الحروب الأهلية ربما تُنشئها المظالم، لكن تبقيها المطامع.
- بول كوليير وأنكه هوفلير
على خلاف الحكمة الشائعة أو المعلومة المغلوطة المتداولة لم ينشأ الجنجويد بقرار من الرئيس السابق للسودان عمر البشير، بل كان ظهورهم المسلح بدعم من معمر القذافي ومن الصراع الكلاسيكي على الموارد الذي يشكل تاريخ السودان.
صعد القذافي للحكم في ليبيا في وقت كانت تسوء فيه العلاقات في دارفور بين القبائل العربية من تجار ورعاة الإبل والبقر أو (ما يعرف بالعرب البقارة والأبالة) والقبائل الإفريقية من المزارعين. وبدأ الوضع يتعقد بسبب اختلاف الأنشطة الاقتصادية بين الطرفين والصراع على الموارد والقوة، كذلك المجاعات التي ضربت الإقليم في الأعوام 1973 و1985 و1992.
تشكلت ميليشيا الجنجويد من عرب دارفور في الأساس في قلب الغضب العرقي والقبلي وندرة الموارد، وتحالفت مع مشاريع سياسية أنشأها العقيد القذافي لبسط السيطرة خارج ليبيا. كعادة المناطق الهامشية والحدودية في الدول الإفريقية، تقل سيطرة الدولة المركزية عليها مما يسهل التدخلات العابرة للحدود أن تشكل تنظيمات موالية لها، وهو الدور الذي لعبه القذافي في الهيكلة الأولى لهذه الميليشيا.
في السبعينيات أنشأ القذافي ما يسمى بالفيلق الإسلامي لكي يستخدمه في حروبه في إفريقيا، وفي الثمانينيات بدأ يظهر تنظيم على علاقة بذلك الفيلق في دارفور يعرف باسم "التجمع العربي" مكون من القبائل العربية في الغرب السوداني لمواجهة القبائل الإفريقية في دارفور وتشاد. وفي 1986 أكد التجمع العربي ظهوره كتجمع مطالبي له ولاءات قبلية ودولية وسياسية متشابكة، لكنه كان بداية مناسبة لإشعال صراع عرقي طويل.
الدولة تحاول احتواء القبيلة
زادت الأمور تعقيدًا بعد هزيمة القذافي في تشاد سنة 1988 وعودة مقاتلي الميليشيا المتحالفة معه بسلاحهم لدارفور ودخلوا في مواجهات مع القبائل الإفريقية مثل الفور والزغاوة والمساليت، والحركات المدافعة عنهم مثل حركة العدل والمساواة وجيش تحرير السودان.
برز في ذلك الوقت اسم موسى هلال زعيم قبيلة المحاميد، الذي كان له تاريخ في إدارة العنف المسلح ولعب دورًا كبيرًا في هيكلة الجنجويد في شكل ميليشيا أكثر تنظيمًا تعمل في دارفور وتشن هجمات وأعمالًا قتالية تصل إلى محاولة التطهير العرقي وتصفية الأعراق الإفريقية من أراضيهم التاريخية.
استغلت تلك القبائل العربية المسلحة صراعات السياسة في الخرطوم وتواصلت مع حزب الأمة وحكومة الصادق المهدي لطلب الدعم. أي أن ظهور الجنجويد سبق ظهور البشير نفسه. لكن نظام البشير هو الذي لعب الدور الأكبر في محاولة هيكلتهم ليلعبوا دورًا لصالح الدولة، ولكن كمليشيا وليس كأفراد في أجهزة الدولة الأمنية.
ضمت الدولة حميدتي وميليشياته إلى قنواتها الرسمية، لكن حميدتي أحضر القبيلة إلى الدولة
رفع نظام البشير تسليح الميليشيات وتم استبدال الخيول بعربات الدفع الرباعي وزادت المخصصات المالية وبدأ نظام البشير يستخدمهم في التسعينيات تدريجيًا. خضعت الدولة لمنطق الميليشيا، وتحركت كعصابة قبلية مسلحة. فحين تصاعد التمرد في فبراير/شباط 2003، بقيادة حركة/جيش تحرير السودان، وحركة العدل والمساواة، ردت الحكومة السودانية باستخدام الجنجويد كقوة رئيسية في حربها وتم تحويل الحرب إلى تطهير عرقي بين الطرفين. برزت الرغبة في التطهير العرقي حتى في مراسلات موسى هلال نفسه الذي دعى فيها قواته لإفراغ دارفور من القبائل الإفريقية تمامًا.
شكل موسى هلال ما يمكن أن نطلق عليه هيئة أركان موازية وقيادة ميدانية من القادة القبليين من الأبالة والبقارة، منهم محمد حمدان دقلو، الشهير بحميدتي. كان حميدتي قائد قبلي من الرزيقات حصل على تعليم محدود حتى الصف الثالث الابتدائي وفقًا لبعض المصادر، لكن صفاته الشخصية وذكاءه ومركزه القبلي البارز وقربه من عمه الشيخ جمعة دقلو، زعيم أولاد منصور أحد بطون قبيلة الرزيقات الأبالة، أكسبوه قوة ونفوذًا في قبيلته.
كان حميدتي، بحسب المعروف عنه، تاجر إبل على الحدود بين تشاد وليبيا. وكان عنصرًا رئيسيًا في قيادة الهجمات التي تشنها مجموعات الجنجويد على القرى. ونتيجة لصفاته الشخصية تمكن من تجنيد كثير من الشباب من قبيلته الرزيقات للمشاركة في الصراع العرقي.
في ذلك الوقت كانت الحكومة المركزية في الخرطوم تحاول احتواء موسى هلال وتحجيم نفوذه، الذي بدأ يتصاعد، من خلال تقوية قائد ميليشيا آخر يكون ندًا له، فاغتنم حميدتي تلك الفرصة، وحصل على المال والسلاح من الحكومة وجند مزيدًا من الشباب من قبيلته لتكوين ميليشياته التي تدين بالولاء له قبل ولائها للدولة الخاصة. في 2013 ظهرت التسمية الجديدة، الدعم السريع، في محاولة من الدولة لإضفاء طابعها الرسمي على القوات القبلية المتحالفة معها في حرب إبادة في دارفور، وأصبح حميدتي قائدًا لها.
ضمت الدولة حميدتي وميليشياته إلى قنواتها الرسمية، لكن المفارقة أن حميدتي أحضر القبيلة إلى الدولة واندمج بشروطه هو لا بشروط الحكومة المركزية، فتم تعيين شقيقه عبد الرحيم حمدان دقلو نائبًا لقائد قوات الدعم السريع، نظرًا لروابطه القبلية لا لكفاءته العسكرية أو لسابق خبراته في مناصب الدولة. كذلك فعل حميدتي مع صهره وابن عمه عبد الرحيم جمعة دقلو، الذي منحه رتبة عميد ومنصب الرجل الثالث في الترتيب القيادي للميليشيا (النظامية).
كما ظلت قاعدة تجنيد الدعم السريع أيضًا خاضعة للولاءات القبلية لعرب دارفور، ولم تتوسع كمؤسسة قومية تتسع لجميع السودانيين، مما منح تلك الميليشيا إحساسًا باستقلال وظيفي وعضوي عن القلب الصلب للدولة السودانية.
وبعبارة أخرى ظهرت الدولة كما لو كانت تخلق لنفسها قلبًا بديلًا على استعداد لتنازع السلطات مع القلب الأصلي لها. يبدو ذلك النمط من الميليشيا قنبلة موقوتة، لأنه يحسم دائمًا صراع الولاءات لصالح الانتماء القبلي لا الوطني. أطلقت بذلك الخرطوم الرصاصة الأولى لكن على قدميها.
الميليشيا تخلق شبكة نفوذ موازية
تعزز انعزال ميليشيا الدعم السريع بتدعيم استقلالها الاقتصادي. وبالغت الدولة في استرضاء الدعم السريع بهدف تحييد نيرانهم وضمان ولائهم، وكانت تلك الرصاصة الثانية التي وجهتها الدولة لقدراتها على السيطرة على هذه الميليشيا.
في 2017، سمحت الدولة لقوات الدعم السريع بتوسيع استقلالها الاقتصادي. عيّن حميدتي شقيقه عبد الرحيم لرئاسة شركة الجنيد للتعدين للسيطرة على مناجم الذهب في دارفور وعين شقيقه الآخر، القوني، لإدارة واجهات أخرى تشكل إمبراطورية اقتصادية تدعم استقلال الميليشيا عن الدولة وهي شركات GSK-IT وGSK-Contracting والجنيد للمقاولات، والركيزة الزراعية.
كان دمج ميليشيا مسلحة الرصاصة الأولى التي تطلقها الدولة السودانية على قدميها
وفرت الدولة إذًا للميليشيا البيئة الملائمة للاستقلال عنها والتمرد عليها والطمع في تحويل الموارد العامة إلى موارد لقادة الميليشيا ورجالها، فالحروب الأهلية كما أشار كولير وهوفلير، يلزمها الطمع لكي تستمر. تضاعفت النزعة الانفصالية عن الدولة لدى الدعم السريع بتعزيز علاقتها على إقامة علاقات دولية بعيدًا عن الحكومة المركزية. وأقام حميدتي علاقات منفصلة بين ميليشيات الدعم السريع وروسيا، وعمَّق علاقات مع مجموعة فاجنر الروسية.
درَّب مرتزقة فاجنر أعضاء قوات الدعم السريع وتعاونا في دعم الجنرال الليبي خليفة حفتر. وتدير المجموعتان بشكل مشترك شركة تعدين الذهب التي قامت فاجنر من خلالها بتهريب مئات الأطنان من الذهب إلى خارج السودان. كما دعم حميدتي علاقات ميليشياته مع دول خليجية وعربية لتعزيز نفوذه.
تعززت علاقات حميدتي مع السعودية والإمارات إبان حرب اليمن بعد مشاركة قواته تحت لافتة الدعم السريع، وليست القوات المسلحة الرسمية في الحرب في اليمن. وهي العلاقات التي عززها تقديم حميدتي لنفسه على أنه حليف قوي للقوى الخليجية الراغبة لتعظيم نفوذها في السودان. توافرت كل عوامل الانفجار ولم ينقصها إلا مستصغر الشرر.
الدولة أم الميليشيا؟
كان تحويل ميليشيا الجنجويد إلى "قوات الدعم السريع" هو محاولة لاحتواء القبيلة داخل الدولة. لكن دمج الدعم السريع لم يغير منطق الميليشيا، بل عززه حتى من داخل المؤسسة، فظلت قوات ذات انتماء عرقي وقبائلي شبه موحد ينتمي لقبائل عرب دارفور، وهو ما يتعارض مع منطق الدولة التي تقدم الولاء الوطني والقومي على الانتماء العرقي والقبلي.
كان دمج ميليشيا مسلحة بكامل انتماءاتها وبعقيدتها القبلية وبعلاقات السيطرة والولاءات فيها، الرصاصة الأولى التي تطلقها الدولة السودانية على قدميها. وكان منح الميليشيا الاستقلال الاقتصادي والسياسي عن الدولة بمثابة الرصاصة الثانية. فالدولة إذا لم تحتو القبيلة، بلعتها القبيلة وهو ما يحدث الآن بعد انفجار الأحداث.
وإذ كانت ثمة دروس مستفادة من السودان؛ فأهمها أن أفضل طريقة للقضاء على التمرد هو مكافحة أسبابه وليس استمالة أحد أطرافه ليحارب خصمك اليوم ويدير نيرانه ضدك غدًا. فالوحش الذي لا تستطيع ترويضه، سيلتهمك. أما الدرس الثاني، فهو أن الدولة لا تدار بمنطق الميليشيا، وإن حدث ذلك فحتما ستنهار وتنتصر الميليشيا.