كان قَدَرُ القرية العمراني سعيدًا خلال الحقبة الناصرية، بعكس المدينة التي هزمتها حركة يوليو ببناء المصانع في الأماكن الخطأ منها. وقد اتفقنا أن تلك الحقبة في قطاع العمران تمتد من (1952 - 1975).
كانت القرية قبل 1952 تجمعًا فطريًا صغيرًا يتوسط منطقة زراعية لإسكان الفلاحين من ملاك الأرض الصغار والعمال الزراعيين، وبعض الحرفيين والمهنيين الذين يُلبُّون حاجات السكان الضرورية.
ورغم الدعاية الكبيرة ضد الإقطاع التي شنتها دولة يوليو عبر كتب التاريخ المدرسية والإعلام والسينما، لم يكن الإقطاع الزراعي مسيطرًا على كامل الريف؛ بل كانت الأكثرية للقرى التي يسكنها ملّاك صغار، تتفاوت حيازاتهم بين العشرة أفدنة و نصف الفدان، في تقلبات تصنعها المواريث والقدرة على الادخار، اللذان يعيدان تجميع أو تفتيت الملكية بين جيل وآخر.
عمران الضرورة
عمران القرية كان عمران الضرورة، بقدر الحاجة بالضبط، وكانت البيوت متشابهة، أغلبيتها بالطوب اللبن، والأبواب والشبابيك فطرية الصنع من الأخشاب المحلية الرخيصة، وكذلك الأسقف من جذوع الأشجار والنخيل.
وتمايزت بيوت الأغنياء ببعض البذخ، كالنوافذ من الشيش والزجاج، والأسقف من الأخشاب المستوردة، وقد تكون الجدران من طوب محروق بعد إنتاجه محليًّا في القرية. تتسع البيوت لسُكنى الناس وحيواناتهم وطيورهم، بينما تُستخدم الأسطح لخزن كفاية البيت لعام من الحبوب والوقود من مخلفات الحقل، أي أعواد الذرة والقطن وروث البهائم، في دورة إنتاجية بيئية ليس فيها أي فاقد أو تلويث.
حافظ التزام الدولة بالتوظيف على إبقاء حجم القرية ضمن الحدود الآمنة
كل البناءات، فقيرها وغنيها، بارتفاع طابق واحد أو طابقين، والقرية ملمومة على نفسها، شبه دائرية، خوفًا من اللصوص. حاراتها ضيقة، تكفي لمرور البشر والدواب فحسب، بلا شجرة في شارع ولا حديقة خاصة للبيت إلا نادرًا، لأن الأشجار على بعد خطوات خارج الكردون.
بعد خمسين يومًا من حركة الضباط الأحرار تم إعلان التحديد الأول لملكية الأسرة من الأرض الزراعية، وتلته التخفيضات التي وصلت بحد الملكية إلى خمسين فدانًا. استفادت من هذا التحديد عائلات العمال الزراعيين في قرى الإقطاع، بواقع خمسة أفدنة لكل أسرة من الأرض المنزوعة.
لم يتغير التوازن إلا قليلًا في القرى التي لم تعانِ من الإقطاع، حيث قاد هوس العداء للملكية إلى تحديد القيمة الإيجارية للأرض الزراعية وتأبيد عقود الإيجار، كما هو الحال في عقود الشقق بالمدينة، وأضير صغار ملاك عوملوا كإقطاعيين، بينما كانوا على العكس يؤجرون أرضهم لحاجتهم إلى المال العاجل!
رغم هذا التفصيل الذي جعل مستأجرًا فقيرًا يشارك أرض مالك فقير في ملكه، بدأت نهضة جبارة لتوفير خدمات حضرية بالقرى. كان من نصيب القرية الكبيرة مجمعٌ يضم مستشفىً ووحدةً بيطرية ومدرسةً وصهريجًا للماء الصالح للشرب ومركزَ شباب وملعبَ كرة. بينما أقيم في القرى الأصغر المستشفى والمدرسة وصهريج الماء. كل هذه الإنشاءات بدأت معًا، كما بدأت كباري ومحاور أيامنا هذه!
إلى جانب النهضة الحضرية، حافظ التزام الدولة بالتوظيف على إبقاء حجم القرية ضمن الحدود الآمنة، لأن الزيادات السكانية ترحل إلى المدن القريبة أو إلى القاهرة، وراء حركة التوظيف الواسعة. لم تتغير خامة البناء البيئية وطريقة الفلاحين التشاركية في البناء، بينما كان الانفجار السرطاني للعشوائيات يضرب المدن في الحقبة ذاتها.
تغريبة البسطاء الكبرى
بعد الانفتاح، بدأ القدر الحزين للقرية، وأخذ يتصاعد في خط مضطرد من منتصف السبعينيات إلى اليوم، حيث بدأت تغريبة البسطاء الكبرى. خرج غالبيتهم من القرى رأسًا إلى مختلف الوجهات العربية من ليبيا إلى العراق، بسبب نهج الدولة الجديد في الانسحاب من التوظيف وتخطيط الاقتصاد.
كان ذلك أمرًا جديدًا؛ حيث كان سفر المصريين إلى الجوار العربي قبل حركة يوليو يأخذ شكل الرحلات الفردية لاستشارات قصيرة، أو إقامات لنخبة من أصحاب الخبرات المهمة من مخططي المدن وفقهاء القانون والأطباء. ومع عبدالناصر بدأت إعارات المدرسين والمهنيين على نطاق أوسع.
بعد سنوات من تغريبة الفقراء، ظهرت عوائد هذه التغريبة في عمران القرى. ولم تكن تلك العوائد بالكثرة التي تقود إلى انقلاب، وهكذا لم يظهر سوى تغير طفيف في خامة البناء بالقرية، على مراحل، ودون نزعة استعراضية.
بعض بيوت الثمانينيات جاءت خلطة من العناصر القديمة اللينة، الطين والخشب، والصلبة، الأسمنت والحديد. فكانت الجدران على سبيل المثال تُبنى بالطوب المحروق، وتُستخدم الطينة لِحامًا، ثم تأتي طبقة الطلاء/المحارة بالأسمنت. وفي الأسقف، تراوح الأمر بين الاستمرار في استخدام الخشب، والتحول إلى الخرسانة المسلحة التي سمحت بتكرار الطوابق.
ظل الأمر على هذا النحو حتى العام 1995؛ بداية النصف القاسي من ثلاثينية مبارك، والقدر الأسوأ لعمران القرى في الوقت ذاته. توقف التوظيف تمامًا، وتسارع بيع القطاع العام، أُلغيت الدورة الزراعية التي خلقت الفوضى والعوز في اقتصاد الريف بضرب القطن، المحصول الاستراتيجي.
بالتوازي، تسارعت وتيرة النمو السكاني، وأخذ الريف يحتفظ بمواليده ويتحول إلى مخزن للقوى العاطلة، بعد أن كان الشباب يهاجرون إلى المدينة وراء الوظائف.
بطالة الريف قاسية، بلا وسيلة لقتل الوقت. والتعليم في الريف أسوأ من أن يؤهل صاحبه لأي مستقبل
وعجزت وجهات السفر العربية عن استيعاب كل العمالة المصرية، خصوصًا أن العراق بات وجهة خطرة، منذ العودة الغامضة لنعوش المصريين الطائرة إبان الحرب العراقية الإيرانية، مرورًا بجريمة غزو الكويت، إلى آخر سيرة العراق الحزينة.
وكان لا بد من حل. اكتشف العاطلون أوروبا!
النجاة بقوارب الموت
بدأت موجات أولى من السفر بتأشيرات سياحية، ومع تزايد الأعداد أمام السفارات الأوروبية، تشددت القارة المترفة العجوز في منح التأشيرات، فبدأ سفر الخلسة على مراكب متهالكة، وبدأ معه عار الموت الجماعي للشباب غرقًا.
لم يركب هذا الخطر سوى أبناء الريف، بينما واصل أبناء المدن التحايل للسفر الآمن بتأشيرات سياحية صعبة أو في مناسبات مثل كأس العالم لكرة القدم، وغير ذلك من احتيالات.
أجريت استقصاءً حول تلك الظاهرة في كتابي العار من الضفتين (2010)، وشرحت الأسباب النفسية والاجتماعية والاقتصادية لانفراد القرويين بالسفر البحري. وأختصرها هنا بأن شباب الريف شجعان إلى حد التهور في مواجهة أخطار الطبيعة، فحتى من لم يعرف البحر في حياته، يتصور أنه سيتمكن من السباحة إذا ما تعرض المركب للخطر. يضاف إلى ذلك أن بطالة الريف قاسية، بلا وسيلة لقتل الوقت. والتعليم في الريف أسوأ من أن يؤهل صاحبه لأي مستقبل.
هكذا، لا يرى المراهق القروي جانب الموت المظلم في مراكب الفرار، بل فرص النجاة من موت مؤكد في قريته. هكذا تواصلت وستتواصل هذه الظاهرة المؤلمة: يموت من يموت، وأما من يحيا فيعود بأضعاف ما يعود به العامل في بلد عربي.
النظام الذي يريد المزيد من المتهمين والمزيد من الزبائن تظاهر بأنه لا يرى عشوائية الريف، مثلما تعامى عن عشوائية المدن
كان من شأن التدفقات المالية الأولى من أوروبا أن تصنع حياة مختلفة في دولة تحترم المشروعات الصغيرة وتوفر دراسات الجدوى اللازمة لها وتضعها في أيدي الشباب وتوفر مدنًا جديدة بالصحراء لهذه النهضة. لكن الدولة المتوحشة لا تعترف سوى بالرأسمالية الكبيرة الحليفة للقصر، فلم يكن أمام أموال المسافرين القرويين إلا العودة للقرى، وأن تتوجه لبناء صالات الأفراح والبيوت الأضخم من الحاجة الحقيقية.
أخذ التنافس يشتعل لبناء بيوت كبيرة تطمح أن تكون قصورًا، بذوق عامي باهظ التكاليف. ولكي يكون القصر مرئيًّا لا بد من الخروج به إلى الأرض الزراعية، وسرعان ما يصبح البناء الجديد مخنوقًا ببناءات أحدث تحاوطه، فيذهب البناة الجدد أبعد وأبعد، حتى تشابكت القرى!
والنظام الذي يريد المزيد من المتهمين، والمزيد من الزبائن، تظاهر بأنه لا يرى عشوائية الريف، مثلما تعامى عن عشوائية المدن. ولسان حاله يقول: ليحرق الفلاحون سرًا أرضهم التي جرى احتقارها علنًا إذ اعتبروا الدفاع عن الأرض السوداء التي تكونت تربتها في عشرات الآلاف من السنين (سلفية زراعية).
وذلك من أجل تسهيل البناء عليها، لأن الدولة السمسارة تريد زبائن من جهة، ومن جهة أخرى يكره ممثلوها الأرض التي تكونت تربتها على مدار آلاف السنين، لأنها تحمل آثارَ الاشتراكية التي فتتت الملكية، ولا يمكن إعداد باشاوات جدد يمتلكون المساحات الضخمة إلا في فضاء الصحراء، وهذا باب واسع يمكن أن يكون موضوعًا للحديث عن رشاد وعدالة استخدام الماء.
لنلتزم بموضوعنا: العمران. معظم ما بُني في الريف من منتصف التسعينيات حتى ثورة يناير زائد عن الحاجة، تضاعف بسببه حجم القرى دون تخطيط ودون مواصفات بناء، ودون رعاية من أي نوع، بما في ذلك شناعة مياه الشرب. الأمر الذي سيتولاه المسافرون متضامنون في إعانة أيتام وفقراء القرية، ودق طلمبات الأعماق لسحب المياه الجوفية وفلترتها، وبناء المدرسة والمستشفى.
وهذا ريف آخر يعول نفسه، بخلاف القرى الفقيرة التي لم يسافر أبناؤها، والتي يستثمرها النظام وتستثمرها جمعيات التسول كمكان لأخذ لقطة إحسان بسقف بيت فقير أو منح بقرة لن تجد طعامًا!
قامت ثورة 25 يناير المغدورة على ريف متشبع بالإسكان الزائد وافتقاد الأمل، لكن روح الميدان وصلت إلى الريف بشكل فوري، ولم تشهد الفترة من 25 يناير حتى 19 مارس 2011 خروج مركب فرار واحد من مصر. وهذا بحد ذاته يعري ماكينات الجهل والكذب الإعلامية التي تتهم راكبي البحر بالجشع الشيطاني.
دب الأمل لأقل من شهرين وتصور أبناء الريف أن بوسعهم العيش في بلدهم، لكن الاستفتاء الذي حشد له الإخوان والمجلس العسكري جعل رحلات اليأس تنطلق من جديد إلى أوروبا.
ولم تشهد سنوات إفلات الأمن (من 2011 إلى 2014) تسارعًا في تبوير الأرض بالقرى كما حدث بأطراف المدينة، لأن بناءات الريف ليست استثمارية بالأساس، ولأن فوائض أموال المسافرين بدأت تتعلم الاستثمار في عشوائيات المدينة.
لكن الأرض السوداء كالذهب لم تسترح من تبوير الأهالي حتى أتتها محاور الطرق العظيمة. أكلت المحاور ما أكلت من الأرض الخصبة وما سنحصيه لاحقًا. وتم تعويض أصحابها بشكل أفضل من تعويضات أهل المدن عن شققهم. ولم تظهر بعد بناءات جديدة حول هذه المحاور تستغل السهولة التي صارت عليها الطرق، لكنه سكون الترقب بفضل الحزم الأمني، فشهوة البناء بجوار الطرق الجيدة لا يمكن مقاومتها، وستنطلق عند أول تراخ للقبضة الأمنية.