في مسرحية نحو حياة أفضل (1955)، يُعالج توفيق الحكيم مأزق تنمية الريف من وجهة نظر "مصلح" لا يعرف الريف!
تعرض المسرحية ذات الفصل الواحد مشهد رجل يقرأ في بيت ريفي، تحاول زوجته أن تُقنعه بعدم السهر، ليعيشا حياة القرية، بأن يستيقظا مبكرًا ليخرجا إلى الحقول، ويناما مبكرًا. لكنه رفض ما اتفقا عليه قبل وصولهما إلى القرية. قال إنه اكتفى بجولة الأمس التي رأى فيها الحمير النافقة في الترعة، والشجرة التي يربطون تحتها الماشية فوق روثها. أحست الزوجة بالإهانة لأنها ابنة القرية؛ وهو في حكم الضيف على أسرتها، لكنه تمسك بموقفه الرافض للفضاء الريفي، وسهر على كتابه.
كان يقرأ قصة فاوست، العجوز الذي باع نفسه للشيطان مقابل أن يُعيده شابًا، وإذا بالشيطان يحضر ويعرض على "المصلح" صفقة من أجل القرية. جعله الشيطان يُغلق عينيه، ثم طلب منه أن يفتحهما وينظر من النافذة فإذا به يهتف "يا إلهي! أين القرية القذرة، أين الأكواخ الحقيرة؟ ما كل هذه المباني الجميلة؟ ما هذه البساتين العامة؟ ما كل هذه الفيلات التي تحيط بها الحدائق الصغيرة، ياللمعجزة، قومي يعيشون في الجنة؟".
وعندما يجد الشيطان أن المصلح غير مصدق، يستدعي له أحد سكان القرية محروس الجرف، الأجير البائس الذي رآه بالأمس، وقد تبدد بؤسه، صار لديه في غمضة عين عشرون فدانًا، وفيلا جميلة في حديقتها جاموسة واحدة من أجل اللبن للأسرة. يسأل المصلح محروس: ماذا تفعل في وقت فراغك؟ وترد خضرة زوجة محروس عنه "يقضي ليله مع إخوانه.. الحشيش والشاي"!
يستمع المصلح إلى خضرة التي تخبره ببقية انحرافات محروس؛ ومنها أنه يبحث عن زوجة ثانية، فيحاول أن يُقنعه بالقراءة في وقت فراغه. وهذا طلب فكاهي في الحقيقة ينم عن سذاجة المصلح الذي رأى بالأمس من هو محروس.
ومن بين ما نعرف عن محروس وبيته الجديد الفخم، أن الدجاج يبيض على الترانزستور في الصالون وتمرح فوقه الكتاكيت، وهذا ما يراه المصلح أمرًا غير حسن.
البحث عن مسؤولية السلطة
على كل حال تنتهي المسرحية بخلاصة تبسيطية لا يمكن الموافقة عليها بسهولة؛ "لا بد من تغيير النفوس"، وقد رفض الشيطان القيام بهذه المهمة التي عدها "مستحيلة".
النص لطيف لكنه ينطوي على رؤية شعبية تبسيطية تتجاهل الطريق العملي إلى التغيير، خوفًا من تحديد مسؤوليات السلطة، فالغالبية العظمى من الناس تتحدث عن ضياع أخلاق المصريين عند رؤية خطأ مروري على سبيل المثال، بدلًا من الحديث عن غياب القانون.
خامة الطين لها مميزاتها المناخية والاقتصادية، لكن بيت الطين غير مهيأ لتعدد الطوابق الذي صار ضرورة
تغيير النفوس يعجز عنه الشيطان، لكنَّ التعليم الجيد بوسعه أن يُحقق المهمة بنجاح. والتعليم الجيد هو التعليم المجاني الموحد ما قبل الجامعي على الأقل.
وهذا ما طالب به طه حسين وطبَّقه عام 1951، وسارت في طريقه سلطة يوليو ثم تنكَّرت له. وذلك هو الطريق الذي تتبعه أوروبا، التي تقدم تعليمًا إلى الثانوية العامة يحتوي على كل ما يحتاجة الإنسان ليكون مواطنًا واعيًا ومتذوقًا للفنون، فإذا ما اختار الاكتفاء من المسار التعليمي حتى الثانوية، يكون على المستوى نفسه مع من يدخلون الجامعة، وهكذا ذابت الفواصل بين طبقات المجتمع، وكذلك بين سكان الريف والمدن.
تبدو في مسرحية الحكيم كل الكليشيهات الشائعة عن سكان الريف: القذارة، الكسل وتدخين الحشيش، والطمع، وازدراء خيرات البيت الريفي. شخصيًّا أتمنى أن يكون في بيتي دجاج يبيض وكتاكيت تمرح فوق الراديو، لأنها تُقدم محتوى أكثر دسامة ونفعًا مما يقدمه الراديو والتليفزيون.
في شأن العمران، يبدو "المصلح" مؤمنًا ببؤس البيت الريفي القديم، وهذه رؤية موجودة تتناقض مع رؤية رومانسية أخرى، ترى البيت الطيني فردوسًا مفقودًا. ودائمًا ما تكون الحقيقة بين الحدين.
خامة الطين لها مميزاتها المناخية، فهي عازلة للحرارة. ولها مميزاتها الاقتصادية حيث لا تتكلف سوى الجهد في إعدادها، لكن بيت الطين غير مهيأ لتعدد الطوابق الذي صار ضرورة مع الانفجار السكاني، كما أنه قاصر وظيفيًّا فيما يخص منطقة المياه بالبيت (المطبخ والحمام).
مفهوم "الكوخ" الذي تصفه مسرحية الحكيم غير موجود بالريف المصري، لكن الكثير من البيوت الطينية الصغيرة كانت تعاني من سوء التهوية وتوطن الحشرات.
ليس من العدل أن نسلب فئة من السكان حقها في التطور. وكان المأمول أن تُبادر الدولة بتخطيط شوارع القرى، وفرض توسيع حاراتها، حتى لا يهرب راغبو البناء من ضيق قلب القرية إلى خارجها على الدوام.
كان المأمول كذلك أن تُبادر الدولة بابتكار نموذج لبيت ريفي يحقق الاشتراطات الصحية، ويحافظ في الوقت نفسه على مساحات للحيوانات والطيور وفرن الخبيز وموقد الحطب، للحفاظ على الدورة البيئية والاقتصادية الريفية المحكمة.
لم تُقدم السلطة نموذجًا لمثل هذا البيت، لأن أفكارًا من ذلك النوع تحتاج إلى حكومة واعية تعمل كفريق، وتفكر في الأشياء جملة كما تحتاج إلى مفكري عمران.
للأسف تعيش السلطة على "الأفكار القطّاعي" من يوليو/تموز 1952، وهي التي قتلت المناخ والثقافة المعمارية التي كانت فيما قبل، بانتصارها لمهندس المباني الموظف ضد المعماري المثقف.
الدجاجة لن تبيض على الترانزستور
هكذا صار ابتكار بيت اقتصادي للفلاح مهمة حصرية للشيطان. في المسرحية كان الشيطان كسولًا اكتفى ببناء فيلات فاخرة، ولم يحسب حساب الفرخة فتركها تبيض على الراديو، كما ترك الجاموسة في حديقة الفيلا مما يعرضها للسرقة ليلًا، ونسي الفرن وموقد الحطب "الكانون" وبناني الحمام في الجدران.
شيطان الواقع الذي بنى بيوت الريف، لا صلة له بشيطان الحكيم فلم ينقل عنه الفيلات، بل نقل عشوائيات القاهرة طبق الأصل، دون أماكن للحيوانات أو الطيور. وقد كان بوسع طالبي البناء تذكيره بمطالبهم، فالعمارة فن تفاوضي بين مصممها وزبونها، لكن السياسات الاقتصادية جعلت الإنتاج الريفي عديم الجدوى؛ فهان على الكثير من القرويين.
لم يعد الترانزستور الصغير ولا شاشة التليفزيون المسطحة يساعدان الدجاجة على الاستقرار لتضع بيضتها في أمان
وبعد منتصف التسعينيات صارت السلطة، ممثلة في حكومات رجال الأعمال، داعمة للشيطان في النموذج الذي اختاره، سعيدة باكتظاظ الريف وتحوله إلى زبون للحديد والأسمنت.
ولم تهتم للخسارة التي تكبدها الاقتصاد بتغير نمط حياة القرية، لأن تلك الحكومات لا تعمل كمنظومة اقتصادية واحدة، ولا تبني الحقبة الجديدة على السابقة عليها.
في بيئة تكره الأرقام لا يمكن معرفة حجم الضرر الاقتصادي والبيئي الذي جلبه ترك عمارة القرى للشيطان.
الوقود باب كبير للخراب في ظل التحول إلى البوتاجاز. وقد عاشت القرية تستخدم الوقود المجاني من حطب الذرة والقطن في الفرن والكانون. كان الحطب يُخَّزن على سطح البيت للاستهلاك العام، فصار يُحرق في وقت واحد بالحقول مما جعل تلوثه يصل إلى المدن، وتحول الريف إلى استهلاك البوتاجاز.
لم أعثر على إحصائية بحجم الاستخدام الريفي لهذا الوقود المستورد. لكن وجدت تقدير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لعمران الريف بـ57% من جملة العمران في مصر. وبالمنطق يجب أن يدور استهلاك القرية حول نصف استهلاك مصر الذي يبلغ 330 مليون اسطوانة سنويًا تستورد منها 183 مليونًا.
والدجاج المنزلي فرصة نادرة لإنقاذ بلد موروط في فاتورة استيراد كل شيء؛ فتكلفة البيضة ودجاجة اللحم في البيت تقترب من الصفر، لأنها تعيش على إعادة تدوير بقايا مائدة الأسرة، والحبوب التالفة، وبذور الحشائش التي يتم فصلها عن القمح والأرز. وكذلك تعيش البهيمة المنزلية جزئيًّا على مخلفات الزراعة مثل أوراق الذرة الخضراء وتوالف المزروعات.
وقد التقى التعالي الثقافي على الدواجن المنزلية مع رغبات الرأسمالية في ضرب هذا الإنتاج الطيب، فعمدت الدعاية إلى تخويف الناس من أمراض تنقلها الطيور. وأصبحت هناك أجيال من أبناء الفلاحين تستنكف أن تبيض الدجاجة فوق الراديو، بل لم يعد الترانزستور الصغير ولا شاشة التليفزيون المسطحة يساعدان الدجاجة على الاستقرار لتضع بيضتها في أمان. ومن حسن الحظ أن الدواجن المنزلية لم تزل موجودة لأنها ضرورة اقتصادية لدى نسبة من الأسر في الريف وعشوائيات المدن، تسد بعض الحاجة، لكن ليس كالسابق.
هل يمكن تدارك الأمر الآن بمبادرة عمرانية ومعمارية لتخطيط القرى وبناء بيت يعيد الاعتبار للدائرة البيئية والاقتصادية الريفية ويحقق اشتراطات النظافة العصرية؟ الجواب أن الفرصة ممكنة دائمًا لتدارك الأخطاء في المجتمعات الحية، لكن الجواب النموذجي عن سؤال العمارة لا يكمن في العمارة وحدها.