كما "المنسي" الذي صنع شخصيته الروائي الراحل وحيد حامد في عمل سينمائي بديع أُنتج عام 1993، وجسد فيه النجم عادل إمام دور "يوسف"، المواطن البسيط المهمش الذي سقط من حسابات المجتمع، لا يتذكره ولا يقدر أحلامه البسيطة أحد، فقرر أن يعيش حياته في الأطراف وأن يغرق في خياله ليواجه الواقع.
أبطال هذه المأساة الواقعية "منسيون" أيضًا سقطوا من حسابات الجميع، لا يملكون سوى الصبر والحلم والدعاء، عسى أن يتذكرهم أحد ويساعدهم على الخروج من الثقب الأسود الذي سقطوا فيه قبل سنوات، ليكملوا ما بقى من أعمارهم، ولو على أطراف الحياة.
ابتلع "الثقب الأسود"، المُسمى المجازي لدوامة "الحبس الاحتياطي" في السنوات الأخيرة، المئات من أصحاب الرأي، سواء كانوا صحفيين أو معارضين لتوجهات وسياسات السلطة الحاكمة، كما سقط فيه مواطنون لا علاقة لهم بالسياسة ولا شؤون الحكم، فقط دفعهم شظف الحياة وضيق ذات اليد وسوء الأحوال المعيشية إلى التعبير عن ضجرهم بالفضفضة على السوشيال ميديا.
فريق ثالث سقط في هذا الثقب بالصدفة، لا يعرف أصلا الفرق بين "الألف وكوز الذرة" في السياسة، ولا يستخدمون السوشيال ميديا للغمز أو السخرية أو التأفف من الأوضاع البائسة التي حطت عليهم، فقط ساقهم حظهم العاثر إلى التواجد في المكان والزمان الخطأ، فسيقوا إلى مقار التحقيق وحُشروا مع أصحاب المواقف في السجون، بعد أن صدرت في حقهم قرارات بالحبس الاحتياطي إثر اتهامهم كما غيرهم بـ "نشر أخبار كاذبة، وترويج شائعات، وإثارة الرأي العام، والانضمام إلى جماعة إرهابية أو مشاركتها في تحقيق أهدافها".
تحت ضغط اللوبيات السياسية والحقوقية والنقابية خرج العديد من أعضاء الفريق الأول، وبتأثير ضغوط السوشيال ميديا لحق بهم عدد أقل من أعضاء الفريق الثاني.
قرارت إخلاء السبيل الجماعية أخذت منحنىً تصاعديًا خلال الشهور الأخيرة، فبعد الدعوة التي وجهها رئيس الجمهورية لحوار سياسي في أبريل/ نيسان الماضي، صدرت قرارات عفو رئاسي، وأخرى بإخلاء سبيل أكثر من 700 سجين ومحبوس احتياطيًا، بحسب رصد أحد أعضاء لجنة العفو التي أعيد تشكيلها في أعقاب إفطار الأسرة المصرية في شهر رمضان الماضي.
أما أعضاء الفريق الثالث، والعديد من أعضاء الفريق الثاني، الذين لا يعرفهم أحد ولم يأت على ذكرهم لا حزب ولا جماعة ولا نقابة ولا تيار، ولا يتحدث عنهم سوى أسرهم، بل إن بعض الأسر تفضل الصمت خوفًا من العقاب على المجاهرة بالكلام عن المأساة، دخل هؤلاء دائرة النسيان، وسقطوا "سهوًا" -إن أحسنّا الظن بقيادات الأحزاب والتيارات المشاركة في الحوار الوطني- من أجندة الجميع؛ سلطة ومعارضة وإعلام.
السلطة حريصة على استمرار الحوار الوطني وعلى مشاركة أحزاب المعارضة في فعالياته، فتعمل على إرضاء تلك الأحزاب بإطلاق سراح كوادرها المحبوسة. وقيادات المعارضة من جهتها حريصة أيضًا على استكمال الحوار، لكنهم يريدون أن يقدموا لقواعدهم منجزًا ممسوكًا يحفزهم على الاستمرار، وحتى الآن لا يوجد منجز للحوار سوى إطلاق سراح نشطاء الأحزاب والتيارات السياسية.
بعض هؤلاء المنسيين حُبس احتياطيًا قبل 5 سنوات، رغم أن الحد الأقصى للحبس الاحتياطي سنتان، بحسب قانون الإجراءات الجنائية. هؤلاء، ونظرًا لأنهم خارج دوائر الأضواء، يعاد تدويرهم على ذمة قضايا أخرى، بمجرد صدور قرار إخلاء سبيلهم على ذمة القضية الأولى. وهكذا يظل أصحاب تلك المأساة في الدوامة، فتتحول حياة أسرهم إلى جحيم بعد أن يتملكهم اليأس والإحباط.
وجود هؤلاء في السجون وصمة في جبين كل مسؤول بلغته معاناتهم وأنين أسرهم ولم يتحرك
تواصل مع كاتب هذه السطور أهالي بعض الحالات التي سقطت في ثقب الحبس الاحتياطي الأسود منذ أكثر من 5 سنوات، "ألقي القبض على شقيقي طالب بجامعة القاهرة في 11 يناير (كانون الثاني) عام 2017، وفي ذات التوقيت ألقي القبض على شقيقنا الأصغر فقط لأنه اعترض على الطريقة التي تعامل بها رجال الأمن معنا، ووجهت لهما تهم من عينة نشر أخبار كاذبة عن الأوضاع السياسة والاقتصادية للبلاد وتحقيق أغراض جماعة إرهابية.. الخ".
وتستكمل الشقيقة الكبرى لهذين المحبوسين "وبعد انقضاء المدة القانونية لحبسهما احتياطيًا تم تدويرهما على ذمة قضية جديدة وصدر لأحدهما قرار إخلاء سبيل بكفالة ورغم سدادنا للكفالة تم تجديد حبسه، ولا يزال الاثنان قيد الحبس الاحتياطي منذ ذلك الحين ولم يصدر بحقهما أي قرار إحالة إلى المحاكمة".
مات الأب كمدًا وحزنًا على ولديه، ودخلت الأم في نوبات مرض متتالية، أما الشقيقة الوحيدة فتحملت أعباء الأسرة من علاج الأم إلى تكلفة زيارات الشقيقين في السجن، وهو أمر لو تعلمون شديد البؤس لشابة لا تزال في مقتبل العمر.
تواصلت مع عدد من أعضاء لجنة العفو الرئاسي، وبعض المسؤولين في الدولة، للفت نظرهم إلى بعض الحالات المنسية، ووعدتْ كل الأطراف ببحث الملف، بل إن بعضهم اندهش من حبس شقيقين كل هذه المدة دون أن يصدر قرار إحالة إلى المحاكمة، ولو في قضية واحدة من القضايا التي تم تدويرهما عليها.
ورغم مرور أكثر من شهرين على تواصلي مع ما تيسر من الأطراف ذات الصلة، إلا أن عملية البحث لا تزال جارية، ولا يزال هذان الشقيقان قيد الحبس، كما غيرهم من مئات المنسيين. وعد أحد أعضاء لجنة العفو الرئاسي بإعداد قوائم بتلك الحالات وبحث كل حالة منهم على حدة، مبشرًا بأنه سيتم "تفكيك" هذا الملف "قريبًا".
حدد المشرع مبررات الحبس الاحتياطي في قانون الإجراءات الجنائية، وحصرها في 4 حالات: 1- إذا كانت الجريمة في حالة تلبس، ويجب تنفيذ الحكم فيها فور صدوره؛ 2– الخشية من هروب المتهم؛ 3 – خشية الإضرار بمصلحة التحقيق سواء بالتأثير على المجنى عليه أو الشهود، أو بالعبث في الأدلة أو القرائن المادية، أو بإجراء اتفاقات مع باقى الجناة لتغيير الحقيقة أو طمس معالمها؛ و 4 – توقي الإخلال الجسيم بالأمن والنظام العام الذي قد يترتب على جسامة الجريمة.
الإجراء الذي وصفته محكمة النقض بـ"البغيض" كونه يتعارض مع قرينة البراءة، التي تعدُّ حقًا أصيلًا للإنسان وتلازمه منذ نشأته ولا يجوز الانتقاص منها، بحسب ما نصت الدساتير المتعاقبة والمواثيق والمعاهدات الدولية التي وقعت عليها مصر، صار إجراءً سيئ السمعة يستدعي من المشرع والسلطة القضائية إعادة النظر فيه، والسعي إلى إيجاد بدائل تحد من استخدامه كأداة لسلب حرية المواطنين الشخصية، التي هي "حق طبيعي ومصونة لا تمس"، وفقًا لما جاء في مواد الدستور التي أكدت على أنه "فيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد، أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته بأي قيد إلا بأمر قضائي مسبب يستلزمه التحقيق".
قبل أيام أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرًا انتقدت فيه حالة حقوق الإنسان في مصر، معتبرة أن الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان التي تم إطلاقها قبل عام ليست سوى ساتر وأداة دعائية استخدمتها السلطة لتخفي فداحة أزمة حقوق الإنسان، مطالبةً الحكومة باتخاذ خطوات ملموسة لإنهاء هذه الحالة.
وبعد أيام سيجرى فحص سجل مصر في مجال حقوق الإنسان، من قبل الفريق العامل المعني بالاستعراض الدوري الشامل لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ومن المفترض أن يتسلم الوفد المصري ملاحظات على سجلنا في هذا الملف ليناقشه مع مندوبي الدول الأعضاء.
تحسين ملف مصر في مجال حقوق الإنسان، ورفع سيف الحبس الاحتياطي عن المنسيين قبل كوادر الأحزاب والتيارات السياسية، لن يحسن صورة مصر أمام المنظمات والهيئات الدولية المعنية فحسب، بل سيحسن من صورة السلطة أمام المواطن الذي هو مصدر المشروعية.
على السُلطة ألا تنتظر مخرجات الحوار الوطني الذي ستبدأ جلساته خلال أيام، عليها أن تبادر بتقديم تعديل تشريعي على قانون الإجراءات الجنائية يستهدف الحد من الحبس الاحتياطي، إنفاذًا لمواد الدستور وما جاء في الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان من مستهدفات، على أن يُخلى سبيل كل من انقضت فترة حبسه احتياطيًا دون صدور قرار بإحالته إلى المحاكمة، فوجود هؤلاء في السجون وصمة في جبين كل مسؤول بلغته معاناتهم وأنين أسرهم ولم يتحرك.