مع بدء إجرام الصهاينة في غزة، لم يكن هناك بدٌّ من الانصراف عن سلسلة مقالاتي حول العمران والاستبداد، أو بالأحرى حول الهدر الاقتصادي والعمراني والبيئي، بسبب الحلول المتسرعة والجزئية المرتبطة دومًا بغياب الشفافية في ظلِّ سد منافذ النقاش والرقابة البرلمانية والمساءلة المجتمعية.
لكنَّ الإجرام الصهيوني والدولي الذي يعصف بحياة الأشقاء في غزة والسودان هو ما أكد أنَّ الأمور متشابكة أكثر مما يعتقد أحد. وما كان هذا الإجرام أن يصبح بهذا الاستشراء لو أنَّ مصر في موقعها الطبيعي، وهي مسؤولية لا يجب التملص منها، وليست مجرد شرف ندَّعيه، بل دور تفرضه علينا حقائق الجغرافيا والتاريخ وتشابك المصير الذي بيننا.
ولا حلَّ لقضايا مصر والإقليم دون أن نعود إلى الموقع الطبيعي الذي غادرناه منذ كامب ديفيد. ولا يمكن لمصر أن تعود إلى مكانها هذا إلا بوقف الهدر الاقتصادي، الذي لا يمكن وقفه في ظل الأوضاع السياسية الراهنة، مع إغلاق المجال العام وشل فعالية الرقابة المجتمعية ممثلة في الصحافة وآراء الخبراء وسلطة البرلمان، وحتى أجهزة الرقابة التابعة للسلطة التنفيذية نفسها، بخروج الكثير من المشروعات من تحت رقابتها.
مشروعات قومية مباغتة
مؤخرًا، أُعلن عن ضبط ما سُمي بـ"شبكة فساد في وزارة الري"، اتُّهم فيها مسؤولون بتلقي رشاوى لتسهيل صرف مستحقات مقاولي تبطين الترع لدى الوزارة.
تزامن الإعلان عن الرشوة مع جدل على السوشيال ميديا وحدها حول تكسية هرم منكاورع، الذي فوجئنا به وقد حمل، ككل مشروعات الخراب غير الشفافة، صفة "القومي" التي توضع لإرهاب الخصوم. وكنا محظوظين هذه المرة بالاستجابة للجدل الدائر حول الهرم والإعلان عن تعليق المشروع لحين الدراسة. إعلانٌ لم يصدر مثله بخصوص مشروع تبطين الترع الذي لا يزال صندوقًا أسود، يجسِّد معنى الهدر، ويخبرنا لماذا أصبحنا على حافة الخطر.
السؤال الأهم، لماذا تظهر المشاريع فجأة وكأنها الخطف؟
لقد كنت واحدًا من الصارخين ضد تبطين الترع في برية تويتر؛ فإن لم يكن الكاتب آثاريًا، فهو على الأقل فلاح، وله أن يفتي في بطانة الترع، لكنني نلت يومها نصيبي من سُباب اللجان الساهرة للدفاع عن مشروعات البغتة القومية.
رشوة الري مجرد قشرة للبيضة التالفة. لنلاحظ أنها جاءت لتمكين المقاولين من استلام مستحقاتهم! هكذا يجب تجاوز هذه القشرة لتأمل المشروع الذي بدأ بغتة عام 2020. وبعد عامين من الإنجازات الجبارة المتعجلة، بدأ الجدل في البرلمان الذي لا نتابع أعماله، وواجه وزير الري العديد من طلبات الإحاطة بعد زيادة ضغط السوشيال ميديا حول جدوى المشروع ومستوى التنفيذ، فقد ظهرت في مدة الإنجاز القصيرة تصدعات في بعض المواقع.
وأقرَّ الوزير بتفصيلين اثنين: ضرورة مراقبة التنفيذ، وإعادة النظر في خريطة المشروع معتبرًا أن معاملة كل الترع بطريقة واحدة إهدار للمال العام. فهل هي قصة تفاصيل أم هي الحدود المسموح بها للكلام حول مشروع نال الصفة التي ترهب معارضته؛ قومي"؟
الميزانية التقديرية التي أعلنت للمشروع بلغت 80 مليار جنيه حسب موقع "خريطة مشروعات مصر" وكان المستهدف منه حسب بيانات الحكومة توفير خمسة مليارات متر مكعب من المياه تتسرب إلى باطن الأرض.
هذه الأرقام كانت يجب أن تستدعي نقاشًا موسعًا لخبراء الري والمهتمين يراه المجتمع. علمًا بأن مدرسة الري المصرية هي الوحيدة المستمرة عبر عشرة آلاف عام، وكان من الواجب أن يتصدر رجالها المشروع قبل الإقدام على رمي كل هذه الخرسانة في ترع الدلتا والصعيد. وحتى غير الخبراء من أمثالي يمكنهم أن يروا الهدر.
كيف تم حساب كمية الماء التي سيوفرها المشروع؟ لماذا خمسة مليارات وليس ستة أو أربعة؟
يتراوح عرض الترع بين مترين وخمسة أمتار، وتضخ الماء لمسطحات بعرض كيلو متر أو أكثر على كل من ضفتيها تُروى غمرًا، فما جدوى تبطين شريحة بعرض خمسة أمتار من إجمالي عرض أربعة كيلو مترات، مادامت الأرض ستظل تُروى غمرًا؟
الأهم أن الأرض الطينية قليلة التسريب، والأكثر أهمية أنَّ ما يتسرب لا يضيع، بل يبقى خزانًا جوفيًّا بدأ السحب منه منذ بدايات التسعينيات، أي بعد نحو عشر سنوات من بداية مغامرة زراعة الصحراء التي قللت مقننات الأرض القديمة، وتحتاج قضية زراعة الصحراء إلى مقال خاص، لكن يجب التأكيد أن تشريب التربة بالماء العذب في شمال الدلتا ضرورة لمقاومة التمليح.
معلومات أكيدة عن الأضرار
هكذا يبدو التبطين بلا جدوى في توفير المياه، وإن أردت التحفظ، فالجدوى غير مؤكدة. لكنَّ المضار البيئية مؤكدة؛ فالتبطين تسبب في جز الأشجار التي تظلل مجاري الماء فتقلل البخر، وضرب الثروة السمكية في الترع، وأصبحت الخرسانة خطرًا على البهائم التي اعتادت النزول للشرب من الترع الطينية.
بعد أن طال انتظار الريف للسمكة القادمة من الحكومة المركزية، نال حية تتربص بالحياة
بعد التبطين لن يعود هناك مجال لسقاية البهائم في الحقول، فليست هناك صنابير لتشرب منها، كما أنَّ اختفاء الظل من فوق الجسور سيجبر الفلاح على زراعة شجرة ظل في طرف حقله لتظليل بهائمه. وأما السوء الذي سيبقى، وسيذكِّر دائمًا بسوء التدبير، فهو خطورة التبطين على حياة البشر، وخصوصًا الأطفال الذين يشاركون في العمل دائمًا بالريف، وهذا ليس مجرد ادعاء؛ تحققت بنفسي من حادث في قرية البلاشون مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
الأدهى والأمرّ، أنَّ المشروع الذي بدأ عنوة كمشروعات الطرق، يختلف بكونه يلقي بتكلفته أو جزء منها على عاتق الفلاح نفسه، وهذا سؤال آخر: كيف يُجبر مواطن على دفع ثمن الخطر الذي سيتهدده؟!
يقول السيد المسيح "فأَيُّ أَبٍ مِنْكُمْ يَطْلُبُ مِنْهُ ابْنُهُ خُبْزاً فَيُعْطِيهِ حَجَراً؟ أَوْ يَطْلُبُ سَمَكَةً فَيُعْطِيهِ بَدَلَ السَّمَكَةِ حَيَّةً؟ أَوْ يَطْلُبُ بَيْضَةً، فَيُعْطِيهِ عَقْرَباً؟" (إنجيل لوقا). وبعد أن طال انتظار الريف للسمكة الآتية من الحكومة المركزية، نال حية تتربص بحياة بشره ودوابه وأسماكه.
كان الريف ولا يزال بحاجة إلى كل ما يتخيله الإنسان، من تعليم وعلاج وماء شرب وأمن وتحديث آلات الزراعة، لكن ما دمنا في وارد المياه، فهناك مشروعات مياه حقيقية وواجبة التنفيذ العاجل في الريف، تصون حياة السكان لا تهدرها، وتوفر الماء بحق، بعكس تبطين الترع الذي جرى تسويقه كمشروع يحافظ على المياه.
المصارف الزراعية أصبحت كارثة؛ فقد تمددت كردونات القرى عشوائيًّا دون صرف صحي؛ فأخذت تصرف على المصارف الزراعية بكل ما في هذا من مخاطر صحية وهدر لمياه الصرف الزراعي. قد لا يعرف الكثيرون وظيفة المصارف الزراعية؛ فهي المصفاة التي يرشح إليها ماء الري الزائد، لهذا تزداد نسبة الأملاح قليلًا في مياه تلك المصارف، لكنها تبقى صالحة للاستخدام في الري عند الضرورة. إضافة لذلك كانت عامرة بالأسماك النيلية.
باختلاط الصرف الصحي بالزراعي تحولت المصارف إلى مجارير نتنة تشق الأحوزة العمرانية للقرى بكل ما في ذلك من مخاطر صحية. والعجيب أن يصرح وزير الري أن مشروع التبطين لا يشمل تبطين المصارف. أليس لديكم سوى التبطين؟ لماذا تُغطى المصارف في المسافات الواقعة داخل كردونات القرى؟
إن كانت التسميات البراقة ضرورية لإثارة انتباه أصحاب القرار، فالريف بحاجة عاجلة إلى "مشروع قومي" لفصل الصرف الصحي عن الزراعي وتغطية المصارف داخل الكردونات، وإنشاء محطات تنقية الصرف الصحي توفر السماد وتعيد تدوير الماء.
لكنَّ المشيئة التي لا راد لها تركت هذا المشروع الضروري واخترعت التبطين، الذي يبدو أنها تنسحب منه في صمت تجنبًا لشماتة الأعداء، لكنَّ الدرس سيبقى قائمًا يحكي حزن الإهدار، الذي أوصلنا إلى هذا المنقلب الاقتصادي وجعلنا سياسيًّا نخشى حتى تسمية الأعداء بأسمائهم وتسمية الأهل بحقيقة قربهم، فنغمغم في أحاديثنا عن حرب تجري على الحدود بين "دوكهما" و"دولاهما"، وهذا هدر آخر للمكانة مخيف وباهظ التكلفة.