لا يمكن للمعطيات الحالية أن تؤدي إلى أي تغيير يُذكر في الواقع السياسي القائم، فالوصول إلى نتائج مختلفة مرهون دائمًا بتبدل المعطيات وتطور الظروف وتبني توجهات وسياسات جديدة، وهو ما لم يحدث في حالتنا؛ فتعامل السلطة بمؤسساتها المختلفة مع الاستحقاق الانتخابي الأهم، لا يختلف عن تعاطيها مع معظم الاستحقاقات التي جرت خلال السنوات العشر الماضية.
تفاءل البعض بالحالة التي سادت أجواء الحوار الوطني، مع إتاحة مساحة لطرح مُختلف الآراء والتوجهات، وظن هؤلاء أن هذه المساحة من التعايش ستكون نقطة تحول للمضي في طريق آخر، مغاير للطريق الذي أُزيح عنه المعارضون، وأُقصيت منه كل البدائل والأفكار المخالفة على مدار السنوات الماضية، بدعوى أن الدولة في تلك الفترة كانت تخوض حربًا ضد جماعات الإرهاب الأصولي، ومن ثَمَّ لم تكن قضايا الديمقراطية والتعددية والحريات.. إلخ على رأس أجندة أولوياتها، بحسب ما ذكر الرئيس عبد الفتاح السيسي عندما أطلق الدعوة للحوار.
أغلق الحوار الوطني أبوابه، أو "تم تعليق جلساته لحين الانتهاء من الاستحقاق الرئاسي"، بحسب ما جاء في بيان لمجلس أمنائه قبل أسبوع. وقبيل ساعات من إعلان الهيئة الوطنية للانتخابات عن بدء إجراءات الانتخابات الرئاسية يوم الاثنين 25 سبتمبر/أيلول؛ بدأت عمليات حشد ممنهجة ومنظمة للمواطنين أمام مكاتب الشهر العقاري لتوثيق توكيلات تأييد للرئيس عبد الفتاح السيسي، رغم عدم إعلانه حتى كتابة تلك السطور مساء السبت 30 سبتمبر، عن قراره بالترشح لفترة ولاية ثالثة من عدمه.
مشاهد الحشد المنظمة أعادت إلى الأذهان ما جرى في الانتخابات البرلمانية الماضية، والسابقة عليها، وكل الاستحقاقات التي عرفتها مصر خلال عهود التحكم والسيطرة.
مشاهد بائسة اِستُغلت فيها حاجة الفقراء والمعدمين لـ"كراتين" المواد الغذائية التي صارت شحيحة بفعل تضاعف أسعارها، ودُفع فيها الموظفون والعاملون في الهيئات والمصالح الحكومية لتأييد السلطة ومواليها من أحزاب وشخصيات، وتصوير تلك الحشود المجبورة والمقهورة على أنها تبايع وتبارك وتبصم على بياض.
في المقابل، يجري التضييق، بل والمنع بالقوة في بعض الأحيان، على كل من تسول له نفسه الذهاب إلى مقر الشهر العقاري لتوثيق توكيل لأي مرشح معارض جاد، يرى في نفسه بديلًا حقيقيًا، وتتعامل معه الجماهير على أنه المنافس الأقدر على خوض المعركة الرئاسية.
ما تم توثيقه بالصوت والصورة على الأرض خلال الأيام الماضية من عمليات حشد منظم لمواطنين لاستخراج نماذج تأييد للرئيس السيسي، والتضييق على أنصار وجمهور منافسه المحتمل النائب البرلماني السابق أحمد الطنطاوي، يثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن كل ما طرح وتم تداوله داخل جلسات الحوار الوطني، ليس إلا حرثًا في البحر. أما عن التربة الصلدة الجامدة، فلم يتغير فيها شيء ولن تنبت أي جديد.
إنجازات مختلف عليها
على هامش فعاليات "يوم تفوق جامعات مصر" التي أُقيمت بمحافظة الإسماعيلية قبل أيام، أكد الرئيس السيسي أن "السنوات العشر الماضية كانت بمثابة فترة انتقالية لسد الثغرات والفجوات الموجودة في قطاعات الدولة المصرية، وعلى رأسها قطاعا التعليم والصحة".
وخلال كلمته بمؤتمر "حكاية وطن" الذي بدأت فعالياته يوم السبت الماضي، شدد السيسى، على أنه إذا كان البناء والتنمية والتقدم ثمنه الجوع والحرمان فلنفعل ذلك، وقال "اوعوا يا مصريين تقولوا ناكل أحسن، فلو كان ثمن ازدهار الأمة أنها لا تأكل أو تشرب فلا نأكل أو نشرب"، مضيفًا "أننا نريد أن يكون لدينا مكان على الخريطة فى دولة 95% منها أرض صحراء".
ما لم تنجزه السلطة خلال عشر سنوات "انتقالية"، لن تُنجزه خلال الأعوام الستة القادمة
الحديث عن الإنجازات وما تحقق في سبيل البناء والتنمية، وترتيب أجندة أولويات الدولة خلال الفترة الماضية "مُختلف عليه"، ففي الوقت الذي ترى السلطة أن بناء المدن الجديدة الفارهة في صحراء المحروسة ومد الطرق وبناء الكباري "إنجاز يتسحق التقدير"، يرى مخالفوها أن كل تلك الأمور تندرج تحت بند "الإهدار"، وأن الأولوية كانت توجيه ما أُنفق على تلك المشروعات لقطاعي التعليم والصحة، وبالتوزاي تهيئة المجال العام عن طريق دعم الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، حتى نتمكن من بناء مؤسسات الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة، التي تعبر بحق عن إرادة الناس، وتحفظ حقهم في الاختيار، وتسمح لهم بالتغيير والمساءلة والمحاسبة.
ما لم تُنجزه السلطة في مسار التحول الديمقراطي خلال السنوات العشر الماضية التي اعتبرها الرئيس "فترة انتقالية"، لن تُنجزه خلال السنوات الست القادمة. والحديث عن أن شكل النظام السياسي قد يتغير أو أن السلطة ستنفتح وتسمح في الاستحقاقات التالية لانتخابات الرئاسة بمساحة من التنوع والتعدد، هو إفراط في التفاؤل.
ما دامت هندسة المشهد الانتخابي الحالي تجري على ذات المناول وبنفس الآليات السابقة، فستظل الأمور كما هي؛ جمود يعقبه جمود، وإن حدثت بعض التغييرات فلن تطال المضمون وستظل في حدود الشكل، كأن يُوارب الباب بما يسمح لبعض التيارات والأحزاب التي دخلت "بيت الطاعة" وقبلت بلعب الدور المطلوب منها، بأن يتم تمثيلها بشكل "مدروس ومنضبط" في غرفتي البرلمان أو في المجالس المحلية، إن أُجريت انتخاباتها من الأساس.
لن تعرف بلادنا طريقًا إلى الاستقرار إلا برفع يد أجهزة السلطة عن إدارة وهندسة الاستحقاقات، فالاستقرار الحقيقي لن يتحقق إلا باحترام إرادة الناس وإرضائهم، دون ذلك قد يُدخِل البلاد في دوامة لا يعلم أحد لها نهاية.
أما الحديث عن أن "الأمر كله لله ومن له شيء سيأخذه"، فهو كلام يخرج عن السياق السياسي ولا يختلف عما كانت تردده جماعات الإسلام السياسي التي وصلت إلى السلطة بأصوات الناس، ثم أرادت أن تستمر فيها رغمًا عن إرادتهم؛ فلجأت إلى تأويلات النصوص المقدسة دون أن تقف عند مقاصدها، فالله أوكل لعباده مهمة اختيار من يحكم.
قد تكون "فرصة التغيير بالانتخابات" قائمة كما ذكر الرئيس في حديثه أول أمس، ومن يرد لهذا البلد خيرًا، فليدفع في اتجاه إتمام الاستحقاق الرئاسي بشكل تنافسي حقيقي، والنتيجة بالتأكيد ستكون في صالح الناس ومرضاة لله إله العدل والحق، الذي جعل التغيير والمداولة وتبدل الأحوال من سننه الكونية "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكنَّ الله ذو فضل على العالمين".