انتخابات الرشاوى.. حتى لو تحدث الرئيس
على النقيض من مقولة "دوام الحال من المحال" جاءت المرحلة الثانية من الانتخابات البرلمانية لتؤكد بقاء الأمور على حالها، وأنه لا سبيل لإخراج مشهد انتخابي أقل فجاجة حتى وإن تحدث الرئيس بنفسه.
انطلقت المرحلة الثانية بنفس كتالوج المرحلة الأولى مكررة المخالفات ذاتها، التي تنوعت بين شراء أصوات وتوجيه ناخبين ودعاية في محيط اللجان وحشود مصطنعة.
برزت الرشاوى الانتخابية طريقًا وحيدًا معروفًا ومألوفًا إلى كرسي البرلمان، في تجاهل تام لتبعات المخالفات التي شهدتها المرحلة الأولى، والتي دفعت الرئيس عبد الفتاح السيسي للمطالبة بالتدقيق في ما وصله من "الأحداث التي وقعت في بعض الدوائر"، ليتم على أثر ذلك إلغاء الانتخابات في 19 دائرة في سبع محافظات.
ومع ارتفاع سقف الطموحات في مشهد مغاير بعد دعوة رأس السلطة لإعلاء "إرادة الناخبين الحقيقية"، وتحذيره من تكرار المخالفات في باقي مراحل الانتخابات، تجولت المنصة اليوم في عدة دوائر برهانًا على اختلاف المشهد، لكن شيئًا لم يتغير.
"التليفزيون هيصور"
محاولات إثبات الإقبال على الانتخابات عبر طوابير مصطنعة بدأت مع اللحظات الأولى لبدء عملية الاقتراع، وهو ما رصدته المنصة خلال الساعة الأولى من فتح لجان مدرستي حدائق المعادي القومية والجمهورية الرسمية للغات، حيث بدا لافتًا جلوس نحو 80 شخصًا على كراسٍ موازية لأسوار المدرستين.
وما إن ظهر طاقم تصوير تابع لقناة العربية أمام مدرسة حدائق المعادي، حتى نادى فرد أمن بزي مدني على آخر، قائلًا "التليفزيون هيصور خلّي الناس تقف".
على أثر ذلك امتد طابور طويل من كبار السن والشباب، وسرعان ما انفض الطابور وعاد "الناخبون الكومبارس" إلى كراسيهم بمجرد انتهاء التصوير.
لم يختلف المشهد أمام مدرسة الجمهورية الرسمية للغات، فبينما خلت اللجان داخل المدرسة إلا من عدد قليل من الناخبين، افترش مجموعة من كبار السن الرصيف.
وفي الوقت الذي اختفت فيه مظاهر الدعاية الانتخابية أمام اللجنتين، استمرّ الحشد، ورصدت المنصة عددًا من سيارات الأجرة والميكروباصات تُقل ناخبين كبارًا في السن من نقاط حشد بشارع الترعة القريب من شارع السوق الشعبي بالمعادي إلى مقري المدرستين وتعيدهم مرة أخرى.
تحدثت المنصة إلى أحد سائقي الميكروباصات، الذي طلب عدم نشر اسمه، قبل أن يوضح أن عملية نقل الناخبين يشرف عليها أشخاص تابعون لأمانة المعادي بحزب مستقبل وطن، مؤكدًا أن كل ناخب يحصل على مبلغ مالي (لم يحدده) مقابل التصويت للقائمة الوطنية ومرشح الحزب على المقعد الفردي وائل سعدة، رقم 1 باستمارة الانتخابات.
نداء لإيقاف "المهزلة"
على بُعد نحو 140 كيلومترًا من المعادي لم يتغير المشهد، وفي بث مباشر على فيسبوك وثق المرشح عن حزب التجمع بمدينة المحلة الكبرى أحمد بلال أحد المحال التجارية، مشيرًا له بقوله "ده المكان اللي بيتم فيه شراء الأصوات".
"كأن توجيهات السيد الرئيس ليس لها صدى عند البعض، للأسف ما زالت عمليات شراء الأصوات مستمرة"، قال بلال داعيًا إلى تدخل الدولة؛ "نطلب تدخل الدولة المصرية علشان إيقاف هذه المهزلة اللي البعض مصمم إنها تستمر".
https://www.facebook.com/chebelal/videos/713513741417819بعدها بنحو ساعتين ونصف الساعة، نشرت وزارة الداخلية بيانًا على فيسبوك، تضمن صورة ممهورة لبلال، وأربعة آخرين أمامهم مبالغ مالية وبطاقات رقم قومي، مؤكدة أنها رصدت بمدينة المحلة واقعتي تجاوز، وضبطت القائمين عليهما "بأحد الجراجات وأحد الشوارع بمحيط إحدى الدوائر الانتخابية، لقيامهم بجمع عدد من بطاقات الرقم القومي الخاصة بالمواطنين وحيازتهم مبالغ مالية تمهيدًا لتوزيعها عليهم للتصويت لعدد 2 مرشحين.. وتم اتخاذ الإجراءات القانونية حيالهم وعرضهم على النيابة العامة وإحاطة الهيئة الوطنية للانتخابات".
لم يكن هذا هو البيان الوحيد للداخلية عن مخالفات الانتخابات اليوم، ففي بيان آخر أعلنت اتخاذ الإجراءات القانونية ضد مرشح تعدى بالسب على اثنين آخرين بدائرة حلوان أثناء إدلائهما بصوتهما لرفضهما الإدلاء لصالحه.
ثم أعلنت "كشف ملابسات مقطع فيديو تم تداوله بأحد الحسابات الشخصية بمواقع التواصل الاجتماعى تضمن ادعاء أحد مرشحي مجلس النواب بضبط الأجهزة الأمنية شخصين أمام إحدى الدوائر الانتخابية لشرائهما أصوات الناخبين لصالح مرشح آخر بالقاهرة بالزاوية الحمراء. وتم اتخاذ الإجراءات القانونية.. وتولت النيابة العامة التحقيق".
كما أعلنت كشف "ملابسات مقطع فيديو تم تداوله بمواقع التواصل الاجتماعى تضمن قيام أحد الأشخاص بإلقاء زجاجة بها مادة مشتعلة داخل أماكن الانتظار بمقر إحدى اللجان الانتخابية بدائرة مركز شرطة نبروة بالدقهلية" وإلقاء القبض عليه، وتبين وفق الداخلية "أنه مهتز نفسيًا ومعروف باهتزازه النفسي بأوساط الأهالي بمنطقة سكنه".
الصوت بـ300 في المنيل
نداء أحمد بلال لم يوقف المهزلة، ففي المنيل اشتكى أحمد رجب موهوب، المرشح مستقلًا على المقعد الفردي عن دائرة مصر القديمة، من استخدام منافسه المرشح المستقل طاهر الخولي لجمعية نسائم مصر الخيرية في عملية شراء الأصوات الانتخابية وتوزيع الأموال على الناخبين بعد انتهائهم من التصويت مقابل 300 جنيه للصوت.
موهوب قال لـ المنصة أثناء مروره على اللجان الفرعية بمدرسة عمرو بن العاص الإعدادية بنين على كورنيش مصر القديمة، إنه أبلغ مباحث الأموال العامة والهيئة الوطنية للانتخابات عن ممارسات شراء الأصوات وخرق حظر الدعاية في محيط اللجان "مباحث الأموال العامة أكدوا إنهم هينزلوا ويتحركوا على عنوان الجمعية في شارع المنيل الرئيسي أمام مبنى الضرائب".
واصلت المنصة جولتها التي امتدّت إلى لجان مدينة نصر ومصر الجديدة، لترصد المشاهد ذاتها؛ مجموعات من الشبان والفتيات أشبه بالمجاميع/الكومبارس، يجلسون أمام اللجان تحت إدارة شخص بلباس مدني، يأمرهم بالانتظام في صفين حال ظهور أي وسيلة إعلام.
الواقفون في الطابور المصطنع يخفون وجوههم أثناء التصوير
أمام مدرسة المنارة بنات، في حي مدينة نصر، جلس على الرصيف عدد من الشابات والشباب بعضهم حديث السن، بينما توافدت سيارتا ميكروباص بهما عدد من النساء دخلوا إلى اللجان مباشرة، وأمام مدرسة عباس العقاد بالحي ذاته رصدت المنصة وقوف نحو 50 شابًا وفتاة في طابورين أمام اللجنة. بينما حضر نحو 3 ناخبين، طوال فترة ساعة وقفتها المنصة أمام المدرسة، دخلوا إلى اللجان مباشرة دون الانتظار في الطابور.
لاحظنا أن المصطفين في الطابور المصطنع يخفون وجوههم أثناء التصوير، ولم ترصد المنصة دفع أي رشاوى أمام المدرستين فضلًا عن غياب اللافتات الدعائية للمرشحين.
المشهد نفسه تكرر أمام مدرستي الطبري الثانوية بنين، ورشيد الابتدائية في مصر الجديدة، إذ حضرت الطوابير المصطنعة وغاب الناخبون، ولاحظنا أن الطوابير أمام مدرسة الطبري لا تتحرك وأن معظم من فيها يعرفون بعضهم البعض.
هذه المشاهد تكررت مرة أخرى بدائرة البساتين ودار السلام، وشهدت لجان مدرستي الفاروق الابتدائية 2 والثانوية المعمارية بنين إقبالًا نسبيًا في الساعات الأولى، وبدا الإقبال محدودًا في لجان مدارس الفاروق الابتدائية 1 وأحمد زويل ومحمد نجيب، واختفت مظاهر الدعاية الانتخابية والحزبية.
وبدا لافتًا وجود ما يزيد على 20 شابًا يرتدون ملابس سوداء بالكامل، لا تحمل شعارات محددة، ينظمون الصفوف أمام مدرستي أحمد زويل والفاروق 2.
ورصدت المنصة حشد عشرات الناخبين إلى مراكز الاقتراع في حافلات صغيرة وميكروباصات، يحمل عدد كبير منها ملصقات دعائية لمرشح حزب حماة الوطن علي عبد الونيس والمرشح المستقل سيد عبد الرحمن.
كما رصدت حمل عدد كبير من المصطفين في طوابير الناخبين بطاقات مدون عليها اللجنة الانتخابية والرقم في الكشف وعلى وجهها الآخر صور 3 مرشحين، هم محمود الشيخ مرشح حزب مستقبل وطن، وعلي عبد الونيس مرشح حزب حماة الوطن، وإسلام أكمل قرطام مرشح حزب المحافظين.
https://www.facebook.com/watch/live/?ref=watch_permalink&v=1928204804481763وفي بث مباشر على فيسبوك، وثق المرشح خالد عبد العزيز ما وصفه بـ"التجاوزات" و"توجيه" الناخبين عبر "كوبونات" لاختيار مرشحي الأحزاب الثلاثة تحت شعار "القائمة الوطنية"، مؤكدًا أنه سيتقدم بشكوى إلى رئاسة الجمهورية.
وجبات و200 جنيه في بولاق أبو العلا
وفي بولاق أبو العلا نشرت المرشحة عن حزب الإصلاح والنهضة مونيكا مجدي بثًا مباشرًا على فيسبوك، أشارت فيه إلى مجموعة توزع "وجبات و200 جنيه" على الناخبين لصالح "مرشح معين"، موضحة أن هذه المجموعة "بيخوفوا الناس، وبياخدوا بطايقهم"، قبل أن يهاجموها بقولهم "بتصورينا ليه.. حسبي الله ونعم الوكيل فيكي"، وفي الخلفية بوستر دعائي للمرشح عن حزب مستقبل وطن محمد عبد الرحمن راضي.
وفي فيديو آخر، قالت إن "كل المدارس فيها حشد وهمي، واللجان من جوه فاضية".
"المشهد عبثي، دي مش انتخابات، والانتخابات دي مش اللي قال عليها سيادة الرئيس"، قالت مونيكا مجدي.
شراء الأصوات لم يكن حكرًا على محافظتي الغربية والقاهرة، إذ وثق فيديو على أحد المواقع المحلية شراء أصوات المواطنين في الباجور بمحافظة المنوفية لصالح محمد فايز مرشح حماة وطن.
كذلك كشفت غرف عمليات حزبي المحافظين والوعي عن عدد من المخالفات والخروقات في مجموعة من الدوائر الانتخابية، تضمنت تأخر فتح لجان في محافظتي القاهرة والشرقية لأكثر من نصف ساعة، وعمليات حشد وتوجيه للناخبين، وشراء أصوات أمام اللجان، فيما أكدت الهيئة الوطنية للانتخابات اتخاذ إجراءات ضد تجاوزات في بعض اللجان، لكنها حذرت من نشر الوقائع على السوشيال ميديا، مؤكدة ضرورة اللجوء إلى الهيئة الوطنية والجهات الرسمية للإبلاغ عنها. كما حذرت من حملات التشكيك وتشويه الانتخابات على المواقع الإخبارية.
لكن مسار الإبلاغ للجهات الرسمية كان مغلقًا، أو كما قالت مونيكا مجدي في فيديو ثالث "معلش اللايفات هتكتر النهاردا علشان باجي أعمل إثبات حالة بيقولولي مش هينفع والكلام ده فأثبت حالة بقى على السوشيال ميديا"، مشيرة إلى مجموعة أمام إحدى لجان دائرتها قالت إنهم ليس لهم حق التصويت "الناس دي واقفة بتعمل إيه! أول ما بدأت إن أنا أثبت حالة طبعًا كله ارتبك وبدأوا يمشوا".
أتى المشهد أكثر فجاجة مقارنة بالمرحلة الأولى من الانتخابات، لا سيما أنه جاء بعد مطالبة الرئيس في 17 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، للهيئة الوطنية للانتخابات بألا تتردد "في اتخاذ القرار الصحيح عند تعذر الوصول إلى إرادة الناخبين الحقيقية سواء بالإلغاء الكامل لهذه المرحلة من الانتخابات، أو إلغائها جزئيًا في دائرة أو أكثر من دائرة انتخابية"، وختم قائلًا "تحيا مصر.. تحيا مصر.. تحيا مصر".
تصور البعض أن زلزال الرئيس سيمنح الانتخابات قبلة الحياة ويضفي شرعية وقبولًا على برلمان السيسي الأخير، لكن يبدو أن القائمين على هندسة الانتخابات لا يعرفون سبيلًا آخر لإخراج مشهد ديمقراطي على الأقل إعلاميًا، لتسير المرحلة الثانية على خطى الأولى وكأن شيئًا لم يحدث.

