أثار اللقاء المُبهم الذي عقده الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، بقائد الجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان في مطار شانون الأيرلندي، السبت الماضي، تساؤلات عديدة حول المغزى السياسي للمباحثات العابرة، بعد أيام من مشاركة رئيس مجلس السيادة السوداني في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، رغم اتهام المنظمة الدولية السلطة الحالية بالانقلاب على الحكومة المدنية، في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2021.
في مقابل هذا التقارب بين قائد الجيش وأوكرانيا المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، يوجد تعاون راسخ بين روسيا وقوات الدعم السريع، التي لها صلات قوية وقديمة بمجموعة فاجنر تتعلق بمشروعات التعدين، فضلًا عما يتداول من معلومات حول دعمها العسكري للقوات التي يقودها الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي).
وقال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إنه بحث مع رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان "أنشطة الجماعات المسلحة غير الشرعية التي تمولها روسيا"، في إشارة إلى مجموعات فاجنر.
حرب بالوكالة
وبحسب تقرير نشره "المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات"، في شهر مايو/أيار الماضي، تتزايد المخاوف من أن يكون السودان الآن ساحة لـ"حرب باردة" بالوكالة بين الولايات المتحدة وروسيا، حيث يُوسع الكرملين نفوذه غربًا، في الوقت الذي وسع فيه الناتو نفوذه شرقًا مع انضمام فنلندا إلى الحلف.
وبات جليًا في الآونة الأخيرة المساعي المشتركة للغرب وروسيا لكسب دوائر تأثير جديدة في إفريقيا، ومنها السودان بطبيعة الحال، ما تَعزز بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب الروسية-الأوكرانية.
وهو ما أكده الباحث والمحلل السياسي السوداني محمد تورشين في حديثه لـ المنصة، قائلًا إن "السودان مجال حيوي للصراع بين الغرب وروسيا، يظهر من وقوف موسكو مع قوات الدعم السريع، إضافة إلى بعض المؤشرات الأخيرة على وجود دعم غربي للحكومة السودانية بقيادة البرهان، بينها مشاركة طائرات مسيرة أوكرانية في الحرب، ما يُسهم في تنامي حدة الصراع".
وأشار تورشين إلى أن ذلك سيكون له انعكاساته الواضحة على تقديم دعم مباشر لطرفي الصراع، من خلال توفير حاضنة سياسية ودعم وعسكري واستخباراتي، ما يُعقد الأزمة السودانية على نحو أكبر وقد يدفع لإطالة أمدها.
تتعاون أوكرانيا مع السودان في مجال التصنيع الحربي منذ عدة سنوات
وأضاف المحلل السياسي "ما يحدث في السودان الآن، تكرر من قبل في الصراعات الدائرة في ليبيا وسوريا واليمن ولم يُفضِ ذلك لوقفها"، مشيرًا إلى أنه قد لا يكون هناك مشاركة عسكرية مباشرة من جانب أوكرانيا أو روسيا، لكن التنسيق والدعم المستمر لتحقيق المصالح الاستراتيجية لكلا البلدين في السودان سيبقى حاضرًا وبقوة.
ويرى تورشين، أنه من المتوقع أن توفر أوكرانيا التقنيات العسكرية والطائرات المُسيرة، وتُرسل فريقًا صغيرًا من الفنيين والهندسيين لتدريب العسكريين السودانيين على التحكم فيها، "لكن لا يمكن القول بأنها ستنخرط بثقلها العسكري في الحرب مع حاجتها لتحرير أراضيها، وكذلك الوضع بالنسبة لروسيا التي ستكتفي بتوجيه قوات فاجنر للقيام بعمليات محددة"، بحسب المحلل السوداني.
علاقات قديمة
بدأ دعم روسيا للسودان بشكل رسمي معلن في زيارة الرئيس الأسبق عمر البشير لموسكو أواخر عام 2017، والتي كان هدفها إيجاد يد حامية من الأعمال العدوانية للولايات المتحدة ضدها.
كما يوضح الخبير الاستراتيجي السوداني، اللواء أمين إسماعيل مجذوب، في حديثه لـ المنصة، أن هذه العلاقة والتي وصفها بالقديمة، تضمنت تدريب روسيا لعناصر بقيادة محمد حمدان دقلو، ويُضيف "في المقابل تعاونت أوكرانيا أيضًا مع السودان في مجال التصنيع الحربي منذ عدة سنوات، ودعمت الجيش السوداني ضد قوات الدعم السريع من منطق "صديق العدو هو بالأساس عدو".
استمرت العلاقة العسكرية بين الجيش السوداني وأوكرانيا، حيث "أن فنيين أوكرانيين وصلوا السودان مؤخرًا لتدريب العسكريين على كيفية استخدام الطائرات المُسيرة الأوكرانية والتركية، التي يستخدمها الجيش حاليًا في ضرب تمركزات قوات الدعم السريع بالمناطق المدنية، وإن لم تشارك القوات الأوكرانية مباشرة في الحرب فهي تشرف على استخدام تلك الطائرات"، بحسب الخبير الاستراتيجي السوادني.
يستبعد مجذوب أن يتحول السودان لساحة صراع مباشر بين الغرب وروسيا، مؤكدًا على أن السودان يرفض أن يكون طرفًا في الحرب الدائرة بأوكرانيا، لكن في الوقت ذاته يرى أن التنافس بين الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، وبين روسيا سيكون له أثر على المعارك الدائرة في السودان.
وهو ما يؤيده الدبلوماسي السابق بالخارجية السودانية، السفير علي يوسف، والذي يرى أن لقاء البرهان وزيلينسكي "ليس له أهمية كبيرة على أرض الواقع"، مقارنة بالعلاقات السودانية الروسية، مدللًا على ذلك بأن الحكومة الحالية تحاول أن يكون لديها سياسة متوازنة مع جميع الأطراف، ما يدعم حظوظها في الحصول على دعم يساعدها على إنهاء "تمرد" قوات الدعم السريع.
يُمثل السودان حلقة استراتيجية مهمة تربط بين منطقتي شرق إفريقيا والساحل والصحراء
وعلى الرغم من تداول تقارير غربية أخبارًا عن نقل مجموعة فاجنر أنظمة صاروخية أرض- جو لقوات الدعم السريع، بشكل قد يسفر عن تعزيز قدراتها بشكل ملحوظ. إلا أن مجذوب يستبعد توجيه روسيا لقوات فاجنر بالانخراط مباشرة في الحرب، ويضيف "في تلك الحالة قد تكون معارك السودان بؤرة استنزاف جديدة لروسيا في إفريقيا، حيث سيعمل الغرب على إطالة أمد الصراع"، داعيًا دول الجوار للتدخل لوقف الحرب الحالية بسرعة، حتى لا تتحول لصراع نفوذ بين أمريكا وروسيا.
وكشف مجذوب، وهو أحد الخبراء القريبين من تطورات المعارك العسكرية على الأرض، أن قوات فاجنر أمدت الدعم السريع بصواريخ مضادة للطائرات ماركة "تورنادو" الروسية، وأن الدعم اللوجستي استمر طيلة الأشهر الثلاث الأولى من الحرب قبل أن تسوء علاقة قائد مجموعة فاجنر السابق يفجيني بريجوجين، بالحكومة الروسية ليتراجع الدعم على نحو كبير بعد مقتله الشهر الماضي.
وفي بداية الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، قال وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، إنه "يحق للسودان الاستفادة من الخدمات الأمنية لمجموعة فاجنر"، وهو ما عزز في ذلك الحين الاتهامات الغربية لروسيا بتوظيف المليشيات التابعة لها في عمليات تهريب الذهب، وتقديم الدعم العسكري لأطراف منخرطة في الصراع.
حرب في مقابل حرب
ويمثل السودان حلقة استراتيجية مهمة تربط بين منطقتي شرق إفريقيا والساحل والصحراء، وهو ما يضاعف من احتمالات توسع الاشتباكات وامتدادها لمستويات إقليمية ودولية مع الأهمية الجيوستراتيجية التي يحظى بها، ورغم أن القوى الدولية لديها رغبة معلنة في أن تبقى الأزمة في إطارها الداخلي، إلا أن السفير علي يوسف، أكد أن نقاط الاتصال الخارجية لديها تأثير قوي على الحرب التي تجري في السودان الآن.
وأضاف يوسف في حديثه لـ المنصة، أن "الحرب التي تدور الآن ذات أبعاد داخلية بالأساس، لكن لها أبعاد خارجية قوية للغاية، على المستويين الإقليمي أو الدولي، خاصة الحرب الموازية بين روسيا وأوكرانيا، التي هي في الواقع بين روسيا من جانب والغرب المساند لأوكرانيا من الجانب الآخر".
يستهدف الغرب بقيادة الولايات المتحدة حصار التمدد الروسي في إفريقيا، وهو ما يواجه بقوة العلاقة بين مجموعة فاجنر الروسية وقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وما يترتب عليه من تنسيق حول أدوار المجموعة الروسية في إفريقيا الوسطى وتشاد وليبيا، في مقابل دور الغرب في الصراعات القائمة.
يوضح السفير علي يوسف "ما يزعج الغرب أن السودان (وفي القلب منه قوات الجيش)، يحافظ على علاقات قوية مع روسيا، استمرت في التحسن حتى بعد اندلاع الحرب".
وكان رئيس مجلس السيادة السوداني، مالك عقار زار موسكو في 30 يونيو/حزيران الماضي، مؤكدًا أن "روسيا يمكنها أن تقدم مساهمة كبيرة في تسوية الصراع في السودان"، كما التقى رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان وزير الخارجية الروسي على هامش مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، وتضمن اللقاء إشادة من جانب البرهان بدور روسيا المساعد للسودان واستقراره.
تتطلع روسيا لبناء قاعدة في الساحل السوداني المطل على البحر الأحمر لزيادة تأثيرها في القرن الإفريقي
وبرر الدبلوماسي السوادني تواجد فنيين أوكرانيين، بأن الأسلحة التي اشتراها السودان من أوكرانيا خلال حكم الرئيس الأسبق عمر البشير تتطلب تنسيقًا مشتركًا للاستفادة من خبرات التشغيل والصيانة، وأن الحكومة الروسية تتفهم ذلك.
ويؤكد السفير علي يوسف أن التقاطع الأكبر في الصراع السوادني بين الغرب وروسيا يتمثل في أن الولايات المتحدة ،ومن خلفها القوى الغربية تحاول أن تكون الجبهة ذات السيطرة الأكبر على الأراضي السودانية أو على شاطئ البحر الأحمر السوداني، وكذلك في المحيط الاستراتيجي في إفريقيا.
ولن يتم ذلك سوى بمواجهة النفوذ الروسي في القارة السمراء، حسب خطة أمريكية أبرز محاورها تضييق الخناق على النفوذ الروسي الصيني.
تتطلع روسيا لزيادة التواجد العسكري لها في إفريقيا الوسطى المجاورة للسودان، وإلى بناء قاعدة في الساحل السوداني المطل على البحر الأحمر لزيادة تأثيرها في القرن الإفريقي وتوسيع حضورها في مضيق باب المندب.
من جانبها تخشى الولايات المتحدة الأمريكية من تزايد النفوذ الروسي أو الصيني في السودان، مع احتمالية لسيطرة تهدد مصالحها في المنطقة، تدفعها إلى إعادة تقييم موقفها في السوادن، لهذا السبب زاره مسؤولون عسكريون أمريكيون كبار خلال الأشهر التي سبقت اندلاع الحرب.
ومنذ اندلاع الحرب في السودان قُتل نحو 7500 شخص، بينهم 435 طفلًا على الأقل بحسب البيانات الرسمية، في حصيلة يرجح أن تكون أقل بكثير من عدد الضحايا الفعلي للنزاع الذي بدأ في 15 إبريل/نيسان الماضي.