كان الظهور المفاجئ لوسم "الجمهورية الجديدة" على شاشات التليفزيون في مارس/آذار 2021 مربكًا. بدا الأمر للكثيرين في غرابة العثور على لفة رضيع أمام باب مسجد عند صلاة الفجر. البعض تصور الشعار في البداية عنوان المسلسل الذي يشاهده، وبتقليب القنوات وجد العبارة ذاتها مضيئة ومتسيدة.
لم يكن بوسع المواطن الموصوف إعلاميًّا بـ"العادي" أن يربط بين الهاشتاج الذي فاجأه على الشاشة، وما قاله الرئيس السيسي قبل ذلك في كلمته بالندوة التثقيفية للقوات المسلحة يوم 9 مارس 2021، وتطرق فيها لمصطلح الجمهورية الجديدة؛ "الموضوع مش مباني وده تطوير كبير إحنا بنعمله.. افتتاح العاصمة الجديدة، إعلان الجمهورية الجديدة".
ويبدو أن الأمر بالنسبة لمن أمروا بوضع الهاشتاج لم يكن بحاجة إلى تفسير، فالرئيس قال، وهذا يكفي. لكن تساؤلات مستخدمي السوشيال ميديا جعلت التوضيح ضرورة، فظهرت المقالات والبرامج تباعًا لتشرح أبعاد تلك الجمهورية. وهذه ظاهرة جديدة في التاريخ السياسي والإعلامي، حيث ولد المصطلح ثم بدأ البحث عن مسوغاته.
السادات الذي أحب الكتابة بين الأشياء الكثيرة التي أحبها، كان يعرف أن الاستخدام غير الصحيح للغة يعود بالأذى لا النفع
في كل حالات التحول السياسي المعروفة في العالم تقع التحولات أولًا ثم تأخذ اسمها بقوة الواقع، أحيانًا خلال الحقبة ذاتها، وغالبًا بعد انتهائها. ولم يحدث أن نالت حقبة اسمًا يميزها إلا بموجب تغيير عميق في البنية السياسية للأفضل أو للأسوأ حتى.
في فجر 23 يوليو/تموز 1952 قام الضباط الأحرار بانقلابهم فانتهت الملكية وولدت الجمهورية. وفي 15 مايو/أيار 1971 كان انقلاب السادات على خط عبد الناصر تحولًا كبيرًا، ورغم ذلك لم يُسمِّ ما فعله جمهورية جديدة أو ثانية وإنما أسماه "ثورة تصحيح"، فعلى الرغم من حبه للمبالغة كان يعرف أنه لا يقدر على تبعات الانفصال عن شرعية يوليو فظل تحت مظلتها. صحيح أنه قاد انفتاحًا سياسيًا واقتصاديًا لكنه لم يكن حقيقيًّا إلى حد أن يجعل من عهده "جمهورية جديدة".
السادات الذي أحب الكتابة بين الأشياء الكثيرة التي أحبها، كان يعرف أن الاستخدام غير الصحيح للغة يعود بالأذى لا النفع. وحتى عندما شرع بعد ذلك في بناء عاصمة جديدة، وضع الخطوة في حدودها.
بعده جاء مبارك، بضيق في الطموح وسعة في الوقت جعلته يترك الباب مفتوحًا لمبادرات من الحاشية تقطع ملل الجمهور. مرة إعلان عن إصلاح سياسي، مرة عن إصلاح اقتصادي، مرة استصلاح توشكي، ثم زحف الاستسهال اللغوي فظهر مصطلح "الجمهورية الثالثة" على اعتبار أن جمهورية عبد الناصر الأولى والسادات الثانية، لكن الاسم ذهب مع الريح، لأن الحقب لا ترتبط باسم الحاكم ولكن بالتحولات.
وللحق فالتحولات منذ يوليو 2013 هائلة، لكن مختلف عليها إلى حد الاحتراب. النظام الواثق من خطواته يرى استحقاقه بتخليد تلك الحقبة كـ"جمهورية جديدة" والمعارضة ترى غير ذلك، وكان على كتائب الصحافة والإعلام أن تتقدم للشرح والإشادة المستمرة إلى اليوم رغم رفع الهاشتاج عن كاهل الشاشات. بعض المدائح مفعمة بالحماسة وذهبت بعيدًا إلى حد الإشادة بما تشهده الجمهورية الجديدة من الحرية (المسؤولة)، لكن البراهين الأكثر واقعية على استحقاق الاسم أتت كلها من العاصمة الإدارية والكباري المؤدية إليها. وذلك أفضل جدًا للكاتب والمتحدث المجتهد، لأن المدح بغير الموجود هو الذم بعينه.
السؤال الذي طرح نفسه خارج دوائر الإعلام الرسمي هو: هل تكفي الإنشاءات لإعلان جمهورية جديدة؟ العيش في بالونات يمنع النقاش، ولهذا يبقى السؤال معلقًا. والأسوأ هو نسيان الأهم: ماذا عن القديم؟ هل ستطوي الجمهورية الجديدة الجمهوريات القديمة بداخلها؟ هل تأخذ العاصمة الجديدة بيد أمها العجوز إلى الكوافير أم تدفنها وتعلن موتها؟ هذه الأسئلة مهمة وينبغي طرحها لأن رأس المال الرمزي للأم العجوز لا تملكه سوى مدن قليلة في العالم.
عمليات الهدم والبناء تتم في صمت، يكمله غياب حرية النقاش العام، وليس أمامنا سوى الاستماع لحديث الحجر، فما الذي جرى للقاهرة بالتوازي مع بناء العاصمة الجديدة بحدائقها وأبراجها ونوعية العيش التي تعد بها؟
هكذا تبدو العاصمة القديمة كعمارة منهارة تبحث الجمهورية الجديدة بين أنقاضها على ما ينفع
على صعيد تخطيط وتطوير الطرق لم يزل قلب القاهرة على حاله، باستثناء ميدان التحرير نال تطويرًا لا لسواد عيونه لكن لسواد الذكرى التي تريد الجمهورية الجديدة نسيانها، وبقيت ميادين القاهرة الأساسية الأخرى مثل رمسيس والعتبة في حالة يرثى لها من العشوائية والتلوث البصري والسمعي والعنف، وأضيفت إلى عشوائية الجمهورية القديمة أكشاك البيع السيادية والحزبية للجمهورية الجديدة. أما توسعة الشوارع؛ فمن الصعب تحقيقها بأي حال من الأحوال.
على صعيد البناء، أوجدت الجمهورية الجديدة لنفسها ثغرات في قلب القاهرة مثل مثلث ماسبيرو الذي أزيل لصالح أبراج استثمارية تضع قدمًا في الجمهورية القديمة وقدمًا في الجديدة؛ فهي أبراج بطموح دبي، لكن أقل فخامة، متراصة بلا فضاءات مناسبة. والمشروع الاستثماري التالي، المعلن عنه مؤخرًا، سيكون على بعد أمتار من المثلث، حيث تقام على أرض الحزب الوطني منشأة فندقية.
حي الزمالك العريق لم يسلم من انقضاضة على حديقة الأسماك لاستخدامها جراجًا للسيارات لحل ورطة برج بُني بالمخالفة في ظل الجمهورية القديمة الرخوة، ثم تعدل العطاء على موقع آخر على النيل، ضمن ما حدث للنهر وهو جزء من حياة المدن التي يعبرها على طول مجراه، وجزء عضوي من جماليات وبيئة وسط القاهرة.
وقد تضاربت الإشارات التي أطلقتها الجمهورية الجديدة بخصوص النيل إلى حد الإرباك: إزالة عوامات السكن قليلة العدد دون المطاعم عالية التلويث. بناء ممشى أهل مصر، من مستويين دخول أحدهما نظير رسوم، وإجهاد النهر بيئيًا بمزيد من المطاعم جنبًا إلى جنب مع الاحتلالات القديمة للنوادي والهيئات حتى اكتمل اختفاء النيل.
القاهرة أعظم من مجرد عاصمة، بحيث يمكن لخروجها من الخدمة أن يبرر نبشها واستخلاص ما يصلح منها
هكذا تبدو العاصمة القديمة كعمارة منهارة تبحث الجمهورية الجديدة بين أنقاضها على ما ينفع؛ زاوية تصلح للبناء، بضعة أمتار على رصيف تصلح منفذًا لبيع اللحوم، وهكذا. ربما كان الأجدى والأكثر استدامة تحويل مثلث ماسبيرو إلى حديقة بمنشآت خفيفة لمطاعم صغيرة وأكشاك مرطبات للمتنزهين، وربما كان من الواجب إضافة أرض الحزب الوطني إلى المتحف، كحديقة أو قسمة الأفدنة الثلاثة جزء للتوسعة وآخر للحديقة.
أما أطراف القاهرة فعوملت معاملة القلب من حيث الاستنفاع: كل فضاء مباح للاستثمار بصرف النظر عن الحق في البيئة. هكذا أقيمت الإنشاءات على بعض الحدائق الصغيرة وأجزاء كبيرة من الحدائق الكبيرة كما حدث مع حديقة الطفل والحديقة الدولية في مدينة نصر.
وعلى صعيد الطرق كانت شوارع الأطراف أسوأ حظًا من شوارع قلب القاهرة المحمية بضيقها. لم تجد الجمهورية الجديدة غضاضة من إزالة أشجار الشوارع من أجل توسعة الطرق لخدمة الذاهبين للعاصمة الجديدة، على حساب حق سكان تلك المناطق في الوصول إلى بيوتهم، حتى أن المسافة بين عمارتين متقابلتين صارت أربعة أو خمسة كيلو مترات من الالتفاف تحت الكباري. عومل الحيان العريقان، مصر الجديدة ومدينة نصر، كممر للعاصمة الجديدة.
إحقاقًا للحق فالتضحية بالجانب الجمالي للقاهرة لحساب الوظيفة بدأ في الجمهورية القديمة مع كوبري أكتوبر وكبارٍ أخرى مثل الأزهر، وهذا ملمح مهم للصلة بين الجمهوريات كلها من يوليو 1952. لكن التضحية كانت في البداية لصالح سيولة المرور في القاهرة نفسها. وعندما فُرض على القاهرة الحمل القسري بالضواحي الغنية (أكتوبر والتجمع) بدأ التعامل معها كممر لتلك العشوائيات الفخمة، صارت الأم عبدة لبناتها المترفات.
لم تبتدع الجمهورية الجديدة في تعاملها مع القاهرة، وإن كانت التغيرات بوتيرة أعلى، وما أُخذ من جمال القاهرة خلسة وعلى مراحل من أجل تسيير المرور فحسب في السابق، يؤخذ أضعافه اليوم عنوة، بما لأنها لن تعود العاصمة؟
القاهرة أعظم من مجرد عاصمة، بحيث يمكن لخروجها من الخدمة أن يبرر نبشها واستخلاص ما يصلح منها. هي مدينة عريقة مهمة بتاريخها وثقلها الثقافي الذي يشمل عمارات الأحياء ومقابر الأموات. ويجب أن تظل مهمة، ولن تكون بدعة، فبرشلونة أهم من مدريد، والدار البيضاء أهم من الرباط. واسطنبول هي واجهة تركيا لا أنقرة. ولو نظرنا إلى ما تقدمه اسطنبول للسياح فهو البحر ومساحات الحدائق الشاسعة والعمارة القديمة المصانة جيدًا، فما الذي ستقدمه القاهرة مقبوضة القلب التي تتضاءل فضاءاتها العامة، بينما أطرافها مُكتَّفة بحبال من الكباري؟
أظن أننا بحاجة إلى نقاش حر لما جرى حتى الآن من تضييق الفضاءات العامة بالقاهرة، وتقييم علمي لفعالية الكباري والمحاور التي عصفت بذاكرة المدينة. هل حققت سيولة المرور حقًا؟ هل حققت نوعية عيش جيدة ولو لساكن الكمباوند الذي لم يزل يصل إلى محميته الخضراء عبر طريق من الآلام؟
لا أحب التسرع بالجواب، لكن العلاقة بين القاهرة وتوابعها الفاخرة لم تعد تشبه سوى العلاقة بين المتهم المقيد من معصمه إلى معصم الشاويش. وضع الشاويش أفضل، لكنه ليس حر الحركة.
ولا حل لهذه المعضلة سوى إعادة النظر في سياسة التعامل مع القاهرة كعمارة منهارة، بل كمدينة عريقة لم تزل فرصة بعثها قائمة بخلق فضاءات خضراء بداخلها، وتحرير معصميها المربوطين إلى الضواحي، بإعادة توجيه تلك الإضافات، بما فيها العاصمة الجديدة بحيث تعطي ظهرها للقاهرة، من خلال استثمار صناعي ضخم مع إسكان مناسب للعمال جنوب الضواحي الجنوبية وشرق الضواحي الشرقية، لتتطلع أكتوبر جهة الصعيد والإسكندرية ويتطلع التجمع والعاصمة الإدارية إلى مدن القناة وسيناء.