المتحدث باسم رئاسة الجمهورية، فيسبوك
الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال كلمته بعد أداء اليمين الدستورية لفترته الرئاسية الثالثة والأخيرة في مقر مجلس النواب في العاصمة الإدارية الجديدة. 2 أبريل 2024

لغز بيان "وصلتني" وصراعات أحزاب الموالاة

منشور الثلاثاء 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

عندما قرأتُ للمرة الأولى بيان الرئيس عبد الفتاح السيسي بشأن المخالفات الفاضحة التي شهدتها الجولة الأولى من الانتخابات، الذي بات يشتهر في الأوساط السياسية والصحفية بـ"بيان وصلتني"، اعتقدتُ لوهلةٍ أنه صادر عن حساب مزيف، ولم أعره الكثير من الاهتمام، لأنني تعلمت كصحفي يحمل خبرة ثلاثة عقود في تغطية أخبار الرئاسة أن البيانات الرسمية في مصر لا يُصدرها الرئيس في بوستات على صفحته الشخصية على فيسبوك. فرغم ما يُعرف عن اهتمام الرئيس بالسوشيال ميديا لم يتَّبع حتى الآن سياسة نظيره الأمريكي دونالد ترامب في إعلان قراراته عبرها.

كما أن مضمون البيان لم يكُن -على أقل تقدير- معتادًا، وهو يُقرُّ أصلًا بوقوع المخالفات، في وقتٍ كانت أحزاب الموالاة تنشد بأعلى الأصوات لحن الانتخابات الأكثرَ نزاهةً وتعبيرًا عن إرادة الشعب. وبلغ الأمر ببيان الرئيس حدَّ مطالبة الهيئة الوطنية بالنظر في الإجراءات المناسبة حتى لو أُلغيت نتائج المرحلة الأولى بالكامل، بعد أن بدا أن جميع القوى السياسية الفاعلة في مصر، بما فيها أحزاب المعارضة، قبلت عن قناعة أو على مضض بأن هذه الانتخابات لن تكون تنافسيةً، لأن كعكة البرلمان قُسِّمت كُلٌّ حسب نسبة رضا الأجهزة المعنية عن أدائه ومواقفه.

وبعد أسابيع من تجربة انتخابات مجلس الشيوخ التي لم يهتم بها أحد ومثَّلت امتدادًا لسياسة تحويل مقاعد المجالس النيابية إلى منح وعطايا يجود بها النظام، وقبلها انتخابات الرئاسة 2024، واستمرار الحديث عن أهمية الاصطفاف الوطني في ضوء التحديات الإقليمية الحقيقية ومواجهة عدو صهيوني متغطرس، قَبِل الجميع أن تصبح هذه الانتخابات حدثًا هامشيًا، ليستمر البرلمان كما عهدناه منذ 2015 أداةً لتنفيذ مطالب الحكومة ودعم ما تشاء من قوانين وقروض وصفقات دون أي مساءلة حقيقية.

وما الإجراءات الجنائية ببعيد

الرئيس عبد الفتاح السيسي يُدلي بصوته في انتخابات مجلس النواب 2025، القاهرة. 24 نوفمبر 2025

لكن بعد نقل المواقع الإخبارية الموثوقة محتوى البيان غير المسبوق بعناوين بارزة، شعرت بحيرة شديدة في تفسيره ومبرراته المحتملة، وإن لم أصدق أن يصل الأمر إلى إلغاء النتائج بالكامل بعد ما أُنفِق من مبالغ طائلة لحجز مكان في القائمة المطلقة المغلقة، التي ضمنت وجود أعضائها بالكامل في البرلمان دون حاجة إلى أي دعاية، كونهم في الواقع أقرب إلى النواب المعينين منهم إلى المرشحين المتنافسين.

وعلى مدى الساعات التي فصلت بيان الرئيس عن المؤتمر الصحفي للهيئة الوطنية للانتخابات في اليوم التالي، كنتُ ضمن الفريق الذي توقع إلغاء نتائج بعض الدوائر الفردية، مع الوعد بتحسين ظروف انتخابات المرحلة الثانية.

لم يكن هذا التوقع بناءً على فهم طبيعة النظام الحالي ونظرته التي لا تكترث بالأحزاب والسياسة عمومًا فحسب، بل مع الوضع في الاعتبار أيضًا تجربة قانون الإجراءات الجنائية الذي قرر السيد الرئيس بشكل مفاجئ إعادته إلى مجلس النواب لتعديل بعض نصوصه وتوفير المزيد من الضمانات والبدائل للحبس الاحتياطي.

فبعد أن تحوّلت إشادات ممثلي الحكومة وأحزاب الموالاة بالقانون إلى إشادات برفض الرئيس لإجازته وإعادته إلى المجلس، اعتمد مجلس النواب في النهاية تعديلات محدودة على مشروع القانون، بعيدًا عن المطالب الرئيسية لمعارضيه، دون أن يتساءل أحد للأسف عن أسباب الحاجة إلى استمرار سياسة الحبس الاحتياطي لأصحاب الرأي والمعارضين، حتى تكون هناك بدائل مثل الأساور الإلكترونية وتحديد الإقامة، أو تقصير مدة الحبس من سنتين إلى 18 شهرًا.  

وبناءً أيضًا على تجربتي الشخصية طوال سنتين فيما كان يُعرف بـالحوار الوطني، وقبلها تجربة حبسي احتياطيًا في قضية سياسية لمدة 19 شهرًا، لم أكن الوحيد الذي لفتت انتباهه كلمة "وصلتني" في بداية البيان. ولم أكن الوحيد الذي تساءل بحزن عمَّا لم يصل للسيد الرئيس من مطالب جف حلق المشاركين من أحزاب المعارضة والمستقلين في تكرارها أثناء وقبل الحوار الوطني، بشأن ضرورة إصلاح النظام الانتخابي نفسه، وتطبيق نظام القائمة النسبية بدلًا من القائمة المطلقة، التي تعني عمليًا تعيين أكثر من نصف أعضاء المجلس.

وكذلك توفير البيئة المناسبة لتشجيع الجميع على خوض الانتخابات بإطلاقٍ حقيقيٍّ للحريات، بدايةً من الإفراج عن سجناء الرأي، ونهايةً بمنح وسائل الإعلام الحرية لنقل الآراء والمطالب المتنوعة في المجتمع والأحزاب السياسية، لخلق أجواء تنافسية حقيقية، ولِيَشْعُر الناخب المصري أن له صوتًا مسموعًا.

هل لو كانت هذه المقترحات "وصلت" بدورها للسيد الرئيس وتم تنفيذها، كنا سنجد أنفسنا في الموقف الحالي الذي يضطر فيه للتدخل لتوجيه عمل الهيئة الوطنية للانتخابات، المفترض رسميًا أنها هيئة مستقلة جميع أعضائها من القضاة، لا تسمح لأي طرف بالتدخل في قراراتها؟

تقاذف كرة اللهب

ربما يكون الأكثر إثارة للاهتمام في الزوبعة التي تلت بيان الرئيس، أن الغالبية الكاسحة من المخالفات الفجة التي نقلتها السوشيال ميديا وبعض وسائل الإعلام، لم ترتبط بالصراع بين الأحزاب الموالية للسلطة وتلك المعارضة لها، فالأخيرة عمليًا غائبة عن هذه الانتخابات، بعد انقسامها بين مَن قبلوا بصفقة الحصول على جزء محدود من الكعكة عبر مقاعد معدودة في قائمة "التحالف من أجل مصر"، ومَن قرروا الاكتفاء بالمنافسة على عدد محدود جدًا من المقاعد الفردية بمنطق التمثيل المشرف، مع علمهم المسبق بأنهم لن يتمكنوا من الفوز ولو بمقعد واحد، لأنهم وبكل المعايير لا يمتلكون الإمكانات المادية ولا التأثير الكافي للفوز.

صحيح أن حب الوطن والنظام فرض على كل الأجهزة لكن مع اتهامات التزوير سارع الجميع إلى التنصل

الصراعات حامية الوطيس، والاتهامات المتبادلة بالتزوير وتسويد الصناديق وشراء الأصوات بمبالغ طائلة في المقاعد الفردية، وقعت بين ممثلي أحزاب الموالاة وحب الوطن والمنشقين عنها، على طريقة "الإخوات مسكوا في بعض".

وفي هذه الظاهرة تعبير حقيقي عن مدى هشاشة هذه الأحزاب وانعدام قدرتها على تقديم أي غطاء سياسي للنظام، رغم أنها جميعًا تخوض الانتخابات لدعم تنفيذ برنامج الرئيس وتحقيق أهدافه وطموحاته. ولو أن النظام الحالي يرى هذه الأحزاب كيانات سياسية حقيقية، لكان قد شعر بالحرج لحجم الانشقاقات والاستقالات التي ضربت مستقبل وطن وحماة الوطن والجبهة الوطنية، حديث النشأة شديد الثراء.

كان من الواضح من خلال حجم الإنفاق الفج لشراء الأصوات، سواء في مرحلة الدعاية أو في أيام التصويت، أن الساعين إلى مجلس النواب يرون في عضويته فوائد ستُمكّنهم من استعادة ما أنفقوه من أموال وزيادة، وبغض النظر عن يافطة الحزب الذي ينتمون إليه. وحتى السخونة النسبية التي شهدتها بعض الدوائر، فتعود إلى التنافس التقليدي بين العائلات والعصبيات في صعيد وأرياف مصر، لا بسبب الانتماءات السياسية للمرشحين؛ فالجميع كان يرفع لواء الاصطفاف خلف برنامج السيد الرئيس.

ورغم كل ما تبديه أجهزة النظام من تماسك ويدٍ باطشة، اندلعت حرب البيانات بين أندية القضاة المختلفة. فصحيح أن حب الوطن والنظام فرض عين على كل أجهزة الدولة، ولكن مع بلوغ الأمر حد الاتهام بالتورط في التزوير وتنفيذ توجيهات بعدم تسليم وكلاء المرشحين ومندوبيهم محاضر الفرز، سارع المعنيون إلى التنصل من المسؤولية وتقاذف كرة اللهب.

وتبقى الحقيقة أن توفّر النية السياسية لإجراء انتخابات نزيهة كان سيُجنّبنا الحاجة لأي إشراف قضائي على الانتخابات، الأمر الذي نصَّ عليه دستور 2014 بإنهاء هذا الإشراف بعد عشر سنوات من بدء تطبيقه. وكانت هذه هي الحقيقة التي أشار لها بيان نادي قضاة مصر صراحة، منوهًا بأن من تولى مهمة الإشراف في الانتخابات الأخيرة كانوا قضاة النيابة الإدارية ومجلس الدولة، لا قضاة المنصة وأعضاء النيابة العامة.

المحصلة التي يعرفها الجميع، أننا لسنا بصدد برلمان يخشاه النظام، تمامًا كما اعتدنا منذ 2015، خاصة بعد اندلاع حرب غزة وانتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وتراجع الاهتمام عمومًا بملف الإصلاح السياسي والضغط لإخلاء سبيل المعارضين المحتجزين والكف عن حبس المزيد منهم.

لكن سيبقى التساؤل قائمًا حول دوافع بيان "وصلتني"، وإذا ما كان بالفعل مقدمة للترويج لاحقًا لأن هذا البرلمان لا تشوبه شائبة بفضل تدخل الرئيس شخصيًا، تمهيدًا للإقدام على خطوة لا يستبعدها كثيرون بتعديل الدستور تمهيدًا للانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2030. أتمنى أن يكون البعض ممن يقولون الآن "وصلتنا الرسالة" مخطئين، وأن ما طفا للسطح مجرد "خناقة إخوات" بين أحزاب الموالاة ومن يقف خلفها، وكفى الله المؤمنين شر البرلمان.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.