في أوتوبيس نقل عام جديد أنيق لا يختلف عمّا يجري في شوارع باريس أو فيينا، هتف المحصل يُنبِّه الركاب بصوت عالٍ "اللي عايز الإسعاف بسرعة، أحسن العسكري واقف".
كنتُ بين الركاب، وكنت بحاجة إلى منطقة الإسعاف التي يُنبِّه إليها المحصل؛ فتحركت بالسرعة واللصوصية الواجبة ونزلت مهرولًا من مركبة لم تتوقف تمامًا حتى لا يتعرض سائقها لتوبيخ الشرطي. وسرعان ما صار الأوتوبيس الذي كنت أجلس فيه بأمان مصدر خوفي، لا رصيف مشاة يعصمني من طريقه وطريق غيره من المركبات التي تتوقف خلسة وتنطلق على حين غفلة.
لا أقرأ الغيب لأعرف إن كان الآخرون الذين نزلوا معي قد فكروا بما فكرت فيه، ولم أعثر لأحدهم على أثر لأسأله: هل تشعر بالمهانة لأنك مجبر على الهروب من الأوتوبيس كلص؟ هل فكَّرت بغرابة أن يخاف أوتوبيس الحكومة من شرطي الحكومة؟
لم تكن هناك فرصة لأسئلة أو تعارف. فقط كان علينا أن نتحاشى تضارب أجسامنا أثناء الفرار، وسرعان ما ابتلعنا الزحام في ذلك المكان الممنوع أمام سور مستشفى الجلاء التعليمي للولادة، حيث يختلط باعة يساومون زبائن بركاب قفزوا من المركبات دائخين، وآخرين يقفون قلقين ينتظرون لحظة تُبطئ فيها مركبة أخرى لتحملهم خلسة إلى وجهاتهم المختلفة. الجميع تحت رحمة الشرطي، الذي يتسامح للحظة مجانًا بينما لا يمكن لتكرار وقوف السائق وامتداد وقوف البائع أن يظل مجانيًّا.
الشارع سوقًا
هذا المكان هو ناصية شارع الصحافة الذي قضيت فيه عمرًا، عاصرت مقالات تكررت بين وقت وآخر في صحف "أخبار اليوم" أو "الأهرام" حيث يعيق ذلك الوضع الدخول والخروج من المؤسستين الضخمتين، لكن تلك الكتابة في العادة كانت من منظور مالك يكنس أمام بيته أو دكانه، وليس من منظور من يرفض الفوضى بوصفها نسقًا عامًا.
وكانت البلدية والشرطة تتعاملان مع المقال الغاضب بالمنظور نفسه فتأتي حملة لتنظيف ما يزعج سكان الدارين الصحفيتين، دون النظر إلى وضع المدينة وسياق تدهورها.
أحيانًا كانت المحافظة توفر سوقًا بديلة للباعة الجائلين، سرعان ما يهجرونها ويعودون إلى زبائنهم في عرض الشارع، لكنها أبدًا لم تفكر في تعيين أماكن مشروعة للمركبات. فقط تشدد المطاردة لأيام ثم يعود الأمر لمجراه.
في كل شارع الجلاء من رمسيس إلى عبدالمنعم رياض، لا توجد محطة شرعية لكن هناك ضرورة لالتقاط وإنزال الركاب، فيظل السائق والراكب موصومين بالخطأ، ويظل الخوف عنوانًا لمن يقف أو يتحرك في ذلك الشارع. والخطأ الذي نشأ لضرورة "إنزال الركاب" جرَّ وراءه خطأً بلا ضرورة؛ "تحويل الشارع إلى سوق".
الميكروباص وحشًا
يصلح هذا الشارع القصير "الجلاء" عنوانًا للأشياء الصغيرة التي تكشف قصة القاهرة بقدر ما تكشف تحولات علاقة الحاكم بالمحكوم في مصر، منذ نحو نصف قرن إلى اليوم.
في منتصف السبعينيات، ارتفع كوبري أكتوبر، ليظلل الشارع ويغمره بالعتمة التي جعلت منه مكانًا مثاليًّا لقضاء الحاجة في غيبة المراحيض العامة. كان ترام مصر الجديدة يصل ميدان عبد المنعم رياض وتم الحفاظ على مساره تحت الكوبري لنحو 15 سنة، ثم بدأت سياسة مترددة تجاه المترو؛ فألغيت تلك المسافة من الخط والوقوف به عند كوبري الليمون "ميدان رمسيس"، ثم جرى التراجع عن الخطوة، وعاد الترام ثم أُلغي الخط بكامله في حُمى انسحاب الدولة من خدمة النقل العام، وتوسع استخدام الميكروباص الذي بدأ في منتصف السبعينيات على استحياء في منطقة الهرم، ثم صار يتوسع ويتوحش.
في بداية المسيرة الظافرة للميكروباص لم تلزمه الحكومة بمحطات؛ فكان مخالفًا في أي وقت، عليه أن يتلقف زبائنه من أي مكان، وظل الخوف لصيقًا به، يخاف من الشرطي ويخافه المشاة.
وفي تلك الأثناء كان رصيف المشاة يتآكل، والباقي منه يتزايد ارتفاعه ويُدجج بالأسوار الحديدية. وهذا يعكس نظرة النظام للناس التي تتراوح بين إنكار وجودهم وبين اعتبارهم خارجين على القانون، ينبغي سجنهم وتأطير حركتهم في المدينة كقطعان مستعدة للشرود.
يتضمن رفع الرصيف وتسويره قلة اعتبار للبشر، كما يتضمن في الوقت نفسه اعترافًا غير معلن بتدهور سلطة القانون، فكانت الإنشاءات المكلفة القبيحة بديلًا عنه.
لكن ظلت محطات أتوبيس النقل العام موجودة حتى نهاية الألفية الثانية؛ فكان سائق الميكروباص الوحيد الذي يخاف ويخيف، ثم بدأت محطات النقل العام تختفي الواحدة بعد الأخرى، وتمدد الخوف فأصبح سائق أتوبيس الدولة يخشى شرطي الدولة.
وأصبحت المطاردة تتكرر في كل مدينة مصرية فيها شارع ومركبة وشرطي. وهو مشهد مذهل في غرابته ولا يجب أن يكون التكرار واستقرار الظاهرة سببًا لاعتياد الخطأ والغرابة واللا معقول.
تبدو استراتيجية توريط الجميع في الخطأ للوهلة الأولى فلسفة عامة ذكية ولئيمة تستهدف ألا يرفع أحد رأسه
تغييب الرصيف
لم تأت العشرية الأخيرة بجديد على شارع الجلاء ولا أي شارع في مصر يُفسر مصطلح "الجمهورية الجديدة" مروريًّا. لم يزل اللا معقول سيد الموقف في الشوارع القديمة، وتضاعف الخطر في الشوارع التي تعرضت للتوسيع القسري دون أن يتحقق انسياب المرور المطلوب.
كان ممكنًا لتحديث البنية المرورية وفرض القانون أن يُغْنِيا عن عملية التوسعة بتكلفتها الباهظة ماديًّا وحضاريًّا. ولا يبدو أن عمليات التوسعة الأولى خضعت لمراجعة لمعرفة نتائجها.
واستمرت "الجمهورية الجديدة" كما القديمة في رفض الاعتراف بأن المدينة -أي مدينة- يعيش فيها بشر يستخدمون أقدامهم والمركبات ليتحركوا، وهذا يتطلب ألا تكون الشوارع محرمة عليهم، بل يجب تأمين استخدامها، طبقًا لأولويات محددة: المشاة، ثم ركاب النقل العام، ثم ركاب السيارات الصغيرة من تاكسي وملاكي.
اختفاء الرصيف الآمن للمشاة في الماضي كان تدريجيًّا في مراحل مختلفة بحكم الضرورة، لكن الآن تنشأ الشوارع عمدًا دون أرصفة للمشاة من البداية، وبلا محطات للنقل العام. وهذا له أحد معنيين: إما أن النظام لا يرى الفئتين الأولى بالرعاية في كل المدن، أو أنه يراهما ويتقصد وضعهما في دائرة الخطأ.
الاحتمال الثاني هو الأكثر منطقية، خاصة مع إلحاح إعلامي يسعى إلى إدانة ذلك الشيء الغامض "الشعب" ودفعه إلى الخجل من وجوده لأسباب تبدو للآلة الإعلامية معقولة جدًا: زيادة النسل، الكسل، الشراهة في الأكل وشرب الشاي واستنشاق الهواء، القذارة وإلقاء القمامة في الشارع بدلًا من إلقائها في السلال (غير الموجودة) وعدم الالتزام بأماكن العبور (غير الموجودة) وعدم الالتزام بقواعد المرور عند السير وعدم الوقوف بتحضر على المحطات (غير الموجودة).
لو تعرضت الشعوب الاسكندنافية شديدة التنظيم إلى اختبارات من قبيل غياب سلال المهملات وغياب محطات النقل العام، هل كانت تلك الشعوب لتختلف في سلوكها عن الشعب المصري؟
هذه الاستحالات الصغيرة التي يعبرها البعض دون أن ينتبه بسبب الاعتياد، تكشف طبيعة الإدارة لا طبيعة الشعب. ويمكن أن نقرأ من خلالها طبيعة النظام السياسي بأكثر مما تكشفه أنساقه العليا وقمة الهرم السياسي فيه: كفاءة النظام الانتخابي، سلطات البرلمان، استقلال القضاء، وحرية الصحافة.
التوريط في الخطأ
تبدو استراتيجية توريط الجميع في الخطأ للوهلة الأولى فلسفة عامة ذكية ولئيمة تستهدف ألا يرفع أحد رأسه. لكن الأنظمة الفردية لا تضع فلسفاتها في لحظة تفكير واحدة محددة، فليس هناك من يفكر لها، لكن ممارساتها تتبلور مع الوقت بغريزة البقاء التي تدفع أي كائن حي لتطوير دفاعاته ومناعته.
بعد سقوط شعار "مجتمع الكفاية والعدل" الذي رفعه عبد الناصر، فقد خلفاؤه ميزة التأييد غير المشروط التي نالها، ولكي يتوازن النظام فوق ظهر النمر مع تقليص المزايا الاجتماعية بدأ التوسع في سياسات العقاب. لم يعد النظام بحاجة إلى مواطنين أو رعايا بل إلى متهمين. ومن أجل الحصول على العدد الكافي منهم، بدأ الإخفاء التدريجي للمواصفات القياسية وتمويع الحدود بين الصح والخطأ.
أول ما اختفى كان "وصف الوظيفة" القديم الذي يضع حدود مسئوليات وحقوق الموظف، هذه المقاييس كانت تُحقق جودة الأداء لصالح المتعاملين مع جهات الإدارة من طالبي خدماتها، وتُحصِّن الموظف الصغير من رئيسه، فتمنع تحويل ساعي المكتب والسائق إلى خدم منزليين، وفي الوقت نفسه تعيق المحسوبيات في التوظيف وإعادة توظيف العسكريين المتقاعدين في وظائف لا يعرفون عنها شيئًا.
وبعد إلغاء القواعد الملكية الموروثة بدأت مدرسة سن القوانين الغامضة عملها، فصارت هناك ترسانة من القوانين تسمح وتمنع في الوقت ذاته، ثم كان إلغاء الشواهد المادية على الصح والخطأ التجلي الأخير لفلسفة الميوعة.
من أهم ظواهر تدمير الشواهد المادية البنية المرورية من محطات وعلامات مرور. لا توجد علامة واحدة في مدخل شارع تُحدد اتجاه السير فيه، ولا توجد محطة مرور تجعل توقف المركبة شرعيًّا.
غياب البنية المرورية هو المظهر الأبرز لفلسفة الميوعة العامة في كل مجال التي تحقق الإيقاع بالضحايا، لتعذيبهم وبث إحساسهم بالضآلة والعجز من جهة، ومن جهة أخرى استثمار أخطائهم، بحيث يتحول كل فرد إلى مصدر لخزينة الدولة وجيوب موظفيها.
الموظف ذراع الدولة، واتساع سلطته في تفسير القانون الغامض يحقق مصالح النظام ومصالحه الخاصة من جهة أخرى، لردم الفجوة الاقتصادية بين مرتبه ومتطلبات عيشه. لكن هذا الموظف المطلق اليد في وزارة ما، يتحول إلى متهم أمام موظف آخر في وزارة أخرى عندما يتوجه لإنجاز شيء يخصه.
وهكذا يتحول البشر إلى دود متكاره، دائب الحركة، يهجم ناهشًا وينسحب سريعًا ليتجنب نهش الآخرين له.