لم تشهد مصر انتخابات رئاسية حرة وتنافسية إلا مرة واحدة، تلك التي جرت في أعقاب ثورة 25 يناير 2011.
منذ أن قرر الرئيس الراحل حسني مبارك تعديل المادة 76 من دستور 1971، وإلغاء النص على الاستفتاء الشعبي على الرئيس واستبدال الانتخابات التعددية به، عرفت مصر أربع انتخابات رئاسية. كانت أولاها التي جرت في 2005 وفاز بها مبارك بنسبة أصوات تعدت 88%، ولكنَّ انتخابات 2018 كانت أسوأها.
لم تكن انتخابات 2018 عملية انتخابية بالمعنى الحقيقي، بل أقرب إلى الاستفتاء المغلف بصيغة الانتخابات التعددية والتنافسية.
واليوم، تتبقى بضعة أشهر قبل أن تتجه مصر إلى الانتخابات الرئاسية الخامسة، التي تبدأ إجراءاتها بحد أقصى، حسب الدستور، في الثاني من ديسمبر/كانون الأول المقبل.
المؤكد حتى الآن، أنه لا ضمانات لنزاهة تلك الانتخابات. لأنه حتى وإن جرت إجراءات الاقتراع والفرز بشفافية فالعبرة دائمًا تكون بالمناخ الذي يحيط العملية الانتخابية، لا يوم التصويت فقط.
تظل ضمانات مثل حياد الدولة، وحرية حركة المرشحين وأنصارهم، وإشراف المنظمات الدولية والمحلية على العملية الانتخابية، وإتاحة مساحات متساوية لجميع المرشحين في وسائل الإعلام، شروطًا ضامنة وحاكمة لحرية ونزاهة العملية الانتخابية، وهي التي يمكن الحكم من خلالها على جدية الانتخابات من عدمه.
بكل الحسابات السياسية، فإن غياب هذه الشروط والضمانات سيحول الاستحقاق المقبل إلى انتخابات دون مرشحين. والمقصود هنا، هؤلاء الذين ينافسون بجدية، ويؤمنون بإمكانية التغيير السلمي عن طريق الصناديق، ويجهزون الحملات الانتخابية والبرامج السياسية لعرضها على المواطنين.
إذا غابت شروط وضمانات الجدية وتحولت العملية إلى انتخابات دون مرشحين، فإن البلد سيكون الخاسر الأكبر، لكن الأكيد أيضًا أن هناك أسبابًا جدية تحول دون تحويل الانتخابات المقبلة إلى استفتاء على السلطة الحالية.
هناك ثلاثة أسباب ستحول دون إمكانية إخراج الانتخابات المقبلة بطريقة الانتخابات الماضية/الاستفتائية، وربما تضمن هذه الأسباب حدًا أدنىً مناسبًا من شروط النزاهة والحياد.
أي محاولة لـ"تمرير" الانتخابات دون شروط نزاهتها، ستخصم من استقرار البلد
أولًا، ستكون الأزمة الاقتصادية الحالية المانع الأول الذي سيحول دون أن تصبح الانتخابات المقبلة استفتاءً. فالغلاء يضغط على الطبقات الفقيرة والمتوسطة كما لم يحدث من قبل، والديون الخارجية وفوائدها وصلت لمراحل غير مسبوقة حتى كادت تبتلع الموازنة العامة للدولة.
أما تراجع قيمة العملة فجعل الشعور بالأزمة الاقتصادية على المواطنين أشدُّ قسوةً، أضف إلى كل هذا انخفاض الرواتب، وزيادة نسب البطالة، وانقطاع الكهرباء، وزيادة فواتير الخدمات بشكل لم يسبق له مثيل.
كل هذه الأزمات التي مست حياة الناس بشكل مباشر، أفقدت السلطة الحالية كثيرًا من شعبيتها السابقة، وبالتالي من قدرتها على التعامل مع الانتخابات بطريقة غير جدية، وإظهار عدم الاحترام لرغبة الملايين في تغيير الكثير جدًا من الوجوه والسياسات على السواء.
ثانيًا، حاصرت السلطة الحالية المجال العام لسنوات طويلة، دون أن تدرك أن اللحظة التي قررت فيها إقصاء السياسة من المجتمع واستبعاد كل الأصوات باستثناء صوتها، فإنها فقدت كذلك القنوات الشرعية لتصريف الغضب.
قررت السلطة بمحض إرادتها تجميع الغضب كله وتوجيهه ناحيتها وحدها لا شريك لها. وبالتأكيد، فإن شعور الغضب العام الذي بات ظاهرًا بوضوح اليوم، هو نتاج تراكم بسبب غياب السياسة عن المجتمع، واحتكار السلطة لكل وأي شيء، من الأحزاب إلى النقابات، ومن الدراما إلى الإعلام إلى الجمعيات والمنظمات الأهلية وكل صغيرة وكبيرة.
ثالثًا، الحضور الإقليمي والدولي للسلطة اليوم هو في أضعف مراحله منذ 2014، لا سيما تحالفاتها الخارجية مع الخليج، بعدما تلقت دعمًا اقتصاديًا وسياسيًا لم يحدث في تاريخنا الحديث. هذا الغياب الخليجي لا شك بات يخصم من قوة وقدرة السلطة، ويقلل من فرص الرضا الشعبي عنها مع انخفاض قدرتها الاقتصادية لأقل مستوى، فضلًا عن الدعم السياسي الكبير الذي وفرته تلك الدول الخليجية طوال السنوات العشر الماضية.
أي قراءة جادة للمشهد ستنتهي إلى أن فرص السلطة في إخراج الانتخابات المقبلة بصورة هزلية، أو حجب ضمانات النزاهة والحيدة والحرية، باتت ضئيلة أمام واقع سياسي واقتصادي صعب للغاية. فالرغبة في التغيير تزيد وتتعمق كلما زادت الهموم وتزايدت الضغوط الاقتصادية، حتى بات التغيير السياسي عبر صناديق الانتخابات هو الملجأ والملاذ الآمن للبلد وناسه.
لن تحتمل مصر إلا انتخابات تنافسية جادة وتعددية، وأي محاولة لـ"تمرير" الانتخابات دون شروط نزاهتها، ستخصم من استقرار البلد في حاضره ومستقبله، ومن حق المصريين في انتخابات حرة ونزيهة يختارون فيها من يحكمهم، هذا الحق الذي بات مطلوبًا الآن أكثر من أي وقت مضى.
كل المطلوب الآن هو احترام آليات العملية الانتخابية، ومنح الناس حريتهم في اختيار من يحكمهم، ووقتها على الجميع احترام نتائج الاختيار مهما كان، إذ ينبغي أن يشعر الناس أيضًا أن عليهم دفع ضريبة اختيارهم. فالديمقراطية تضمن للناس حقهم في الاختيار، وتمنحهم فرصًا بعدها بعدة سنوات لتصحيح اختيارهم، أو تأكيده، عبر نفس الآلية: صناديق انتخابات حرة ونزيهة وغير موجهة، تستحقها مصر، وتنتظرها منذ سنوات.