نواب من جلسة عامة للبرلمان- تصوير: خالد مشعل بإذن للمنصة

بين برلمان 2020 وبرلمان 2025.. يا قلبي احزن

منشور الثلاثاء 16 أيلول/سبتمبر 2025

من أكثر ما يكسر أجواء الملل القاتل لمن مرَّ بتجربة الحبس الاحتياطي بتهم سياسية وصولُ وارد جديد إلى العنبر من خارج أسوار السجن المهيب المحاط بالأبراج والجنود المدججين بالسلاح. فالوارد أو السجين المستجد يُمثّل مصدرًا للمعلومات بشأن ما يجري في الخارج، وربما الاطمئنان على أخبار الأصدقاء المقربين لو كان من الدوائر السياسية نفسها، ويمنح مؤشرًا على فرص خروجنا؛ نحن من في الداخل. فلو كان القادم الجديد منتميًا لتوجهاتنا نفسها، يُعدُّ ذلك فألًا سيئًا. أما لو مرت مرحلةٌ من الهدوء من دون زبائن جدد، فربما تكون هذه الحملة خفتت ونحلم بضوء في آخر النفق يبشر بقرب الخروج.

خلال تجربتي الشخصية التي امتدت 19 شهرًا من خريف 2019 حتى ربيع 2021، شهدت وصول عددٍ لا بأس به من الواردين الجدد؛ منتمون لجماعة الإخوان المسلمين، ومعارضون من الأحزاب المدنية، قاتل محترف، وحتى متهم بالتجسس لصالح العدو الصهيوني. لكن في خريف 2020، وبينما كنا نتابع - بقدر الإمكان - الاستعدادات لإجراء الانتخابات البرلمانية، جاء عنبرنا وارد جديد مختلف عن كل من عهدناهم من قبل.

من تحركات الأمناء والضباط، عرفنا أن المستجد شخصٌ مرموقٌ ابن شخص مرموق، من المقربين إلى دوائر الحكم. وقد بلغت درجة العناية به أن السيد مأمور السجن شخصيًا شرفنا بزيارة العنبر للاطمئنان على أحواله ومواساته، والتأكيد على أن الأمر "سوء تفاهم وإن شاء الله ينتهي سريعًا"، منهيًا الزيارة بالاطمئنان على أحوال "بابا"، وضرورة إبلاغه تحيات السيد المأمور، مع تزويده بوجبة عشاء ساخنة.

حب الوطن فرض عليا

نظارة السجن

بعد خروج السيد المأمور ومن معه من جحافل الأمناء والضباط، سارعنا بدورنا في محاولة معرفة سبب ورود القادم الجديد. ولم تكن هناك وسيلةٌ سوى النداء عليه من نضارة الزنزانة بدعوى الاطمئنان على أحواله والسؤال عمّا يمكننا تقديمه إليه. "اسمك ايه؟ جاي هنا ليه؟". لكنَّ المحبوس الجديد كان في مرحلة "الخضة" ولم يقل أي شيء، ولم يمكن أمامنا سوى الانتظار حتى ساعة التريض في اليوم التالي لمعرفة التفاصيل.

وقتها، شرح لنا الزميل المستجد أن سبب احتجازه فيديو سجله بغضب بالغ، بعد أن أعلن حزب "حب الوطن" الذي ينتمي له عن قوائم مرشحيه في مجلس النواب دون أن تتضمن اسمه، رغم أنه وأسرته تبرعوا بسخاء مقابل ضمّه إلى المبشرين بعضوية البرلمان المقبل. وفي الفيديو، أشار بالاسم إلى عدد من رجال الأعمال الذين ضمتهم قوائم الحزب رغم ارتباط أسمائهم بفضائح شخصية ومالية.

كانت هذه الانتخابات محطةً مهمةً نسبيًا بالنسبة لنا، بعد أن أطلَعنا المحامون في جلسات التجديد الأوتوماتيكي على أن فرص إطلاق سراحنا ستزداد، لو وافقت أحزابنا على المشاركة في الانتخابات وفق نظام القوائم المطلقة المغلقة العملاقة الانتخابي القائم الذي نرفضه ونطالب بتغييره، وذلك من باب تلطيف الأجواء ومنح البرلمان الجديد شرعية ما بزعم وجود نواب معارضين.

بسبب نفوذ السجين المستجد والعلاقات المتشعبة لوالده مع دوائر الحكم، جاءته زيارةٌ في اليوم التالي مباشرة لسجنه، وهو ما لم يكن من الممكن أن نحلم به كسجناء سياسيين. ولم يكد يمضي سوى أسبوع واحد حتى تم اصطحابه للتحقيق أمام النيابة، لتخلي سبيله بضمان مالي 300 ألف جنيه.

وعرفنا من الأمناء والمسيرين في العنبر (وهم سجناء يشكلون حلقةَ وصل بين المحبوسين والضباط) أن الباشا الكبير والد الباشا الصغير خرج في برنامج تليفزيوني معتذرًا ومُبديًا أسفه وندمه الشديدين على فيديو ابنه المتهور، قائلًا إنها كانت لحظة غضب وطيش غير مقصودة، مؤكدًا ولاءه للوطن وللرئيس. كما انتشرت أخبارٌ لم يكن ممكنًا التأكد منها ونحن في الداخل أن الباشا الكبير اضطر كذلك لتقديم تبرع سخي لنفس حزب "حب الوطن" مقابل العفو والمغفرة.

احزن يا قلبي

عاد شريط الذكريات هذا إلى ذهني سريعًا وأنا أتابع الاستعداد لانتخابات برلمان 2025 بعد ما شهدناه في انتخابات مجلس الشيوخ التي جرت وانتهت وأعلنت نتيجتها دون أي اهتمام حقيقي من الناخبين. ما زال النظام يتمسك بصرامة بنظام القوائم المغلقة المطلقة التي تُعتبر قوائم للتعيين وليس للمنافسة، بحكم اتساعها وضخامتها. فقط أحزاب الموالاة هي من تستطيع تشكيلها. أما نصف البرلمان الآخر المخصص للمقاعد الفردية، فتنحصر المنافسة فيه غالبًا بين الأثرياء القادرين على الإنفاق بسخاء على حملاتهم وتقديم خدمات لدوائرهم، والمنتمين لأسر وعصبيات بعينها، بعيدًا عن أي معايير انتخابية أو تنافسية.

لكن هناك فوارق بين انتخابات 2020 و2025؛ لعل أولها أن النظام لم يعد يكترث بتقديم أي تنازلات أو إغراءات للأحزاب المحسوبة على المعارضة، رغم أننا قضينا نحو سنتين من المناقشات والحوارات الممتدة في سياق ما كان يعرف بالحوار الوطني، بشأن ضرورة تعديل قوانين الانتخابات والتخلص تحديدًا من القوائم المغلقة المطلقة.

ثم لم يحدث شيء، وتعاملت الأجهزة الأمنية المعنية مع ملف الانتخابات باعتباره أمرًا واقعًا، وأن الأوضاع الحالية التي تمر بها مصر والمنطقة في أعقاب حرب غزة ربما كانت تستوجب إلغاء الانتخابات من الأساس، لولا الملامة والحرج والاهتمام بالمنظر العام. لأن المطلوب هو مجالس نيابية مثل ما عهدنا منذ 2015؛ لا تزعج السلطة ولا تحاسبها أو تسائلها.

كل ما أتمناه لتلك المرأة الغاضبة بعد الفيديو الذي سجلته هو السلامة

أما الفارق الثاني فيتضح من الفيديو الذي سجلته عضوة معروفة في حزب آخر من أحزاب "حب الوطن"، هو أن درجة التنافس بين الشخصيات الراغبة في إبداء الولاء للنظام للحصول على عضوية مجلس النواب أصبحت شديدة السخونة والتكلفة، لدرجة أن من يرغب في ضم اسمه للقائمة المطلقة المغلقة المضمون نجاحها مطالب صراحة بتبرعات تتراوح حسب قولها بين 25 و50 مليون جنيه، أي نحو مليون دولار الشر بره وبعيد.

عندما كنتُ في السجن، كان ضمان الوجود في قوائم أحزاب "حب الوطن" المضمونة يكلف ما بين ثلاثة وخمسة ملايين جنيه فقط. هل السبب التعويم؟ ربما. العقل والمنطق يقولان إن من يتبرع بـ20 أو 50 مليونًا يتوقع استعادتها بشكل أو بآخر بعد نيل حصانة النواب أو الشيوخ. هل هذا هو الدافع وراء هذا السخاء الطائي؟ غالبًا.  

ومن أجل الموضوعية والإنصاف، ليست أحزاب "حب الوطن" فقط هي التي فتحت الباب لتلقي التبرعات من المحظوظين الطامعين في عضوية البرلمان المقبل، وهو تغير ثالث مقارنة بعام 2020. فأحزاب المعارضة المرضي عنها، التي قبلت الترشح على قوائم "حب مصر" و"من أجل مصر" تقبل التبرعات ممن سيُختارون من ضمن حصصها المحدودة للغاية في تلك القوائم، التي تتراوح بين خمسة وعشرة وربما أكثر قليلًا جدًا في أقصى تقدير. فهذه الأحزاب التي تعمل في ظل فلسفة "الحيز المتاح" أو البقاء على قيد الحياة من خلال إبراز نشاط العدد المحدود من نوابها في البرلمان تحتاج أيضًا لمصاريف للإنفاق على حملاتها الانتخابية.

لن تكون المبالغ طبعًا بحجم تبرعات الراغبين في نيل شرف تمثيل الوطن عبر قوائم أحزاب "حب الوطن" المقربة من دوائر السلطة، حيث الفرص أكبر لاستعادة تلك التبرعات، لأن من اقترب من السعيد لا بد أن يسعد. وتابعنا تقارير عن حالة السخط التي تسود بعض أحزاب المعارضة هذه، بعد تغافل المسؤولين عنها تضمين أسماء أعضاء بارزين يرون أنهم قدموا الغالي والنفيس لسنوات، ثم استُبعدوا من القوائم المطلقة التي تُنسق مع الجهات المعنية.

كل ما أتمناه لتلك المرأة الغاضبة بعد الفيديو الذي سجلته هو السلامة، وألَّا تدفع ثمنًا باهظًا لتلك الجرأة في كشف المستور المكشوف للجميع، ولا أن تضطر إلى تسجيل فيديو آخر تبدي فيه أشد الندم على ما قالته، وتؤكد أنها لم تكن في وعيها بل كانت لحظة طيش وغضب.

لا أستطيع القول بين 2020 و2025، يا قلبي لا تحزن. فالحزن كبير على استمرار الإصرار على حرمان المصريين من انتخابات تنافسية حقيقية، في وقت نحن فيه أحوج ما يكون لبرلمان مسؤول، يحاسب حكومة ستُقدِم على خطوات اقتصادية مؤثرة في الشهور المقبلة، ولأن أموالًا طائلة تُهدر بهذا الشكل لضمان عضوية برلمان يعمل بطريقة شاهد ما شافش حاجة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.