تصبح جائزة نوبل للسلام، التي كان مفترضًا بها أن تُكرّم من يتحدون الظلم بتحقيق سلام العدل، مرآةً لتصور الغرب عن السلام

جائزة نوبل لـ"سلام القوة" الغربي

منشور الأربعاء 22 تشرين الأول/أكتوبر 2025

هذا الشهر، فازت زعيمة المعارضة الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو، اليمينية المؤيدة للتدخل العسكري الأمريكي في بلادها من أجل "الديمقراطية"، بنوبل للسلام، بعد أن وصفتها لجنة الجائزة بأنّها "بطلة سلام شجاعة ومخلصة"، وأشادت بها لإبقاء "شعلة الديمقراطية متقدة في ظلام متصاعد".

لكن فوز ماتشادو بالجائزة واجه انتقادات لاذعة بالنظر إلى تحالفها مع متطرفين من أمثال بنيامين نتنياهو وجايير بولسونارو ودونالد ترامب، الذي طُرح اسمه أيضًا للفوز بنوبل، ما يضعنا أمام سؤال أعمق عن مفهوم "السلام" الذي تتبنّاه الجائزة ولجنتها.

خلال عقدين، تحوّلت فنزويلا من اشتراكية شعبوية في عهد هوجو تشافيز إلى استبداد عميق تحت حكم نيكولاس مادورو، مع انهيار اقتصادي ونزوح جماعي، وقمع شديد. هنا برزت ماتشادو واحدةً من أبرز خصوم النظام، وكسبت تأييدًا شعبيًّا في الانتخابات المتنازع على نتائجها عام 2024، حين رفضت المعارضة الاعتراف بهزيمة مرشحها إدموندو جونزاليس، لتواجه حملةَ قمع جديدةً اضطرت معها ماتشادو إلى الاختباء. وظلّت تدعو إلى زيادة الضغوط الدولية، مؤمنةً بأن التهديد الجاد بالقوة العسكرية وحده ما سيُعيد الديمقراطية إلى بلادها.

تبنّت ماتشادو مواقف أقرب إلى استدعاء الحرب لبلادها منها إلى السلام؛ فقد دعمت العقوبات التي فاقمت الوضع الإنساني، وأيدت الحشد البحري الذي أمر به ترامب في الكاريبي قبالة السواحل الفنزويلية. إلى جانب ذلك، هي حليفة لنتنياهو الذي تلاحقه المحكمة الجنائية الدولية، وتعَّهدت بنقل سفارة بلادها إلى القدس في تحدٍّ للقانون الدولي ولقرارات مجلس الأمن، وإنكارٍ لحقوق الفلسطينيين؛ مواقف تنسجم مباشرة مع خطاب اليمين الغربي ومصالحه.

تقديرًا لما سمته "دعمه الحاسم لقضيتنا"، أهدت ماريا الجائزة إلى ترامب المتهم بإشعال الحروب والعنصرية ودعم العنف الاستعماري الذي ادّعى مرارًا أنه يستحق نوبل للسلام لأنه "أنهى ثماني حروب" و"أنقذ ملايين الأرواح"، لكنَّ سجله المفعم بدبلوماسية القسوة والترحيل الجماعي ووصم المهاجرين ودعم الأنظمة الاستعمارية والإبادية يكشف أن ما يُعرَف بـ"السلام" بالنسبة له ما هو إلا شرعنة للقوة؛ فـ"الاتفاقيات" التي أُعلنت في الشرق الأوسط شرّعت الفصل العنصري والإبادة.

يفتح فوز ماتشادو، مع ترويج ترامب لنفسه، نافذةً على تعريف مقلق للسلام؛ حيث لا تمييز بين القوة والفضيلة، وبين الهيمنة والدبلوماسية، لتصبح جائزة نوبل، التي كان مفترضًا بها أن تُكرّم من يتحدُّون الظلم بتحقيق سلام العدل، مرآةً لتصور الغرب عن السلام، وطريقته في مكافأة من يتبنّون هذا التصور.

من يخبرنا عن السلام؟

صورة أرشيفية من حرب فيتنام                                                                                                                   

بالنظر إلى تكوينها، ليس مفاجئًا أن تحكم مركزية الغرب طريقة لجنة جائزة نوبل في النظر إلى العالم، حيث القيم الغربية هي ما تحدّد في النهاية ما يُعد سلامًا. يحدث ذلك والغرب نفسه كثيرًا ما كان مهندس الاضطرابات التي تدّعي الجائزة تصحيحها.

تأسست جائزة نوبل للسلام عام 1895 بموجب وصية الصناعي السويدي ألفريد نوبل، مخترع الديناميت، بمنح الشخص أو المؤسسة التي قامت بـ"الأعظم أو الأفضل عمل من أجل الأخوّة بين الأمم، أو من أجل إلغاء أو تقليص جيوش دائمة، أو من أجل عقد ونشر مؤتمرات السلم"، جائزته للسلام.

على خلاف الجوائز العلمية التي تُمنَح في ستوكهولم، تُدار جائزة السلام من قِبَل لجنة يُعيّنها البرلمان النرويجي، باعتبار أن نوبل اختار النرويج بسبب حيادها السياسي في ذلك الحين، ورأى أنها مناسبة لتحمُّل أمانة قيم الجائزة.

تتألف اللجنة عادةً من خمسة أعضاء؛ يراجعون الترشيحات، ويُكلِّفون بإجراء بحوث تمهيديّة، ويضعون القائمة النهائية. وغالبًا ما يختارهم البرلمان من السياسيين المتقاعدين بدل أن يكونوا خبراء دوليين أو دعاة سلام. بعبارة أخرى؛ من يحدّد معنى السلام خمسة من النخبة السياسية النرويجية، بينما تظل أصوات مناطق الصراع والجنوب العالمي غائبة إلى حد كبير.

تغلف اللجنة السلام الذي تنشده بمفردات مثل الأخوّة والتسامح والثقة، وبناء مؤسسات تتيح للناس العيش بعيدًا عن الخوف والحاجة، وتتبنى تعريفًا محددًا له هو ذلك المتجذر في الفكر الغربي، ويعكس في جوهره مفاهيم الدبلوماسية الأوروبية في القرن التاسع عشر، حيث "السلام" هو تحقيق الاستقرار بين الدول ذات السيادة، لا العدالة للشعوب الواقعة تحت الاستعمار.

هذا الفهم يتجاهل العنف البنيوي والاستعماري، ويُصوِّر السلام فقط كتعاونٍ بين الأمم، دون النظر إليه كهدفٍ نهائي لمعركة التحرّر من الهيمنة.

لطالما عبّرت اللجنة عن قيم التحيّز إلى الغرب وتبنّت النظرة المركزية الأوروبية للعالم

في الأوساط الأكاديمية، بات الباحثون يتحدثون عن انقسام بين فكرة السلام الليبرالي و"السلامات المتعددة"؛ الأول يقوم على الديمقراطية والأسواق والمؤسسات، والثاني على القيم المحلية والثقافية والروحية. وجائزة نوبل تلتزم إلى حد كبير بمفهوم "السلام الليبرالي"، محوّلة إياه إلى ما يشبه سلعة حضارية، أو منتجًا أخلاقيًا غربيًا يقدم إلى "آخرين".

تكرس الجائزة بذلك تعريفًا ضيقًا لـ"النظام الصالح"، يصبح فيه السلام مرادفًا للتغريب.

ورغم ادعاءات الحياد، ورفض رئيس اللجنة هذا العام يورجن واتني فريدنس أن تكون الضغوط أو الانتماءات الحزبية أو التكهنات الإعلامية من مقاييس الاختيار، مؤكدًا أن الأعضاء يُبعدون تلك العوامل عند اتخاذ قرارهم، فإن تاريخ نوبل يقول غير ذلك.

لطالما عبّرت اللجنة عن قيم التحيّز إلى الغرب، وتبنّت النظرة المركزية الأوروبية للعالم، بمنحها الجائزة لغربيين في الغالب، أو لمن يتوافَقون مع سرديات السلام والتقدّم الغربية في بقية الحالات.

دبلوماسيون وقتلة

كرمّت الجائزة، بالطبع، شخصيات عملت بجدّ لصالح السلام، من مارتن لوثر كينج إلى مالالا يوسفزاي. لكن في كثير الحالات، مُنحت إلى من تضارب عملهم مع جوهر السلام.

من بين أكثر الفائزين إثارة للجدل هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق ولاحقًا وزير الخارجية، الذي نال الجائزة عام 1973 لجهوده في إبرام اتفاقيات باريس لإنهاء حرب فيتنام.

صُوّرت الاتفاقية إنجازًا دبلوماسيًّا، لكنها جاءت عبر رجل قاد ونفّذ حملات قصف في كمبوديا ولاوس، وتبنّى سياسات قتلت عددًا هائلًا من المدنيين، وأطالت أمد الحرب بدلًا من إنهائها، دون أن تلاحقه يد العدالة.

تبرز جائزة 1973 مثالًا مركزيًّا على خلط اللجنة بين الاستعراضات الدبلوماسية وجوهر السلام، ويظهر دورها أداة قوة ناعمة في خدمة الولايات المتحدة وحلفائها، بعد أن أعادت تقديم المعتدي باعتباره صانع سلام وقائدًا أخلاقيًا، وعزّزت سرديته في الحرب الباردة، وكافأت القوة باعتبارها مبادرة إنسانية.

كافأت لجنة نوبل مُتهمين اثنين بارتكاب جرائم حرب على تأسيس شكل من أشكال الحكم ما بعد الاستعمار

مثال صارخ آخر جاء في 1993، حين شاهد العالم رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات وهما يتصافحان في حديقة البيت الأبيض بعد توقيع اتفاقية أوسلو بحضور الرئيس الأمريكي بيل كلينتون. تلك اللحظة، التي جُسِّدت رمزًا لمصالحة يُفترض أن تُمهّد الطريق للسلام بعد عقود من الصراع، منحت عام 1994 الجائزة لعرفات ورابين ووزير خارجيته وقتها شيمون بيريز، "لجهودهم في خلق السلام في الشرق الأوسط".

لكن هذه الجهود كرِّست في الواقع استراتيجية لإدارة الاحتلال بدل إنهائه. لم تكن أوسلو أكثر من صيغة تسوية منحت الفلسطينيين حكمًا ذاتيًا محدودًا دون السيطرة على الحدود أو الأمن أو الموارد.

نظام في جوهره ليس إلا شكلًا من أشكال الحكم ما بعد الاستعمار رأت لجنة نوبل أن عليها مكافأة مؤسسيه؛ فمنحت ياسر عرفات الذي اعتُبر لعقودٍ "إرهابيًا" صك الاعتراف والقبول الغربي. وبيّضت سُمعة كلٍّ من رابين أحد مهندسي تهجير الفلسطينيين في 1948 وكاسر عظامهم خلال الانتفاضة الأولى، وبيريز أبو القوة النووية الإسرائيلية. في وقتٍ لاحق، سيعطي بيريز الضوء الأخضر لمجزرة قانا عام 1996 في لبنان. أما الولايات المتحدة، فقد عززت الجائزة بصورة غير مباشرة دورها كوسيط كريم.

أخيرًا، في 2012، ذهبت الجائزة إلى الاتحاد الأوروبي تقديرًا "لتعزيز السلام والمصالحة". القرار قوبل بانتقادات واسعة باعتباره احتفاءً ذاتيًا أُعطي للكتلة التي تستورد الأسلحة، وتفرض إجراءات تقشف مزعزعة في جنوب أوروبا، وتتّخذ مواقف قاسية تجاه اللاجئين.

ما لا تراه أعين النرويجيين

مثلما تخبرنا قائمة الفائزين بالجائزة عن انحيازات الجائزة، فإن التغافل عمن لم تَرَهم لجنة نوبل يشي بما هو أكثر؛ من دعاة اللاعنف والعدالة في التاريخ إلى من لا تتوافق أفكارهم مع التصورات الغربية عن العالم ومفاهيمه، في تذكير مستمر بأن الجائزة مجرد أداة دبلوماسية لا مقياسًا حقيقيًا للشجاعة الأخلاقية.

أشهر هذه الإغفالات كان المهاتما غاندي. فرغم ترشيحه خمس مرات، لم ينَل زعيم حركة الاستقلال الهندية السلمية الجائزة أبدًا. التحيّز الاستعماري وعدم ارتياح اللجنة للحركات المناوئة للاستعمار لعبا دورًا بارزًا. كان تحدّيه للإمبراطوريات الغربية خيارًا سياسيًا غير مريح للجائزة التي نشأت من داخل مؤسسات تلك الإمبراطوريات. كانت فلسفته في المقاومة أكثر راديكالية مما يمكن لذهنية النرويجيين الخمسة تصوّره في منتصف القرن العشرين.

بنمط متكرر تجاهلت لجنة نوبل عبر تاريخها الحركات المناهضة للاستعمار وحقوق الشعوب الأصلية

نجد هذا النمط يتكرر مع دول الجنوب العالمي. قادة مناهضون للاستعمار مثل أميلاكار كابرال، باتريس لومومبا، وفرانز فانون، ممن قدَّموا في ربطهم التحرر بالكرامة والعدالة مفهومًا للسلام أكثر اتساقًا مع جوهره من قادة إمبرياليين سعت نوبل إلى تنظيف سجل جرائمهم، تم تهميشهم أو إسكاتهم قبل أن يعترف بهم النظام العالمي، لا وهم في ذروة تأثيرهم.

بنمط متكرر، تجاهلت لجنة نوبل عبر تاريخها الحركات المناهضة للاستعمار وحقوق الشعوب الأصلية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. لم تكافئ إلا دبلوماسية ما بعد الصراع عندما يمنح الغرب قبوله، بدل تكريم حركات التحرر في بداية رحلة بحثها عن سلام العدل والحرية والكرامة مثلما حدث مع عرفات.

يرتبط إذن مفهوم لجنة نوبل عن "السلام" بهيراركيات الاستراتيجية والأخلاقية الغربية ارتباطًا راسخًا، تكشفه نظرة أعمق على قائمة الفائزين. بين 1901 و2025، مُنحت الجائزة 106 مرات إلى 143 فائزًا (112 فردًا و31 منظمة). أغلب الفائزين جاءوا من أوروبا وأمريكا الشمالية؛ الولايات المتحدة وحدها تمثل نحو 20%، وأوروبا نحو 45%. في المقابل، آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية معًا لم تحصل إلا على أقل من 30%. السلام المُعترف به هنا هو ما جرت صياغته على نحو تقبله القيم الأخلاقية الغربية، التي يحتل الاستعمار والهيمنة مكانةً مركزيةً فيها.

وحتى عندما يأتي الفائزون من الجنوب العالمي، غالبًا ما يُجسِّدون ما قد نسميه معارضة مقبولة للغرب؛ أي مواقفَ أخلاقية جذابة لكنها آمنةٌ سياسيًّا من المنظور الغربي. شخصيات مثل شيرين عبادي (2003)، ليو شياوبو (2010)، وآبي أحمد (2019) تحدَّت استبدادًا غير غربي، لكنهم نادرًا ما تحدّوا الإمبريالية الغربية.

أعمالهم، إذا صيغت بلغة الفردانية الليبرالية والنسخة الكونية من حقوق الإنسان، تصطف بسهولة داخل سردية التقدُّم الغربية، ما يرسخُ قراءةَ الجنوبِ العالميِ ضمن قواعد السلام الغربية التي لا تعتبر المقاومة الجذرية للإمبريالية شكلًا من أشكال الحرية، كما ينبغي النظر إليها في العصر الحديث.

عملية ترشيح الفائزين وفق معايير غربية تتضمن صراعًا بدورها؛ مع تضخيم الأصوات التي تخدم جدولَ أعمالٍ عالميًا معيّنًا، واستبعاد تلك التي تقاوم بما يُضعف الجائزة مكانتها الأخلاقية بترسيخ صورتها كاحتفاء لا بالسلام، بل بالسلطة.

مثلًا؛ طالب كثيرون بمنح بالجائزة للصحفيين الفلسطينيين الذين يوثقون جرائم الإبادة والاحتلال، لكن لا حركة أو فردًا تحدَّوا علنًا الأسلحة الأمريكية والعنف الذي يُمارس بها نال الجائزة.

مع قبول ماريا كورينا ماتشادو الجائزة هذا العام، والترويج لشخصيات مثل ترامب لنيلها في المستقبل، بات من الضروري إعادة السؤال عن ماهية جائزة نوبل للسلام، والنظر إليها باعتبارها مرآة للتراتُبية العالمية، لتكريم سلام القوة، لا سلام العدل والحرية.

فالسلام ليس اختراع الغرب، ولم يكن يومًا كذلك، ولا يمكن وصفه أو إدارته أو منحه وفق ما تقتضيه المصالح السياسية الغربية.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.