مع بداية العقد الثاني من الألفية بدت الديمقراطية منتصرة انتصارًا نهائيًا في إفريقيا. أتت الرياح بما اشتهت سفن الناتو والقوى الغربية؛ سقط نظام العقيد القذافي في ليبيا أكتوبر/تشرين الأول 2011. غير أن الحكمة التقليدية أظهرت أنك لا تستطيع ادعاء الانتصار؛ طالما لا تستطيع توقع نتائج أفعالك.
كان سقوط نظام القذافي بمثابة حبل تمده النظم الغربية ليخنق مصالحها في القارة الإفريقية، وكانت هذه هي المفارقة التي فشلت مراكز التفكير والمخابرات في التنبؤ بها، فحتى النظم المارقة تُمارس دورًا في استقرار البيئة الدولية.
على عكس الشائع، فإن أزمة الانقلابات الإفريقية بدأت مع أوائل 2012. كان تسرب أسلحة نظام القذافي إلى إقليم الساحل أكبر من قدرة النظم الهشة على التحمل، وبدأت آثار ذلك التداعي في الظهور سريعًا.
في مارس/آذار 2012، أدى الوضع الأمني المتدهور في مالي إلى أول انقلاب عسكري على الرئيس المنتخب أمادو توريه، لتبدأ موجة الانقلابات التي ستؤدي إلى تسمية الإقليم لاحقا بـ"حزام الانقلابات" على غرار حزام الزلازل.
هذه الموجة بدأت في مالي 2012، 2020 و2021، وغينيا، وتشاد، والسودان في 2021، وانقلابين في بوركينا فاسو في 2022، وفي النيجر في يوليو/تموز الماضي، وأخيرًا في الجابون في أغسطس/آب 2023.
يبدو أن إفريقيا تعود سيرتها الأولى وتنهار أحلام الديمقراطية؛ في مقابل صعود تاريخي لنظرية الرجل القوي، الذي سيملأ الأرض الإفريقية عدلًا بعدما أنهكها الفقر والصراع والفساد.
خرجت الجماهير في أكثر من بلد إفريقي مُرحبة بالانقلابات، ومُشككة في جدوى الديمقراطية. فما الذي جعل إفريقيا تعود بآلة الزمن إلى سيرتها الأولى؛ بعد عقد صعدت فيه الديمقراطية على حساب السلطوية؟
لماذا عادت الفاشية؟
لعبت عوامل عدة دورًا في تراجع الديمقراطية وصعود الاتجاهات الفاشية والانقلابية في إفريقيا؛ نذكر منها ثلاثة عوامل داخلية، وعاملًا خارجيًا.
أول هذه العوامل هو افتقاد الحكم للشرعية؛ بسبب عدم قدرته على الإنجاز، وفشلت الحكومات الإفريقية في تحسين حياة المواطنين، ما جعل شرعيتها أكثر هشاشة. وزادت حدة الأزمة الاقتصادية في إقليم الساحل وغرب إفريقيا بعد جائحة كورونا، والحرب الروسية- الأوكرانية، التي رفعت أسعار الحبوب والمواد الغذائية على نحو غير مسبوق.
وتُشير التقديرات الآن إلى أن عدد الأشخاص الذين يعانون من الفقر المدقع في إفريقيا قد تجاوز 430 مليون شخص. في الوقت الذي يبلغ متوسط أعمار أبنائها 18.8 سنة. مما يجعل إفريقيا قارة شابة يزيد فيها التنافس على التوظيف والموارد.
الديمقراطية التي ظهرت كأحد أدوات المحاسبة والتوازن، تحولت لأداة لدعم الفساد
أما العامل الثاني فيتعلق بأن الديمقراطية -باعتبارها أداة لإدارة الصراع وتحويله لتنافس سلمي على السياسات المتغيرة، وليس حول الانتماءات العرقية أو الإثنية الجامدة- ظهرت في إفريقيا كممارسة عرقية عاجزة عن تغيير بنية المجتمع القائم على الانتماءات الأولية.
في حالات مختلفة لعب الانتماء العرقي دورًا حاسمًا في توجيه الناخبين. كما أن الصراعات العرقية كانت أرضًا خصبة لانتشار العنف المسلح في أكثر من بلد، مما قوّض من قدرة الحكومات المنتخبة على تقديم الخدمات العامة.
وأحيانًا أدى الصراع الإثني لاستعانة الحكومات بميليشيا عرقية للقضاء على التمرد، ولتأمين دعم سياسي، كما في حالتي مالي والسودان.
جاء عجز الديمقراطية الناشئة في إفريقيا عن محاربة الفساد، بل تقديم الحماية له أحيانًا، ليضيف عاملًا ثالثًا أدى في النهاية إلى تراجع الديمقراطية.
فوفقًا لاستطلاع رأي أُجري في 19 دولة إفريقية، قال 6 من كل 10 مشاركين إن الفساد يزيد في بلادهم، ما يعني أن الديمقراطية، التي ظهرت كأحد أدوات المحاسبة والتوازن، تحولت لأداة لدعم الفساد؛ خاصة إذا كان مرتبطًا بالمحاباة السياسية، التي يمارسها المسؤولون لضمان ولاء الزعماء المحليين.
تنوعت مظاهر الفساد السياسي للقادة أنفسهم، وامتد ذلك إلى تغيير قواعد تداول السلطة لإطالة أمد الحكم، وهو ما أفقد المعارضين فُرص التغيير السلمي. وأُطيح بالرئيس الغيني ألفا كوندي، أول رئيس منتخب في البلاد، وذلك بعدما أقر دستورًا جديدًا يسمح له بالترشح إلى ما لا نهاية.
وفي الجابون، استخدمت عائلة الرئيس علي بونجو الدستور والانتخابات المزورة لتعزيز سيطرتها على الحكم، حتى أن الرئيس المنقلب عليه، أُصيب بجلطة أسفرت عن إصابته بشلل جزئي، لكنه رغم ذلك تمسك بالسلطة وأجرى انتخابات مشكوك في نزاهتها، مما أكسب الانقلاب عليه شعبية كبيرة.
تبدو الديمقراطية في إفريقيا كمن يفترس نفسه من الداخل.
شعر الرأي العام الإفريقي أن قضايا "الرجل الأبيض" هي الأولى بالرعاية في أروقة الحكومات الغربية
إلى جانب العوامل الثلاثة الداخلية، هناك عامل رابع يتعلق بدور الغرب، الذي يبدو أنه يخسر حرب الروايات. ظهرت إفريقيا كساحة خلفية للصراع بين روسيا والصين من ناحية، والغرب من ناحية أخرى. فبينما قدم الغرب الديمقراطية كنظام معقد يحتاج مؤسسات متطورة، قدمت روسيا نموذجًا بديلًا قائمًا على حكم الرجل القوي.
ورغم أن مشروع روسيا استغلالي؛ قائم على نهب الثروات التعدينية، مقابل خدمات أمنية وحماية للنظم الانقلابية الموالية، إلا أن موسكو استطاعت خلق صورة إيجابية لها في إفريقيا.
في الوقت الذي تصاعدت فيه المشاعر المعادية لفرنسا والغرب عام 2021، تأسست شبكة مجهولة المصدر ناطقة بالفرنسية على منصات السوشيال ميديا باسم روسوسفير، تستهدف الدعاية لروسيا، وتقديمها كصديقة لإفريقيا. بتتبع مصدر الشبكة اتضح أن وراء تأسيسها شخص بلجيكي موال لروسيا يدعى لوك ميشيل.
خسر الغرب حرب الروايات تمامًا بعد الحرب الروسية على أوكرانيا. تلك الحرب أظهرت اهتمامًا غربيًا كبيرًا وحملة إعلامية وسياسية ضخمة لدعم أوكرانيا، وهو الاهتمام الذي لم يكن حاضرًا بالقوة نفسها في القضايا الإفريقية وقضايا دول العالم الثالث.
شعر الرأي العام الإفريقي أن قضايا "الرجل الأبيض"، هي الأولى بالرعاية في أروقة الحكومات الغربية.
هل تنجح الانقلابات؟
تظهر الديمقراطية في حالة تراجع حقيقي؛ ربما يستمر لبعض الوقت. لكن هل يستمر التراجع وتحقق الانقلابات وعودها؟ هل فعلا إفريقيا تتحرر كما تستخلص الدعاية الفاشية؟ الإجابة السهلة المباشرة هي لا.
هذه ليست إجابة قائمة على التنبؤ أو التفكير بالتمني؛ لكنها إجابة مختصرة قائمة على مراجعة سجل إنجازات الانقلابات الأخيرة.
في مالي زادت الخسائر في صفوف المدنيين بعد الانقلاب بنسبة 270%. وفي بوركينا فاسو خسر الانقلاب مزيدًا من الأراضي، بعدما فقد 40% من مساحة البلاد تحت سيطرة المتمردين. كما زادت عمليات نهب الموارد الإفريقية على نحو منتظم مع تغيير الدولة المستفيدة، إذ أقامت روسيا مشروعها في القارة السمراء على دعم ميليشيات ونُظم موالية تساعدها في الاستغلال المنظم للموارد.
بشكل عام، فإن الانقلابات تعجز عن تحقيق وعودها على المدى البعيد، وتزداد الأمور تعقيدًا كلما بقي "الرجال الأقوياء" في الحكم لفترات طويلة، بعد تدمير كل وسائل المحاسبة ومراقبة السلطة.
الديمقراطية منتج إنساني في النهاية، وليست منتجًا حصريًا للغرب. تهدف لضمان أكبر قدر من رشادة الحكم مع بقائه تحت المراقبة والمحاسبة، وتقع في أخطاء تُطورها الممارسةُ. ورغم كل مشاكلها، تحقق الديمقراطيات الإفريقية مستويات أعلى من التنمية وتقديم الخدمات العامة. وأزمتها الحقيقية هي محاولات تقويضها من داخلها أو من خارجها.