ذكريات الانتخابات و"التمثيل المشرف"
ابتسمتُ ورجع بي شريط الذكريات نحو أربعين عامًا إلى الوراء، بعد أن قرأت مقالات لزملاء وأصدقاء يتناولون فيها تجاربهم مع "البطاقة الوردية" التي كان استخراجها شرطًا لممارسة الحق في التصويت على مدى عقود. كنتُ في منتصف الثمانينيات شابًا يساريًا متحمسًا، يرى في المشاركة السياسية ضرورة حتمية حتى لو كانت النتيجة معروفةً سلفًا من باب تسجيل المواقف، وهذا أمر متوقع من مشجعٍ مُحبٍّ لنادي الزمالك يرفع شعار "سنظل أوفياء" بعد كل "تمثيل مشرف".
وفي ظل القيود المشددة على حرية تشكيل الأحزاب، وترؤس أمين عام الحزب الوطني الحاكم سابقًا -بصفته رئيس مجلس الشورى- للجنة شؤون الأحزاب التي تمنع الحصول على التراخيص، كنتُ مقتنعًا كعضوٍ في اتحاد الشباب التقدمي التابع لحزب التجمع اليساري بضرورة الاستفادة من هامش الحرية الذي كان يتسع قليلًا في موسم الانتخابات كل خمس سنوات؛ للتحرك في الشارع والحديث مع الناس وعقد بعض المؤتمرات الانتخابية.
عشنا معظم فترة مبارك من دون الحق في انتخابه من بين متنافسين، مع اقتصار الأمر على استفتاءات نختار فيها بين "نعم" و"لا"، ومع ذلك كنت أتوجه مع الرفاق للتصويت بـ"لا" كنوعٍ من التحدي والجرأة، ولكي نضحك بمرارةٍ عندما تظهر نتيجة "نعم" 98% متفاخرين بأننا من ضمن 2% صوّتوا بـ"لا".
مرارة بلا ضحك
لكن الابتسامة المرافقة لشريط الذكريات صاحبها في 2025 حزن ومرارة، لأنه وللمرة الأولى منذ أربعة عقود لا أذهب إلى صناديق الاقتراع من الأساس في انتخابات مجلس النواب، وبالطبع من قبله مجلس الشيوخ، بعد أن تحوَّلت عضوية كليهما إلى جائزة يوزعها النظام كالعطايا في مراسم الرضا لمن أدوا وظيفة الدعم المطلق لكل ما تقدمه الحكومة من تشريعات، والتقاعس عن أداء الأدوار الدستورية من أعمال الرقابة والتشريع.
وليس من قبيل المصادفة أن برلمانات ما بعد الإطاحة بحكم الإخوان وطوال عشر سنوات لم تُناقش سوى استجواب واحد يتيم لوزيرة في الحكومة.
كما أنني وللمرة الأولى، لم أدعم أيًا من المرشحين أو الأحزاب في حملاتهم الانتخابية، بعد أن توصلت لقناعة أن تكرار تجربة وجود عشرين أو ثلاثين نائبًا معارضًا من بين نحو ستمائة، لم تعد تجربة مجدية تستحق المعاناة، فأعلنت التمرد على شعار "التمثيل المشرف".
كان الخلاف كبيرًا بين أحزاب المعارضة الشرعية المنضوية تحت يافطة "الحركة المدنية الديمقراطية" في انتخابات عام 2020، بعد أن قررت أحزاب المصري الديمقراطي الاجتماعي والإصلاح والتنمية والعدل الإقرار بالأمر الواقع، وقبول الانضمام للقائمة الموحدة مع أحزاب الموالاة والحصول على عدد محدود من المقاعد. لتنقسم وتتجمد الحركة تقريبًا، إلى أن أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسي في ربيع 2022 ما كان يُسمَّى بالحوار الوطني.
بعدها، دبَّ النشاط مجددًا في صفوف الحركة المدنية واتسعت عضوية أحزابها وشخصياتها العامة أملًا في الدفع نحو إنهاء حقبة المنع التام من ممارسة العمل السياسي، وتعديل قوانين الانتخابات بما قد يسمح لها بالمنافسة، إلى جانب إطلاق سراح المئات من المعارضين المحبوسين احتياطيًا منذ 2019.
ورغم عدم اتفاقي مع أحزاب المعارضة في تبريرها الانضمام إلى "القائمة الوطنية لدعم مصر" بأنه مجرد تحالف انتخابي وليس سياسيًا، لفتح قناة حوار مع النظام لإطلاق سراح المحبوسين، رأيت لاحقًا أن أداء النواب المعارضين من الحزب المصري الديمقراطي وآخرين، على محدودية عددهم، كان مُميّزًا مع بروز مجموعة جديدة من الأسماء منها مها عبد الناصر وفريدي بياضي وإيهاب منصور وأميرة صابر وضياء داود وأحمد الشرقاوي.
القاعدة بسيطة: حرية حقيقية وقوانين عادلة ورقابة محلية ودولية تنتج انتخابات حقيقية
ولكن مع تخلي الأجهزة المعنية عن مشروع الحوار الوطني، والتجاهل الكامل لمطلب أحزاب المعارضة الأساسي بالتخلي عن نظام القائمة المطلقة التي تُحدِّد سلفًا نتيجة نصف مقاعد البرلمان بمعرفة مهندسي العملية الانتخابية، كنت أتمنى أن تمتنع الأحزاب المعارضة عن الاشتراك في هذه القائمة مضمونة النجاح.
ولو كان لهذه الأحزاب أن تستفيد من تجربةِ تقديمِ مجموعة من النواب المتميزين إلى الرأي العام من خلال القائمة المشتركة في انتخابات عام 2020، لكان من الأجدى ربما الدفع بهؤلاء في المنافسة على المقاعد الفردية في دوائرهم بدلًا من أن تلاحقهم تهمة عقد صفقة مع النظام لضمان زيادة بسيطة في عدد المقاعد، من ستة إلى تسعة.
ومن المنطلق نفسه، ومع محاولات تلقي العلاج من التمسك بـ"التمثيل المشرف"، لم أرَ أي جدوى من دعم من وصفهم أحد الأصدقاء بـ"كتيبة الفدائيين" ممن قرروا خوض الانتخابات على المقاعد الفردية تحت يافطة حزب معارض، كوني متيقنًا من عدم قدرتهم على الاقتراب حتى من دائرة المنافسة.
فهذه الأحزاب تعاني الانقسامات وفقر الإمكانات المادية منذ سنوات، في ظل غابة من المنافسين القادرين على إنفاق أموال بلا سقف للحصول على شرف الاقتراب من دوائر الحكم والنظام وتعويض ما أنفقوه. وفي ظل غياب طال، سواء بسبب أجواء التضييق على نشاط المعارضين أو تفكك أحزاب المعارضة، بدت "كتيبة الفدائيين" عاجزة، ونتائجها أقل من هزيلة، خاصة أن بعض مرشحيها خاضوا الانتخابات في دوائر ثقيلة لم يسبق لهم العمل أو ممارسة أي نشاطات خدمية فيها.
قواعد سياسية بسيطة
لكن الأكثر مدعاةً للحزن بالنسبة لي شخصيًا أن مشاعر الإحباط هذه تتزامن مع اقتراب الذكرى الخامسة عشرة لثورة يناير، التي سأبقى مُعتزًّا حتى آخر العمر بمشاركتي فيها، وبما منحته لي من مشاعر جارفة بالتفاؤل والأمل والثقة بعد نجاحها في إنهاء حقبة كنت أظنُّ مثل كثيرين أنها لن تنتهي أبدًا حتى بوفاة مبارك، مع خطط توريث الحكم لابنه جمال، خاصة في أعقاب التزوير الفج لانتخابات 2010، التي أنتجت برلمانًا اختفى منه المعارضون بشكل كامل بعد أن كان بحوزتهم مائة مقعد تقريبًا، معظمها لنواب جماعة الإخوان المسلمين.
لم تكن الظروف مثاليةً بكل تأكيد، وعملية شراء الأصوات واستغلال فقر قطاع واسع من المصريين ثقافة راسخة لا يتصور عارفٌ بحقائق الأوضاع على الأرض أن تختفي فجأة، خاصة في ظل الإمكانات المالية الهائلة التي تمتعت بها جماعة الإخوان، ونفوذ الدولة التي بنتها داخل الدولة في فترة مبارك، من خلال شبكة ممتدة من المساجد والمستشفيات والمدارس والجمعيات.
لكن أهم النتائج التي أبهرتني من سلوك الشعب المصري بعد ثورة يناير هي إقباله السريع على المشاركة السياسة، سواء في تشكيل الأحزاب الجديدة أو الإقبال الحر غير المسبوق على التصويت في انتخابات مجلس الشعب 2011 ثم الرئاسة 2012.
القاعدة بسيطة؛ توفير أجواء حرية حقيقية، سواء في التنظيم السياسي أو الإعلام، وسنّ قوانين انتخابات عادلة وإجراءات صارمة لضمان نزاهة العملية، والترحيب بمهام المراقبة المحلية والدولية وتيسيرها، ستؤدي إلى انتخابات تنافسية حقيقية.
أما القوانين المُعدَّة بإحكام على مقاس أحزاب الموالاة، وأجواء يخاف فيها المعارضون من الحبس الاحتياطي لو تجاوزوا في معارضتهم ما قد تراه الأجهزة المعنية خطوطًا حمراء، والتضييق على وسائل الإعلام وحرمان المواطنين من الحق الطبيعي في الاختيار بين أحزاب وأفكار متنوعة، فتنتهي بنا إلى ما نراه الآن من مهازل شهدتها جولة الانتخابات الأخيرة.
فرصة لإعادة الترتيب
رغم أنني شهدت منذ استخراج بطاقتي الوردية لأول مرة عام 1985 الكثيرَ من العجائب والمشاهد الفجة للتزوير والعنف في استحقاقات انتخابية مختلفة، فإن ما حدث في الانتخابات الأخيرة هو الأعجب من حيث التلاعب الذي ظهر في الفوارق المذهلة بين نتائج الدوائر التي أعيدت الانتخابات فيها.
كما يحتاج الأمر الكثير من العبقرية والذكاء الاصطناعي لنفهم ماذا حدث لتعاد الانتخابات في نحو 50 من بين 70 دائرة شهدت منافسات الجولة الأولى، مع التمسك بالادعاء في الوقت نفسه بأن ما جرى من فضائح وشراء علني للأصوات وتزوير فج في الصناديق مجرد مخالفات محدودة لا تمس جوهر العملية الانتخابية، ولا بنجاح القائمة المنفردة مضمونة النجاح مسبقًا.
ربما تدفع الخلافات والفضائح التي طفت على السطح بعد تجربة الانتخابات الأخيرة إلى بعض من إعادة النظر في ترتيب المشهد الداخلي بين الأجهزة المعنية بهندسة العملية الانتخابية التي لم تنجح في مهمتها. لكن ما سيبقى غائبًا هو برلمان انتخبته نسبة ضئيلة من المصريين الذين عاد معظمهم إلى مرحلة "نروح ننتخب ليه إذا كان صوتنا مش فارق"، بينما تزداد أزمة الأحزاب المعارضة وتفقد مصداقيتها بعد موافقتها على القبول بصفقة الهندسة، أملًا في أن يؤدي "التمثيل المشرف" إلى تحقيق نتائج لم تتحقق أبدًا.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.

