أسوأ ما يمكن أن تصل إليه مناقشات الحوار الوطني بشأن ملف الحبس الاحتياطي التي بدأت قبل أسبوع، أن تنتهي إلى ما انتهت إليه مناقشات المحور السياسي في الجولة الأولى من الحوار ذاته، التي لم تسفر عن أي تغيير يُذكر في المسار السياسي حتى ساعته وتاريخه.
الأصل في الحوار الوطني أنه كان يستهدف إعادة النظر في أولويات المسار السياسي، حسب ما أشار إليه صاحب الدعوة، رئيس الجمهورية، قبل عامين، عندما طالب كافة القوى السياسية بالمشاركة في "حوار سياسي حول أولويات العمل الوطني".
حينها ظن الجميع أن السلطة أدركت، ولو متأخرًا، أن نقطة الانطلاق لوضع حد لمتتالية الإخفاقات التي طالت جميع الملفات، هي إعادة الاعتبار مجددًا إلى السياسة، ووضع آليات مخالفة تضمن مشاركة جميع الأطياف دون تمييز أو استثناء، على قاعدة أن الخلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية.
ورغم استمرار جلسات المحور السياسي بالجولة الأولى من الحوار لأكثر من عام، صيغت خلاله عشرات التوصيات، فإن المحصلة النهائية على الأرض تكاد تقترب من الصفر، فقوانين مباشرة الحياة السياسية والنظام الانتخابي التي من المفترض أن تجرى وفقها انتخابات البرلمان المقبلة لم تُدرج على الأجندة التشريعية لمجلس النواب، الذي انتهى دور انعقاده قبل الأخير قبل أيام.
لم تصغ الحكومة التي تلقت تلك التوصيات نهاية العام الماضي مشروعات توافقية مقبولة لتلك القوانين، وبطبيعة الحال لم يطرحها نواب البرلمان للمداولة، وهو ما تكرر في قوانين حرية تداول المعلومات وتنظيم الصحافة والإعلام، التي أجمع معظم الحضور على أن بها عوارًا وقصورًا وجب علاجه وتلافيه.
وحسب أعضاء بمجلس أمناء الحوار الوطني، فإن المرحلة الأولى من الحوار انتهت إلى 37 توصية في المحور السياسي، لم ينفذ منها سوى 6 توصيات، فيما ظلت البقية مجمدة لحين إشعار آخر، وهو ما يرسم مصير توصيات الجولة الثانية التي بدأت قبل أيام.
بعد تسلم صلاحية فترة ولايته الثالثة والأخيرة، تعهد الرئيس عبد الفتاح السيسي بدعم حالة الانفتاح والإصلاح السياسي التي بدأت منذ إطلاق دعوة الحوار الوطني في أبريل/نيسان 2022، داعيًا الحكومة ومؤسسات الدولة إلى رعاية مخرجات جلساته الأولى وتنفيذها.
لم يعتد ممثلو أحزاب "الوطن" الاستماع لأصوات مخالفة تنتقد السلطة ولا يعرفون سوى هز الرؤوس
وشدّد السيسي خلال حفل إفطار الأسرة المصرية الذي عُقد في رمضان الماضي على الحاجة لاستمرار حالة الحوار والنقاش والتواصل في مختلف الموضوعات، بكل سَعة صدر، وقال "في متابعتي للحوار خلال الشهور والسنتين اللي فاتوا بصراحة لقيت إن إحنا بقينا عندنا فرصة أكبر وبنتكلم بشكل وبنتواصل بشكل أفضل".
مرت على تلك التصريحات نحو أربعة أشهر، ومع ذلك لم تتحرك من توصيات المرحلة الأولى سوى 6 توصيات كما أسلفنا، وعندما استأنفت جلسات المحور السياسي بمناقشة أزمة ضاغطة، وهي قضية الحبس الاحتياطي وملف المحبوسين بشكل عام، تبارى ممثلو الموالاة الذين حضروا الجلسة في الالتفاف على أهدافها الأساسية التي تتمثل في تعديل مواد قانون الإجراءات الجنائية الخاصة بالحبس الاحتياطي وإغلاق ملف المحبوسين من أصحاب الرأي، وقدموا مبررات واهية لاستمرار الأوضاع على ما هي عليه أو تحسينها بشكل لا يفكك الأزمة.
كان من اللافت في تلك الجلسة أن بعض ممثلي الموالاة الذين حضروا مناقشاتها أردوا أن يمارسوا هوايتهم في الحجر على رأي المخالفين معهم، ودخلوا في مواجهة مع المعارضين والمستقلين فقط لأنهم وجهوا نقدًا للأجهزة التي تلقي القبض على أصحاب الرأي، وتقوم بتدوير بعضهم في قضايا جديدة رغم انقضاء فترة حبسهم القانونية.
لم يكن من المستغرب الموقف الذي اتخذه هؤلاء إزاء المخالفين للسلطة وأجهزتها، إذ مارسوه هم وزملاؤهم في أحزاب الموالاة خلال جلسة البرلمان التي منحت الثقة في حكومة مصطفى مدبولي الثانية، فلم يسمحوا بنقد الحكومة أو حتى وصف برنامجها بـ"الإنشائي"، وهددوا القلة القليلة التي تمثل المعارضة من النواب بإحالتهم إلى التحقيق أمام هيئة المكتب، وهو ما تكرر في جلسة الحوار التي انعقدت الثلاثاء 23 يوليو/تموز الحالي، حيث قُوبل نقد بعض الأجهزة بهجوم من ممثلي حزب مستقبل وطن، وكأن تلك الأجهزة فوق مستوى النقد.
اللافت أيضًا أنه وقبل انعقاد تلك الجلسة بساعات، صدرت قرارات بإخلاء سبيل 79 متهمًا قضوا في الحبس الاحتياطي مددًا متفاوتة بينهم الطلاب الأربعة أصحاب مبادرة "طلاب من أجل فلسطين"، في الوقت ذاته الذي ألقت فيه أجهزة الأمن القبض على رسام الكاريكاتير أشرف عمر الذي ظهر في النيابة بعد يومين، وصدر قرار بحبسه 15 يومًا على ذمة التحقيق إثر اتهامه بنشر أخبار كاذبة والانضمام لجماعة إرهابية، وهي التهم ذاتها المعلبة التي حُبِس بموجبها عدد كبير من أصحاب الرأي والمعارضين السلميين، وكان آخرهم الصحفي خالد ممدوح، الذي صدر قرار مماثل بحبسه قبل أسابيع.
لم يعتد ممثلو أحزاب "الوطن" الاستماع لأصوات مخالفة تنتقد السلطة ومؤسساتها، ولا يعرف هؤلاء سوى "هز الرؤوس" والتأمين على كل السياسات التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه، وحتى هامش الحوار الذي تحولت بعض جلساته إلى مساحة للفضفضة واعتبرها المعارضون المشاركون مساحة آمنة يطرحون فيه آراهم وأفكارهم دون وصاية، تم تقليصها كما قلصت من قبل المساحات المتاحة في الإعلام والمجالس النيابية، التي من المفترض أن حق النقد فيها مصان بالقانون والدستور.
البدء في مسار الإصلاح السياسي والاستماع للمخالفين وإخلاء سبيل المحبوسين على ذمة قضايا رأي وإغلاق ملف الحبس الاحتياطي، وفتح مساحات الحركة والتنظيم، قد تكون السبيل والملاذ الآمن لبلد تحاصره الأزمات من كل جانب.