في الكتاب الفاتن "الأمير الصغير" لأنطوان دو سانت إكزوبري، يصل الطفل في رحلاته بين الكويكبات إلى كويكب يحكمه ملك عظيم، يقول إنه يسيطر على كل شيء فيه بما في ذلك الشمس والقمر والنجوم، فيطلب منه الطفل أن يأمر الشمس بالغروب، فيتطلع الملك إلى الشمس، ويخاطبها: آمرك بالغروب في الخامسة مساءً. لكن ذلك لا يُرضي الطفل، فيقول له: مُرها أن تغرب الآن. فيسأله الملك: تُرى، لو أنني أمرت أحد جنرالاتي بأن يطير ولم ينفذ أمري، أكون أنا المخطئ أم هو؟ إن أوامري مقبولة لأنها معقولة.
بعد حقبة القرارات الانقلابية التي كان الكثير منها قاسيًا، تعلَّمت السلطة في مصر أن تجعل أوامرها معقولة. باختفاء عبد الناصر انتهى عهد الزعيم المحبوب من جماهير عريضة تتمتع برعايته، وبدأ عهد رئيس قرر أن يفطم تلك الجماهير، ولابد أن تكون أوامره معقولة.
في مرحلة إعداد الدولة للحرب، لم يسفر السادات عن ساداتيته، وبعد أن قاد الجيش للنصر بدأ إعداد المجتمع للهزيمة.
خطط لانفتاح اقتصادي غير منضبط، وكان لابد أن يتزامن التنكر لصيغة الدولة الراعية مع منح الحق في الكلام في حدود غير مؤثرة، حيث يحتاج الإنسان لفتح فمه لإدخال اللقمة وإخراج الكلام. وقد غابت اللقمة، فلا أقل من إطلاق حق الكلام لكي تكون الأوامر معقولة.
شريعة الأوامر المعقولة
بانسحاب الدولة من أدوار الرعاية، انتعشت أوضاع التجار والحرفيين، وتدهورت أحوال موظفيها الذين شكلوا مجتمع الطبقة الوسطى حتى عام 1975. وصار على السلطة أن تختار بين ملاحقة زيادات الأسعار بزيادات في المرتبات، وبين أن تغض الطرف عن سلوك هؤلاء الموظفين، مثلما يتساهل رب بيت مع أبنائه عندما يعجز عن سد احتياجاتهم. واختارت الطريق الثاني، كما رأينا ونرى.
لم يقف تدهور دخل موظفي الدولة عند مستوى الموظف الصغير، بل شمل حتى الوزراء، هكذا ولد هرم الفساد الإداري متماسكًا يتمتع بشرعية الإجماع داخل بنية النظام شبه المعلن، تناوشه الصحافة شبه الحرة، والبرلمان شبه الحر، دون أن يؤدي ذلك إلى إجراءات تستأصله، بل بالعكس تقدمت منظومة التشريعات في طريق الرخاوة لخدمة الواقع الجديد.
في الموضوع العمراني، كان التأميم والانحياز لمستأجري الشقق ضد أصحاب العمارات قد مهَّدا المسرح لاختفاء ممولي العمارة الفخمة ومهندسيها الذين يوقعون عماراتهم باعتبارها إبداعًا فنيًّا. وبدأ بناة الانفتاح يبنون للتمليك، وهؤلاء لا يعنيهم مستقبل المبنى الذي سيبيعونه من قبل أن يشرعوا في وضع أساساته.
وأصبحت كردونات البناء (الحيز المسموح بالبناء المرخص ضمنه) أضيق مما كانت عليه. توافر المال وزاد عدد السكان، ولم تزل الأرض الصحراوية ممنوعة على العمران، وكذلك الأرض الزراعية.
كي تتوازن السلطة فوق ظهر النمر دون رعاية ودون حرية يجب أن يتحول أكبر عدد ممكن من السكان إلى متهمين
والأوامر المعقولة بالنسبة للراغب في البناء والموظف مانح التراخيص، تقتضي خلق تشريعات ولوائح تخدم الطرفين. وبينما توالت تعديلات قانون حماية الأرض الزراعية تشديدًا، بدأت اللوائح التي تحكم الكردونات الشرعية تصبح غير واضحة وغير موحدة بين المناطق المختلفة بشأن نسبة المبنى إلى الفضاء المتروك للتهوية، والارتفاعات المسموح بها، كما شابت تشريعات الحفاظ على التراث المعماري الثغرات؛ فهدم الفيلات والقصور ذات القيمة الأثرية ممنوع، ولكن تحديد القيمة الأثرية متروك لتقدير الموظفين. يمكن رفض التصريح بهدم فيلا لا تتمتع بقيمة أثرية، بينما يتم التصريح بهدم أخرى ذات قيمة، أو يوعز الموظفون لملاكها بتمهيدات من رشح الصرف والمياه تجعلها آيلة للسقوط.
حق الحصول على رخصة البناء والهدم داخل الكردون قائم، لكنه غير مؤكد إلا بعد إرضاء الموظف مانح الرخصة نظير تفسير اللائحة لصالح طالب الترخيص في البداية، ثم إرضائه مجددًا لكي يغض الطرف عن تطبيق شروط الرخصة بعد الحصول عليها؛ وهكذا تعشوأت الأحياء القليلة المنظمة.
لكن المناطق التي يمكن إعاقة عشوائيتها ووضع حدود لها بالتفاعل بين القانون والفوضى، لا تُشكِّل أكثر من عشرين بالمئة من أراضي البناء، بينما تقع الثمانين بالمئة خارج حدود العقل، لن تقدر على البناء في الصحراء لأنه ممنوع تمامًا، كما أنك لا تستطيع البناء فوق الأرض الزراعية، لأن تبويرها جريمة. لكن الضرورة ستفرض الحل، وهو غياب القانون بالكامل؛ أن يتم البناء خلسة وتنام الدولة عن الأمر حتى تصبح شجرة الأسمنت الواحدة غابة من القبح والخطورة، تنشأ على الأرض الزراعية بالذات؛ فالصحراء لها رب يحميها، هو الجيش.
جهاز الدولة الشريف
في وجود قانون رخو يحكم النسبة الأصغر من المباني وغيابه التام عن النسبة الأكبر، سيبدو الاهتمام بكود البناء أو مواصفات الواجهات وألوان المباني من قبيل الخيال.
ولم يكن النصف الأول من ثلاثينية مبارك سوى امتداد بليد للنصف الثاني من عشرية السادات، مع تزايد في الرخاوة، حتى تجاوزت مرحلة الانحناء للعشوائية لتدخل مرحلة تمجيدها الصامت؛ فقد اكتشفت السلطة مع الوقت أن العشوائية حل لها هي بالذات، أكثر من كونها حلًا للسكان، فلكي تتوازن السلطة فوق ظهر النمر دون رعاية ودون حرية، يجب أن يتحول أكبر عدد ممكن من السكان إلى متهمين.
طالب الترخيص يحصل على حاجته المشروعة (بناء مسكن) بالاحتيال، ويظل مهددًا بفتح ملف مخالفته في أي وقت إما بالهدم أو بالغرامة من أجل "التصالح" مع الدولة، التي تنام راضية عنه ثم تستيقظ غاضبة منه في الوقت الذي يناسبها. والموظف مانح الترخيص حصل على رشوة، والدولة نامت راضية عنه لأنها عاجزة عن زيادة مرتبه، لكنها قد تستيقظ غاضبة عليه، فتوقعه في قضية رشوة، وساعتها سيجد أنه الوحيد الملوث في جهاز الدولة الشريف.
في حالات بسيطة تتحرك الإدارة للإزالة، وغالبًا ما تنتهي الحملة بفتح ثغرة في حائط الواجهة أو كسر عمود، وبعد أيام أو أسابيع يتم إصلاح ما أتلفته الغارة من واجهة البيت ويستمر العمل في العمارة التي ستجاورها بنايات بالطريقة نفسها تتحول إلى شارع ضيق، ثم يتحول الشارع إلى حي ثم يصبح الحي قارة، دون فضاءات عامة أو أماكن للخدمات الرسمية كالمدارس والمستشفيات ومكاتب البريد والشهر العقاري وغيرها.
لا تقف عطايا العشوائية العمرانية للسلطة عند حدود السيطرة على شعب موصوم بالخطأ، بل تحقق للنظام السياسي فرصة التخلص من أعباء قطاعات عريضة من السكان لأنهم من مساقيط القيد. لقد بنوا بيوتهم في السر كاللصوص، والدولة حرة في أن تعطف على المذنبين عندما تكتشف وجودهم، في الحدود التي تراها.
الكلفة الاقتصادية والحضاريّة لفلسفة "الزبونية" في مجال العمارة والعمران عالية بشكل مخيف
لم نسمع بكم في الوقت المناسب؛ فكيف سنوفر لكم الفضاءات العامة من الحدائق والمنتزهات والمسارح والسينما؟، ليس من حقكم أن تسألوا عن الترفيه أصلًا، أما العلاج فستنهض به مستوصفات المساجد (التي ستُلاحق بين وقت وآخر بوصفها أوكارًا للتطرف ثم يُغض الطرف عنها بعد ذلك لأنها تسد عجز الدولة)، والنقل سيتولاه الميكروباص، والمدرسة في أدنى حالاتها: ثلاث فترات في اليوم الواحد بسبعين تلميذًا في الفصل، وأرصفة المشاة غير واردة وإنارة الشوارع في حدودها الدنيا، وقسم الشرطة لا يمكن أن يغطي كل هذه المساحة، لكن الزمن يحل أعقد الجرائم. مجرد التأخر في الوصول ساعتين أو ثلاث لمسرح جريمة قتل في منطقة عشوائية تكفي أهل القتيل للأخذ بثأرهم، وبعد ذلك يمكن أن يبدأ التحقيق، وربما الصلح.
حتى الخدمات الضرورية كالماء والكهرباء والصرف تتمنع الإدارة عن مدها في البداية، لكنها تعود فتمد البيوت بالكهرباء ويصلها الماء ثم الغاز، إما في مواسم الانتخابات كرشاوى للسكان، وإما خضوعًا للأمر الواقع.
ومع تزايد أسعار هذه الخدمات أصبح سكان العشوائيات "زبائن" كغيرهم، ولا يجب خسارتهم. مع ذلك يظلون موضوعًا للنبذ والتوبيخ في الخطاب السياسي والصحفي، بل يبقون عرضة للعقاب والتشريد بإزالة مبنى أو حي بكامله.
نصف مبارك الآخر
في عام 1995، بدأ النصف المروع من حكم مبارك. وبدأت ملامح رأسمالية متوحشة تتضح. تزايد انسحاب الدولة، بما فيها تقليص دور هيئة البناء والإسكان، تباطأت سرعة الدولة في التوظيف بالجهاز الحكومي، وتقلصت فرص العمال بالخصخصة وأُغلق الكثير من المصانع وتم بيعها كأرض فضاء وبينها الصناعات القائمة على القطن (حلج، غزل، نسيج، زيوت، صابون، أعلاف) وهذه بدورها مرتبطة بإلغاء الدورة الزراعية في إطار ازدراء الرأسمالية الجديدة للزراعة والصناعة وتركيزها على تقسيم وبيع الأراضي وما يتبع ذلك من صناعات الحديد والأسمنت.
سافر العاطلون عن العمل عبر مراكب خطرة إلى أوروبا، من ينجو منهم يعود بأموال أفضل مما عاد به المسافرون إلى الخليج في مرحلة سابقة، وتم التضييق على تلك الأموال أكثر من ذي قبل، حيث لا مكان إلا للرأسمالية الكبيرة الحليفة للقصر. وبُنيت في 15 سنة فوائض ضخمة من الإسكان. لقد تحول العشوائيون إلى "زبائن" لمصانع الحديد والأسمنت، وتزايد غض الطرف عن تبوير الأرض الزراعية.
الكلفة الاقتصادية والحضاريّة لفلسفة "الزبونية" في مجال العمارة والعمران عالية بشكل مخيف، ولا يمكن الخروج من آثارها خلال قرون، فالعمارة أكثر أشكال التاريخ عنادًا واستعصاءً على الإخفاء والتغيير وتترتب على أخطائها مشاكل لا تُحصى اقتصادية واجتماعية.
الملفت أن تجارة العقارات وصناعاته هي الوحيدة التي لم تتأثر بتداعيات إجهاض ثورة يناير 2011. بل شهدت سنوات الإفلات الأمني بعدها تسارعًا في البناء العشوائي وفي هدم الكثير من الفيلات الأثرية، وكانت الإسكندرية الأكثر تضررًا، هُدم فيها أكبر عدد من الفيلات لتقام مكانها سرًا أبراج غير مراقبة الجودة، ودون توسعة للشوارع الضيقة التي كانت كافية لفيلات تتمتع كل منها بفضائها الخاص. وأصبحت شبكات البرابرة التي تدير هذا النوع من العشوائية أكثر علنية في تلك الفترة.
وبعد استقرار الأوضاع للإدارة الحالية، والتضييق على البناء حتى المرخص منه باستثناء ما تبنيه الدولة، بدعوى مراجعة اللوائح من أجل إصدار لوائح موحدة، تناقصت معدلات تبوير الأرض الزراعية وهبطت ظاهرة هدم القصور والفيلات إلى الحد الأدنى، لكنه تناقص الخوف والترقب والتأجيل، ففي النهاية هناك أسباب للعشوائية، ولابد من حلول تراعي حاجات الناس، وقوانين مستقيمة تحكم العمران في التخطيط والبناء والصيانة.