كلما اقترب إعلان إجراءات الاستحقاق الانتخابي الأهم والخاص بانتخابات الرئاسة، يتعالى الجدل مع انقسام المهتمين بالشأن العام إلى فريقين؛ الأول يؤمن بضرورة "المشاركة"، والآخر يطالب بحتمية "المقاطعة"، ولكل من الفريقين منطق يمكن تفهمه وقبوله، وأسباب تدعو للتفكِّر والتأمل.
ولكن في جدل "المقاطعة" و"المشاركة" الساخن هذا، هناك ملاحظة فارقة بشأن تعامل الفريقين وكأن الخلاف "مبدئي" في الأصل، رغم أنه بالتأكيد ليس أكثر من خلاف في "التكتيك" بلغة السياسة، فالأمر لا يتجاوز التباين حول "الوسيلة" التي يمكن استخدامها للوصول إلى التغيير المدني السلمي الديموقراطي، لبناء دولة الحرية والعدل والمواطنة واحترام حقوق الإنسان.
المؤكد أن كل المهتمين بالحياة العامة في مصر يدركون تمامًا أن البلد في حاجة حقيقية إلى التغيير، الذي يتجاوز الوجوه ليصيب السياسات السائدة مند سنوات. وهؤلاء الذين يدركون قيمة التغيير في لحظة فارقة تعيشها مصر، لا ينبغي لهم تضييع قدرتهم على صناعته، بتبادل اتهامات التخاذل والخيانة، بسبب اختلاف في وجهات النظر.
المعيار الحاكم لقرار المشاركة أو الغياب، هو المناخ العام وإمكانية أن تتحقق فيه مكاسب حقيقية
في اختيارات الوسيلة الأنسب للتغيير، يرى فريق "المقاطعة" أن أي مشاركة في الانتخابات المقبلة ستكون تجميلًا لوجه السلطة الحالية، لا سيما وأنها لم تُقدم من الضمانات ما يكفي لإجراء انتخابات نزيهة، يمكن الرهان على التغيير من خلالها، خاصة مع الميراث المر للانتخابات العامة في مصر على مدار عشرات السنوات، ظلت الانتخابات العامة خلالها موجهة ومقيدة وغير نزيهة. ويؤكد هذا الفريق أن شيئًا لم يتغير في طبيعة النظام السياسي ليجعل من الانتخابات المقبلة بالذات تعددية وتنافسية وعادلة.
أما فريق "المشاركة"، فيُراهن على محاولة الانتقال الديمقراطي الآمن عبر صناديق الانتخابات، ويرى أن خروج الناخبين للتصويت بكثافة سيضمن عدم تزييف إرادتهم، بل تصل رؤيتهم إلى اعتبار المشاركة الجادة في الانتخابات نوعًا من النضال السياسي، وأنها بالحد الأدنى في حالة الخسارة، ستكون فرصة للتواصل مباشرة مع المواطنين، ومنحهم الأمل في وجود بديل آمن، وطرح أفكارهم وبرامجهم، وهي كلها أمور ممنوعة منذ سنوات. ويستشهد هذا الفريق بكثير من الدول التي شكلت فيها الاستحقاقات الانتخابية نقطة تحول للتخلص من أنظمة استبدادية.
في الجدل الساخن بين الفريقين، يبدو الحديث عن المناخ العام وتأثيره غائبًا. فلا المقاطعة هدف في حد ذاتها، ولا المشاركة غاية في الأساس، بل إن المعيار الحاكم لقرار المشاركة أو الغياب، هو المناخ العام وإمكانية أن تتحقق فيه مكاسب سياسية حقيقية؛ إذا ما حسمت القوى المعارضة قرارها بالتواجد أو الابتعاد، بمعنى أيهما أنسب في الحالة المصرية: هل المقاطعة والابتعاد عن المشهد؟ أم المشاركة ومحاولة بناء واقع سياسي جديد؟
المشاركة ليست شرًا خالصًا، مثلما أن المقاطعة حق لأصحابها، وليس على الفريقين أن يتبادلا الاتهامات
في تقديري أن المناخ العام يدعو هذه المرة للمشاركة الجادة في الانتخابات، بشرط وجود الحد الأدنى من ضمانات نزاهتها، وأظن أنها معركة منفصلة، على قوى العارضة أن تخوضها، وكثير منها دخلها بالفعل. فكل يوم تحاول القوى السياسية المعارضة، رغم أنها ليست في أفضل أحوالها، الضغط من أجل الحصول على شروط أفضل للانتخابات المقبلة، وظني أن المناخ العام مهيئ تمامًا لدخول الانتخابات الرئاسية بمرشحين جادين، في ضوء أمرين هامين.
الأول: هو أن السلطة الحالية فقدت بالفعل كثيرًا من شعبيتها على وقع أزمة اقتصادية عنيفة منذ مارس/آذار 2022، سحقت الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وبات الغضب من السياسات القائمة يتفاقم كل يوم بسبب الغلاء الفاحش الذي لا يتوقف، والتراجع الحاد في مستويات المعيشة، فضلًا عن انخفاض قيمة العملة مع ثبات الرواتب، وتراجع مستويات الدعم التي كانت تقدمها الحكومة للمواطن في السابق، وصدمة انقطاع الكهرباء وغيرها من سلبيات.
كل هذا بإمكانه جعل التصويت العقابي ضد السلطة القائمة في أي انتخابات نزيهة أمرًا واردًا جدًا، وقد يخلق واقعًا سياسيًا جديدًا بصرف النظر عن اسم الفائز في الانتخابات.
الثاني: أن كلَّ محاولات إخراج المشهد الانتخابي بطريقة ما حدث في 2018 محكومٌ عليها بالفشل مسبقًا، فالظروف الاقتصادية والسياسية في 2023 ليست كما كانت قبل خمس سنوات، والتحالفات الخارجية للسلطة الحالية، لا سيما مع دول الخليج، ليست في أفضل أحوالها، والأزمة الاقتصادية تتفاقم مع تراكم الديون الخارجية.
صحيح أن الضمانات الانتخابية يمكن ألا تكون كاملة، ولكن الانتخابات نفسها يمكن ألا تكون نزهة للسلطة، أو أمرًا محسومًا كما كان في السابق. والكل يعلم أن كل محاولات التعامل مع الانتخابات بنفس العقلية القديمة لن يجدي مع غضب شعبي يتصاعد، ووعي سياسي يتنامى لأجيال جديدة انفتحت على العالم، ولديها رغبة أن تحصل البلد على حقها في اللحاق بالعصر وأن تهجر كل صور الانتخابات الشكلية وغير النزيهة.
على وقع ذلك كله، سيكون التعامل مع الانتخابات المقبلة باستخفاف أمرًا يستدعي من السلطة التفكير مليًا قبل الإقدام عليه، في ظل غضبٍ شعبيٍّ بادٍ للجميع. كل محاولات تحويل الانتخابات إلى مهرجان للتأييد، ونفي صفة التنافسية عنها، ستكون أمورًا لها ما بعدها بكل تأكيد، فما حدث في انتخابات 2018 خطأ، وتكراره في 2024 خطر.
الخلاصة أن المشاركة في الانتخابات بجدية ليست شرًا خالصًا، كما أن المقاطعة حق لأصحابها أيضًا، فالرغبة في التغيير السياسي مشتركة بين الفريقين، لكن الأكيد أن الخلاف يكمن في "الطريقة" وليس "الطريق"، وليس على أصحاب الطريق الواحد أن يتبادلوا الاتهامات، أو أن يخصموا من قوتهم ومن قدرتهم على بناء دولة الحرية والعدل.