أزمة الانقطاعات المتكررة للتيار الكهربائي التي حطت على المصريين خلال الأسبوعين الأخيرين، وأعادت إلى الأذهان مشاهد الظلام، لم تؤكد فقط عجز الحكومة أو فشلها في التخطيط وترتيب أولوياتها أو زيف وعودها بتحسين جودة حياة المصريين، بل دللت على قناعاتها بالانحياز المطلق إلى أصحاب الحظوة، سواء كان هؤلاء من رجال السلطة ومحاسيبهم أو من القلة الغنية التي أغلقت على أنفسها بوابات الكومباوندات الفارهة في محيط العاصمة.
وكما أن غياب العدالة في توزيع الثروات بين فئات المجتمع يرفع منسوب الاحتقان والغضب الاجتماعي، ينال التمييز في توزيع أعباء الأزمات من بنية المجتمعات، فيصيبها بشروخ يصعب جبرها، بما يعرض تماسكها واستقرارها إلى هزات عنيفة وانفلاتات مفزعة.
توزيع الثروات
من المستغرب أن تحتل مصر التي يتعامل معها حكامها باعتبارها "دولة فقيرة قوي"، المركز الثاني في القارة الإفريقية من حيث ثروة الأفراد، بثروة إجمالية 307 مليار دولار، إذ يمتلك 17 ألف مصري أكثر من مليون دولار، وفق تقرير صدر العام الماضي عن شركة هينلي أند بارتنرز.
تقرير ثروات مواطني القارة السمراء الذي أصدرته الشركة المتخصصة في مجال الإقامة والجنسية عن طريق الاستثمار، كاشف للأزمة الشديدة التي تمر بها بلادنا. إذ تتركز الثروة في حسابات أقل من 0.0002 من إجمالي سكان البلاد، بينما يعيش نحو 30% من مواطنيها تحت خط الفقر، ويسعى باقي السكان لتحقيق الستر في ظل تتابع النكبات الاقتصادية علينا خلال السنوات الأخيرة.
تُدلل الحكومة الفئة الأولى (17000 مليونير)؛ توفر لهم الخدمات السوبر، وتخصص لهم مدن وقرى مغلقة في سياج العاصمة وعلى السواحل حتى لا يخدش أحد خصوصيتهم، ولا تلزمهم بتحمل أية أعباء تفرضها الأزمات، في حين تضن على الأغلبية العظمى من المعوزين وأبناء الطبقة المتوسطة بالحد الأدنى من الخدمات التي صار معظمها مدفوع مقدمًا وبالأسعار العالمية، ومنها الكهرباء التي ارتفعت أسعارها 6 مرات منذ عام 2014.
بعد أيام من تفاقم أزمة انقطاع التيار الكهربائي في قرى الوجه البحري والصعيد والأحياء الشعبية والمتوسطة بالعاصمة، خرجت وزارة الكهرباء عبر متحدثها الرسمي لتؤكد أن "هناك عدالة في تخفيف الأحمال بما في ذلك منزل وزير الكهرباء الدكتور محمد شاكر".
ثقة الناس في السلطة ووعودها وحديثها الترويجي عن الإنجازت التي لم تشهدها مصر "صفر"
المتحدث الرسمي لوزارة الكهرباء أيمن حمزة قال في تصريحات تليفزيونية مفسرًا البيان المُلغز للشركة القابضة للكهرباء بشأن مواعيد القطع إن "هناك توجيهات بألّا تزيد مدة قطع التيار على ساعة واحدة، وأن يكون هناك تباعد في حال تكرار القطع على نفس المنطقة".
بسؤال أهلنا في ريف الصعيد تأكد أن الانقطاع يستمر بالساعتين والثلاثة ولمدتين أو ثلاث مدد يوميًا. ولا يختلف الحال كثيرًا في قرى الوجه البحري ومعظم مناطق العاصمة الشعبية. بينما يقتصر قطع التيار في عواصم المحافظات وأحياء القاهرة الغنية على ساعة واحدة فقط، ولمدة أو مدتين في بعض الأيام. أما تجمعات أهل الحظوة المغلقة بشرق القاهرة، وكذلك قراهم السياحية في الساحل الشمالي، فلا يُقطع التيار عن أصحابها الذين لم يتعرفوا بعد على حياة الظلام والحر.
مسؤولية المسؤول
من المقر الحكومي الفاره بمدينة العلمين الجديدة وقف الدكتور مصطفى مدبولي رئيس الوزراء يشرح ويوضح أسباب الأزمة، وينفي عن حكومته أي تقصير، محملًا "الارتفاع الشديد للغاية في درجات الحرارة الذي واجهته مصر والعديد من بلدان العالم" مسؤولية ما جرى. وتناسى أن بعض دول الجوار، التي تتعدى درجات الحرارة فيها في بعض الأحيان الـ50 درجة مئوية، لا ينقطع عنها التيار ولا يعرف سكان مدنها الظلام أو الحر، رغم الاستهلاك المبالغ فيه لأجهزة التبريد.
رفض رئيس الوزراء كالعادة تحمل المسؤولية، وأبى أن يعترف بالتقصير في وضع الخطط لمواجهة الأزمات، رغم التأكيدات السابقة لكل المسؤولين بأن عصر تخفيف الأحمال قد ولّى إلى غير رجعة. وكيف له أن يفعل وقد هرب ووزرائه من حر العاصمة وأزماتها منذ مطلع الشهر الجاري إلى مقر الحكومة الجديد بمدينة العلمين التي لم تنقطع عنها الكهرباء، بل تُضاء أبراجها الخالية، وبعضها لا يزال تحت الإنشاء، بالأنوار طوال الليل دون مبرر أو سبب واضح سوى إثبات أن تلك المنطقة التي أُهدرت فيها مليارات الدولارات بالديون تنبض بالحياة.
بنظرة سريعة على صفحات المواطنين على السوشيال ميديا، يتأكد المتابع أن ثقة الناس في السلطة ووعودها وحديثها الترويجي عن الإنجازت التي لم تشهدها مصر "صفر". فكلما خرج مسؤول ليشرح للمواطنين أسباب أي أزمة، ويطمئنهم بقرب نهايتها، ومنها أزمة قطع التيار الكهربائي، تنهال التغريدات والتعليقات الدالة على نفاد صبر الناس وضيق صدرهم بطريقة إدارة الدولة.
على الحكومات أن تعتذر لشعبها وتفسح الطريق لغيرها عسى أن يأتي من يملك القدرة على إرضاء الناس
ضيق الصدر وعدم الرضا بلغ مداه عندما لمس الناس التمييز الفج في توزيع الأعباء، فمعظم فئات المجتمعات يحاصرها الظلام وتعاني من الحر الشديد لفترات غير قصيرة، بينما تنعم القلة المترفة بعطايا السلطة التي أغلقت عيونها وصمت آذانها عن أوجاع عموم الشعب. وهو ما يؤثر كما أسلفنا على سلامة المجتمع وتماسكه واستقراره.
التطور الذي شهده قطاع الطاقة في مصر خلال السنوات العشر الماضية، وتوفير فائض احتياطي في الإنتاج الكهربائي، تم تسويقه باعتباره درة تاج إنجازات النظام المصري، الذي نشل المصريين من مشاهد الظلام التي حلت على بيوتهم خلال عام حكم الإخوان، وكانت أحد أسباب خروج الملايين للمطالبة بإسقاط حكم الجماعة عام 2013.
الآن، ومع عودة الظلام رغم إنشاء وتطوير محطات الكهرباء بتكلفة بلغت 271 مليار دولار معظمها ديون تدفع أقساطها وفوائدها من جيوب المواطنين، ومع ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات غير مسبوقة ما أدى إلى تدهور الأحوال المعيشية لمعظم الفئات، يفرض سؤال المستقبل نفسه، ما هي قدرة الناس على تحمل تلك الأوضاع في ظل انسداد أفق التغيير بشكل سلمي ومن خلال صناديق الاقتراع؟
إنكار الأزمة والاستخفاف بمشاعر الناس يرفع منسوب الغضب. بينما الاعتراف بالخطأ وكشف الحقائق وتدارك ما جرى من فشل عن طريق تغيير السياسات والممارسات التي أوصلتنا إلى هذه النقطة قد يخفف من حدة الاحتقان ويعطي الفرصة لبداية جديدة وبدائل أخرى.
تفقد الأنظمة مشروعية بقائها واستمرارها عندما تعجز عن توفير احتياجات المواطنين الأساسية، فالاستمرار في السلطة مرهون بثقة الشعوب ورضاها وعندما يتحول هذا الرضا إلى رفض، ويتصاعد الرفض ليصل إلى مرحلة الاحتقان والغضب، فعلى الحكومات أن تعتذر لشعبها وتفسح الطريق لغيرها عسى أن يأتي من يملك القدرة على إرضاء الناس وتحقيق مطالبهم.