تصوير عفاف عبدالمنعم- المنصة
3 لجان انتخابية في مدرسة ابن خلدون بحلمية الزيتون خالية في ثالث أيام الانتخابات 12 ديسمبر 2023

خطورة انسحاب الناس من السياسة

منشور السبت 4 تشرين الأول/أكتوبر 2025

ليس بوسعِ أي سلطة، مهما بلغت من الاستبداد، إهمال انسحاب الناس من السياسة حين تستدعيهم ليوالوها أو يؤيدوها أو لاستعراض شعبيتها، بالتالي شرعيتها.

ومع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في مصر، يحق للسلطة السياسية أن تنظر بعين القلق لظاهرة "الانسحاب السياسي"، مهما قيل عن التحكم في مخرجات العملية الانتخابية، أو اللامبالاة حيال موقف الشعب، كما يظن البعض.

ابتداءً، فإن أقرب تعريف للانسحاب السياسي هو أنه ظاهرة مضادة للمشاركة السياسية، التي لا تعني فقط إشراك الفرد في عملية اختيار القادة ومديري شؤون الدولة وصنع القرار؛ بل تمتد إلى انخراط المواطن في مختلف مراحل التنمية "من خلال التخطيط والتنفيذ والإدارة والاشتراك والتقويم، وتقديم المبادرات وجني الفوائد والمنافع"، وفق ما أورده الدكتور ماجد محي آل غزاي في كتابه "المشاركة السياسية.. الآليات والعوامل المؤثرة: دراسة نظرية".

والمشاركة عملية طوعية متفاوتة في تنظيمها ودرجة سلميتها أو عنفها، وتنطوي على نقل آراء وحاجات المواطنين وأولوياتهم إلى الحكومة، ثم إقناعها أو الضغط عليها من أجل الاستجابة لها.

فراغٌ يخلقه الانسحاب

يمكن أن نذهب إلى تطبيق مباشر لمفهوم المخالفة فنقول إن مظاهر الانسحاب السياسي هي نفسها النقيض الواضح والمحدد لكل ما يعني المشاركة السياسية، لكن الأمر لا يبدو بهذه البساطة؛ فالدوافع التي تؤدي إلى الاثنين، والتصرفات التي تصاحبهما، والنتائج التي تترتب عليهما، ليست متناقضة بالضرورة. فالانسحاب يكون أحيانًا نوعًا من "المشاركة السلبية"، والمشاركة قد تكون شكلية، وتعبر عن وقوع أصحابها تحت إجبار وإكراه، فتبدو في نتيجتها النهائية تعبيرًا عن الانسحاب أيضًا.

تسويد بطاقات التصويت لصالح الموالين للسلطة لا ينهي الفراغ الذي يتسع في إدراك الناس حيال شرعية السلطة

هذا معناه أن الانسحاب لا يخلق بالضرورة فراغًا، والمشاركة لا تملؤه في كل الأحوال. فالانسحاب الاحتجاجي لا يخلو من امتلاء، والمشاركة السلبية لا تخلو من فراغ. وتكون العبرة في الحالتين بأمرين أساسيين، النتائج المترتبة على أي من السلوكين السياسيين هذين، وإدراك الناس لهما، وتعاملهم معهما.

ومع هذه الاستثناءات التي قد لا تعدو كونها أحيانًا محض استنتاج بعيد المدى، فإن المخرجات المباشرة للانسحاب السياسي يترتب عليها فراغ سياسي، فكل من يخلع وجوده من السياسة يترك خلفه مكانًا لا يشغله غيره، مهما كان نوع النظام السياسي القائم، ديمقراطيًا كان أو مستبدًا.

الاستبداد لا يملأ الفراغ

في ظل الديمقراطيات العتيدة تتأثر نتائج الانتخابات والاستفتاءات بنسب المشاركة، وكثيرًا ما أدى الفراغ الذي تركه العازفون عنها، إلى تغيير في النتائج، التي أتت مخالفة لاستطلاعات الرأي، لأن قطاعًا ممن أُخذت آراؤهم لم يذهبوا إلى التصويت.

وفي النظم المستبدة يمكن للسلطة السياسية سد مثل هذا الفراغ خلال الانتخابات بتسويد بطاقات التصويت لصالح مرشحين موالين لها، وتحديد النتائج سلفًا، أو وضع مقدمات لعملية الاقتراع تقود إلى ما يريده من بيدهم القرار، لكن هذا لا يمكنه أن ينهي الفراغ الذي يتسع في إدراك الناس حيال شرعية السلطة ومشروعيتها، أو حيال الثقة فيها، وفي الاقتناع بأنها تؤدي الأدوار المنوطة بها.

وقد يكون الانسحاب من السياسة مسألة مؤقتة عند البعض في وجه العسف والبطش، وهنا يقاوم صاحبه كل فراغ يترتب على ابتعاده عن المجال العام، من خلال حرصه على أن يظل منشغلًا، عن بعد، بالقضايا العامة. وهذا في حد ذاته قد يكون امتلاءً سياسيًا محتملًا. فبعض هؤلاء المنسحبين يبقون على أهبة الاستعداد للانخراط بقوة في العملية السياسية حين تزول الظروف القاهرة التي تحرمهم من هذا.

لكن إن جاء الانسحاب من السياسة دائمًا بالنسبة للبعض، فإنه يخلق فراغًا، من دون شك، يملؤه المستفيدون من تخاذل الناس أو تقوقعهم أو اكتفائهم بشؤونهم الخاصة، بكل ما يعزز قوة هؤلاء المستفيدين ونفوذهم ويضمن استمرارهم في سدة الحكم، إن لم تكن هناك قواعد مستقرة لتبادل السلطة، أو توافق ورضا شعبي عام يعطي الحكم لعائلة أو أسرة أو زعيم كاريزمي عن طيب خاطر، على الأقل عند الأغلبية من الشعب.

لا بديل عن الجماهير

قد يحدث الانسحاب الأكبر حين تنفصل القاعدة الشعبية عن النخبة، أو الطليعة الثورية، في وقت الانتفاضات والثورات. فلا يمكن أن يحدث التغيير الفارق إلا إذا التحمت القاعدة الشعبية بالطليعة أو النخبة السياسية، ثورية كانت أو إصلاحية. فمن يطلب تغييرًا يوجه طلبه إلى الناس، وبهم وحدهم تتعزز قدرته على الوصول إلى ما يصبو إليه. ووقت الالتحام هذا نكون أمام حالة "امتلاء سياسي" ظاهرة، وحين يضيع هذا الوقت، لأي سببٍ كان، نعود إلى مساحة من "الفراغ السياسي".

ومن أهم الأسباب التي تؤدي إلى انقضاء وقت الالتحام سريعًا تلك الخطط التي يتبناها رافضو الإصلاح السياسي، والقوى المضادة للثورات أو التغييرات الفجائية العميقة الواسعة، حيث يعمدون ويعملون على فصل الطليعة عن الجمهور المحيط، وبهذا يتسنى لهم تحقيق هدفهم في تثبيط همم مركز القوى المطالبة بالتغيير، حين يجد أفرادها أنفسهم منعزلين، بلا مدد، ولا تشجيع، ولا حافز، فيبدون في هذا كأنهم سمك أخرجوه من الماء الغزير، وألقوا به فوق رمل تسطع فوقه شمس صيف حار.

ولا شك أن هذا الفصل بين الطرفين يعني في بساطة خلق مساحة فارغة أولًا، ثم ردمها بالدعايات الفجة والشكايات المبرحة. لكن يبقى أن صناعة الفراغ هنا متعمدة، ولا ينقص من هذا أن صانعيها يقدرون مساحة الفراغ، ويعرفون كيف ومتى يملؤونها.

يزيد اعتماد هذا التخطيط في أيام ما بعد الثورات الشعبية، التي تستمد زخمها من حضور الناس في المشهد، كفاعلين ومؤثرين وقادرين على تحريك الحدث وتغيير دفته إلى حين. وتدرك القوى المضادة للثورة أن هذا الحضور هو حائط الصد الأساسي الذي يحول بينها وتفريغ الثورة من مضمونها، ثم إفشالها، وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل قيامها، أو إلى ما هو أدنى من هذا كثيرًا.

إزاحة القوى الشعبية من المشهد يخلق فراغًا واسعًا، لأنها تكون القوة الفاعلة في لحظة الثورات الجماهيرية، وهي التي تملأ المجال السياسي برمته، ويعتقد من ينخرطون فيها، وأولئك الذين يعولون عليها، أن ما تحققه من امتلاء، يكفي لنفي أي نقص أو فراغ عن أي شيء، لكن حين تتم إزاحتها لسبب أو لآخر، تترك وراءها فراغًا، لا يمكن لفرد أو جماعة أو تنظيم أن يملؤه ساعتها، لا سيما إن لم تفوض الجماهير أحدًا يتحدث باسمها، أو لم تصنع بديلًا سياسيًا حقيقيًا عن النظام الذي أسقطته.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.