تسارعت وتيرة التطورات السياسية والعسكرية في السودان في الساعات الماضية مع انخراط الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام في الصراع الدائر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في وقت ذهب فيه الطرفان المتنازعان لمحاولة تحقيق أكبر قدر من المكاسب العسكرية على الأرض، لكن دون أن ترجح كفة طرف على الآخر، ما يشير لاستمرار "توازن الضَعف" الذي يسيطر على الجانبين منذ بدء القتال في أبريل/نيسان الماضي.
ومنذ منتصف أبريل الماضي اندلعت الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في الخرطوم قبل أن تتسع دائرتها في عدد من ولايات إقليمي دارفور وكردفان.
وأزاح قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قادة الحركات المسلحة غير الموالين له في النزاع الدائر حاليًا من عضوية مجلس السيادة الانتقالي الذي يرأسه. وأصدر، الاثنين الماضي، مرسومًا دستوريًا بإعفاء عضو المجلس الطاهر حجر، الذي يتزعم تجمع قوى تحرير السودان في دارفور، وقبلها بأسبوع تقريبًا استبعد أيضًا رئيس حركة جيش تحرير السودان الهادي إدريس يحيى، الذي يشغل كذلك منصب رئيس الجبهة الثورية الموقعة على اتفاق جوبا.
وحافظ رئيس حركة العدل والمساواة، وهي إحدى أكبر الحركات المسلحة في دارفور، جبريل إبراهيم، على منصبه وزيرًا للمالية في الحكومة المكلفة، كذلك رئيس جيش تحرير السودان، مني آركو مناوي، الذي يشغل أيضًا منصب حاكم إقليم دارفور. والاثنان أعلنا الأسبوع الماضي انحيازهما إلى الجيش السوداني ووصفا قوات الدعم السريع بـ"الميليشيا المتمردة التي تخوض حربًا مدفوعة الثمن لتمزيق البلاد".
أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها على أربع ولايات من أصل خمسة في إقليم دارفور
ويتفق سياسيون تحدثت معهم المنصة على أن الحركات المسلحة لا تمتلك الثقل الذي يرجح كفة هذا الطرف أو ذاك، غير أن انخراطها في الحرب بشكل مباشر يؤجج الاقتتال القبلي في دارفور وغيرها من الولايات، إذ أن تلك الحركات تتشكل بالأساس من قبائل إفريقية لديها حضور قوي في غرب السودان، وستكون في مواجهة قبائل عربية بعضها ينتمي إلى قوات الدعم السريع ويشكلون أيضًا جسمًا رئيسيًا في تشكيلاتها المسلحة.
انقسامات ومواقف متغيرة
تعاني الحركات المسلحة في السودان من انقسامات عدة هددت بنيتها الداخلية، ما انعكس على مواقفها من الصراع الدائر حاليًا، ولم تعد كتلة واحدة يمكن التحكم في جميع عناصرها، في ظل رؤى متعارضة لقياداتها وجيوشها المسلحة، ولم يكن مستغربًا أن تنحاز فصائل مسلحة من حركة العدل والمساواة وجيش تحرير السودان لقوات الدعم السريع، بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وكذلك الوضع بالنسبة لتجمع قوى تحرير السودان بعد أن أعلن نائب الطاهر حجر انحيازه لقوات الجيش.
وقال المتحدث باسم حكومة إقليم دارفور مصطفى الجميل، لـ المنصة، إن القائدَين اللذين استبعدهما البرهان من مجلس السيادة لم يُعلنا مباشرة انحيازهما للدعم السريع، غير أن الواقع يُشير لوجود تفاهمات بينهما، تقول إن حركات دارفور لن تكون وحدة واحدة، كما كان الوضع في الحرب التي انطلقت بالإقليم قبل عشرين عامًا.
ويتوقع الجميل، وهو أستاذ العلوم السياسية بجامعة إفريقيا بالخرطوم، أن يتخذ قائد جيش حركة تحرير السودان، جناح عبد الواحد محمد النور، والحركة الشعبية شمال، بقيادة عبد العزيز الحلو، مواقف مصطفة إلى قوات الدعم السريع حال هيمنت الأخيرة على ولاية الفاشر، عاصمة الإقليم.
وأعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها على أربع ولايات من أصل خمسة في إقليم دارفور، وسبق وأحكمت سيطرتها على مدينة زالنجي عاصمة ولاية وسط، ومدينة نيالا في الجنوب، إضافةً إلى الجنينة، عاصمة غرب دارفوب. وأخيرًا كشفت، الثلاثاء، السيطرة على الفرقة 20 مشاة الضعين التابعة للجيش بولاية شرق دارفور.
وأضاف الجميل أن الواقع يُشير إلى حالة من الحشد والحشد المقابل، بمدينة الفاشر التي تحاصرها قوات الدعم السريع، وتوجد داخلها ميليشيات حركتي العدل والمساواة، وتحرير السودان (جناح مناوي) إلى جانب قوات البرهان، ما يجعل هناك نذر لحرب أهلية عاصفة إذا اندلعت المعارك هناك، حيث تعمل قبائل الإقليم في تلك الأثناء على تسليح أبنائها استعدادًا للمعركة، وفي أي لحظة ستأخذ الحرب في السودان منحى آخر إذا أصرت قوات الدعم على اقتحام عاصمة دارفور.
يشرَح الجميل التركيبة القبلية في دارفور حاليًا، لافتًا إلى أن جزءًا من القبائل الإفريقية التي كانت داعمة للحركات المسلحة ضد السلطة المركزية في حرب 2003 أضحت الآن في صف السلطة المركزية، فيما يظل البعض مساندًا لقوات الدعم السريع، والوضع ذاته ينطبق على القبائل العربية، التي كانت موالية للجنجويد في السابق، ويدعم بعضها الآن الجيش.
سيناريو الحرب الأهلية قد يكون أقرب إذا جرى التعامل مع قوات الدعم السريع على أنها تتبع القبائل العربية
ومن المتوقع، حسب أستاذ العلوم السياسية، أن تلعب تشاد المتاخمة على الحدود مع دارفور دورًا في تغذية أو تهدئة الحرب الأهلية، وحال كانت منخرطة في النزاع بشكل مباشر فإن حكومتها وقواتها ستكون أكثر قربًا من الدعم السريع، فيما تذهب المكونات الشعبية للتحالف مع الحركات المسلحة، التي أعلنت موالاتها للبرهان.
صراع أخطر
يرى الجميل أن تعقيدات تلك التركيبة تجعل من الصراع الأهلي حال اشتعاله أشد خطورة مما كانت عليه الأوضاع في حرب 2003، ويُرجع ذلك إلى هشاشة الفكر السياسي، وأن الانتماء إلى الحركات أو الأحزاب ليس قائمًا على الأفكار بقدر الانحياز القبلي، إلى جانب انتشار السلاح بصورة أكبر، مقارنة بالحرب التي دارت مطلع الألفية الحالية.
ويعد السودان بلدًا متعدد الثقافات، نتيجة المكونات الإثنية والاجتماعية والثقافية والقبلية، تسكنه العديد من القبائل ذات الأصول العربية والإفريقية، تتوزع على امتداده الجغرافي بين مدنه وقراه المختلفة، ويبلغ عدد القبائل حوالى 570 قبلية، تنقسم إلى 57 مجموعة عرقية، على أساس الخصائص الإثنوغرافية والثقافية واللغوية، وتتحدث 114 لغة مكتوبة ومنطوقة.
صراع القبائل
"سيناريو الحرب الأهلية قد يكون قريبًا أكثر من أي وقت مضى إذا جرى التعامل مع قوات الدعم السريع على أنها ميليشيات تتبع القبائل العربية، وهو ما تعزز خلال الأيام الماضية جراء الجرائم التي ارتكبتها بحق القبائل الإفريقية في الولايات التي سيطرت عليها"، حسب الجميل.
واعتبر الجميل أن "استمرار تلك الجرائم يدفع القبائل الإفريقية لحشد قواتها لمواجهة ما تتعرض له، وما يساعد على ذلك وجود اشتباكات تندلع بين الحين والآخر بين قبائل وبعضها، أبرزها ما يدور في جنوب دارفور بين قبيلة السلامات (قبيلة عربية كبيرة الجسم الرئيسي لعناصر الدعم السريع) والبني هلبا (قبلية عربية أخرى)، ما يشير إلى أن القبائل التي كانت متحدة في السابق أضحت الآن متقاتلة".
"عشيرة المحاميد وهي ضمن قبيلة الرزيقات أكبر القبائل العربية في دارفور هي الأخرى لا تنضم بشكل كامل إلى قوات الدعم السريع جراء الخلاف السياسي بين قائدها موسى هلال، الذي يوصف بالأب الشرعي لحمدان دقلو، قبل أن ينقلب الأخير عليه ويزجه بالسجن"، حسب أستاذ العلوم السياسية، الدكتور خليفة صديق.
"وكان من الممكن القول بأن القوة القبلية الأكبر ستكون إلى جانب قوات الدعم السريع إذا لم ترتكب جرائمها بحق قبيلة المساليت وهي أيضًا في المقابل إحدى أبرز القبائل الإفريقية في السودان، التي تشكل أيضًا جسد الحركات المسلحة وانضمت إلى جانب الجيش"، يقول صديق لـ المنصة.
ويؤكد الأكاديمي السوداني أن توازن الضَعف يبقى سائدًا في السودان، لأن قوات الدعم السريع تمتلك الجزء الأكبر من الأرض، وهو ما يمكنها من فرض شروطها في التفاوض لكنها فشلت في الوقت ذاته في تقديم صورة واضحة لقدرتها على إدارة تلك المناطق أو تشكيل حكومة فيها، ما يجعلها تفقد الحاضنة الشعبية المؤيدة لها.
وأعلن الدعم السريع، الاثنين، الاستيلاء على قاعدة جبل الأولياء العسكرية جنوب الخرطوم بما في ذلك الجسر الذي يربط الخرطوم بأمدرمان، بينما لم يعلق الجيش على هذا الشأن حتى الآن.
في المقابل، فإن الجيش، رغم أنه لا يحقق انتشارًا عسكريًا، لكن تحولات المشهد الخارجي تصب لصالحه بعد الإدانات الدولية لقوات الدعم السريع إثر جرائمها في دارفور، وإقدام البرهان على إعادة بناء علاقات السودان الخارجية مع كينيا وإثيوبيا، اللتين تتقاربان مع حميدتي.
وسبق ودعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام في السودان للحفاظ على حيادها في الحرب، لمنع انزلاق البلاد في أتون حرب أهلية، مشيرًا في تقرير قدمه لمجلس الأمن الدولي، الخميس الماضي، إلى أن القلق يساوره إزاء احتدام التوترات القبلية والإثنية.
فهل تستمع تلك الحركات إلى نداء السلام أم تدخل ساحة الحرب مدججة بسلاحها ومحملة بخلافاتها العرقية، لتضيف المزيد من الوقود إلى نيران الحرب المشتعلة بالفعل؟ هذا ما ستشكفه الأيام المقبلة.