تتفاعل القوى المدنية السودانية الموجودة في القاهرة مع التطورات العسكرية والسياسية السريعة التي يشهدها السودان، وهو ما جعل لقاءنا مع السياسي السوداني كمال بولاد فرصةً للتعرف عن قرب على تفاصيل مواقف القوى السياسية من طرفي الصراع، المتمثلين في الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
كان مقررًا أن نلتقي بولاد، عضو المكتب التنفيذي لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية في السودان "تقدم"، في القاهرة خلال يناير/كانون الثاني الماضي، غير أن مشاركته في اجتماعات تعقدها القوى المدنية السودانية في محافظات مختلفة قاد لأن يكون الحوار عبر واتساب، إذ مكث القيادي السوداني خارج العاصمة المصرية للمشاركة في النقاشات التي تدور حول سبل الوصول لاتفاق يدفع الطرفين المتناحرين لإلقاء السلاح والعودة إلى مسارات التحول الديمقراطي.
نفى بولاد في حواره مع المنصة الاتهامات الموجهة لقوى الحرية والتغيير بأنها أقرب لقوات الدعم السريع، واصفًا إياها بـ"الافتراءات"، وأنها جزء من دعاية إعلامية يمارسها دعاة الحرب.
بولاد، الذي يشغل أيضًا منصب الأمين السياسي لحزب البعث القومي السوداني، نفى التقارب مع الدعم السريع "كل من قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقائد الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، انقلبا معًا على الحكومة المدنية التي شكلتها قوى الحرية والتغيير بعد الثورة".
وتابع "لذلك لم تكن قوى الحرية والتغيير كتحالف أو مؤسسة في أي وقت مع أي طرف منهم، بل سعت بجدية لعدم وقوع الحرب والآن تسعى لإيقافها".
لكن مالك عقار نائب رئيس مجلس السيادة، قال بعدما وقّعت تنسيقية "تقدم" إعلانًا سياسيًا مع قوات الدعم السريع، الشهر الماضي، إنه "اتفاق بين شركاء، وإن تحالف تقدم يمثل الحاضنة المعروفة للدعم السريع ويدعمها".
لقاء "الدعم" و"التنسيقية"
عن لقاء قائد الدعم السريع بوفد "تقدم" في إثيوبيا، قال السياسي السوداني كمال بولاد "ما ظهر من شكليات في اللقاء كان في اعتقادي بغرض انتزاع وعد من حميدتي بالعمل على إيقاف الحرب ونزيف الدم السوداني، وأن تكتمل الحلقة بلقاء قائد الجيش والتوافق على حل سوداني للأزمة".
لكنه في الوقت ذاته استبعد عقد لقاء مماثل مع البرهان قريبًا بسبب تصعيد الخارجية السودانية، خاصة بعد تجميد السودان عضويته في منظمة "إيجاد".
"موقف الخارجية السودانية يدعم استمرار الحرب، بينما كان الأمل في أن تلعب إيجاد دورًا إقليميًا مطلوبًا لإيقافها، تحديدًا بعدما طلب البرهان تدخلها"، حسبما يرى بولاد، مشيرًا إلى أن "الدور المخرب لوزارة الخارجية يباعد الشقة بين البرهان وحميدتي من جهة، والوسطاء الذين يسعون لوقف الحرب من جهة أخرى".
ومن بين هؤلاء الوسطاء برزت البحرين مؤخرًا، إذ قالت رويترز إن البلد الخليجي استضاف ثلاثة اجتماعات في يناير/كانون الأول بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في محاولة لوقف إطلاق النار والتوصل إلى اتفاق سياسي لإنهاء الحرب.
يؤمن بولاد بأنه لا يوجد طرفٌ يمكنه الانتصار منفردًا في هذه الحرب
وقبل أن يعلن البرهان تجميد عضوية السودان في "إيجاد" في 20 يناير الماضي، أعلنت تنسيقية "تقدم" في 16 من الشهر نفسه، أنها تلقت موافقة قائد الجيش على عقد لقاء مع التحالف الذي يرأسه رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، لبحث وقف الحرب، لكن دون أن يحدث أي تطور يذكر حتى الآن.
ودعا البيان الختامي لقمة "إيجاد" التي انعقدت في أوغندا، 18 يناير، لعقد لقاء مباشر بين البرهان وحميدتي خلال أسبوعين، وهو ما رحب به تحالف قوى "الحرية والتغيير"، كما عبر عن أسفه لمقاطعة قائد الجيش لأعمال القمة.
من ينتصر؟
يؤمن بولاد أيضًا بأن "ليس من طرف يمكنه الانتصار منفردًا في هذه الحرب، أو فرض شيء على إرادة الشعب، بعدما أنجز ثلاث ثورات عظيمة هدفت للوصول إلى الحكم المدني في مراحل تاريخية مختلفة"، وأن "أهم ما حفرته تجارب ثورة ديسمبر في عام 2018 هو أهمية الحكم المدني".
لكنه في الوقت ذاته يعترف بأن القوى المدنية لديها من "البطء المدهش" خلال شهور الحرب ما قاد لعدم قدرتها على إعادة بناء مركزها الموحَّد، "بما يساهم في إعلاء قيمة صوتها الساعي لوقف الحرب في مقابل أصوات الرصاص التي لا تتوقف"، مشيرًا إلى أن تنسيقية تقدم "تواجه تحديات عدة، على رأسها تعنت أطراف الصراع العسكري والانقسامات بين القوى الوطنية".
لا تزال أطراف فاعلة بعيدة عن تنسيقية تقدم
ويرى بولاد أن القوى المدنية "سيكون عليها تقديم مزيد من التنازلات بغرض التوحد لمواجهة طرفي الصراع، سعيًا لوقف الحرب والتوافق على الانتقال وفق ميثاق يعبر عن روح ثورة ديسمبر، على أن تلعب القوى السياسية والمدنية الوطنية حتى خارج تنسيقية تقدم دورها المطلوب في مواجهة الأجندات الخارجية، قبل فوات الأوان".
ولا تزال أطراف فاعلة تحالفت للإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير بعيدة عن تنسيقية "تقدم"، في مقدمتها الحزب الشيوعي وأحزاب الكتلة الديمقراطية داخل قوى الحرية والتغيير، التي تقف على مسافة قريبة من الجيش وبعض الحركات المسلحة، وكذلك جزء مهم من المجتمع المدني السوداني ممثلًا في غالبية النقابات المهنية وقطاع واسع من لجان المقاومة التي لديها مواقف متباعدة مع قوى الحرية والتغيير.
لملمة الشتات
ولدى بولاد، الذي عانى بطش نظام البشير أثناء وجوده في السلطة، قناعة بأن الانقسامات أضحت سمة سائدة لدى القوى السياسية السودانية، وهو ما انعكس على مواقف الأحزاب، سواء الانسحاب من التحالف الأكبر (الحرية والتغيير) أو البقاء داخله.
وشدد على أن "الجهد في الوقت الحالي بعد تكوين المكتب التنفيذي لتنسيقية تقدم يتركز بالأساس على التحضير الجيد للمؤتمر التأسيسي للتنسيقية، من خلال متابعة العمل السياسي اليومي والنقاش مع القوى الوطنية والسياسية والمدنية، بما فيها الحزب الشيوعي وتنسيقيات لجان المقاومة، للتفاهم حول إمكانية مشاركتهم في المؤتمر التأسيسي".
غير أن بولاد يرى أن ذلك العمل "يواجه صعوبات وتحديات تفرضها تعقيدات الحرب، وعدم وضوح الرؤية حيال العودة مرة أخرى لمسار الانتقال الديمقراطي، وفق عملية سياسية متوافق عليها، وأن الأيام المقبلة يمكن أن تحمل إجابات أوضح حول ما تمخضت عنه تحركات توسيع قاعدة التنسيقية".
ينتظر بولاد تحقيق الوعود التي قطعتها حركتان مسلحتان غير منضويتين في اتفاق جوبا للسلام للقاء "تقدم"، وهما الحركة الشعبية، شمال، جناح عبدالعزيز الحلو، وحركة جيش تحرير السودان، جناح عبد الواحد محمد النور، إذ إن "لهاتين الحركتين ثقلًا سياسيًّا وعسكريًّا مهمًا في دارفور وجبال النوبة، يمكنهما من المساهمة في وقف الحرب".
وفي الوقت ذاته لم يُخف بولاد مخاوفه بشأن تعارض مواقف هاتين الحركتين تجاه مسارات ما بعد الحرب، وهو ما جعله يؤكد على أنه "حتى إذا وصلت هذه الحوارات مرحلة التنسيق فقط فهو مكسب لسودان الغد السلمي، ونأمل أن يتطور الحوار معهما إلى أبعد من ذلك".
وخلَّفت المعارك المستعرة في السودان منذ 15 أبريل/نيسان 2023 أكثر من 12 ألف قتيل حسب مركز ACLED، لكن لجنة خبراء مكلّفة من مجلس الأمن الدولي بمهمّة مراقبة تطبيق العقوبات المفروضة على السودان قالت في تقرير إنّه "بحسب مصادر استخباراتية، فقد قُتل ما بين 10 آلاف و15 ألف شخص في الجُنينة عاصمة غرب دارفور وحدها".
ووفق الأمم المتحدة سيحتاج 24.8 مليون شخص إلى مساعدات إنسانية عاجلة في عام 2024، فيما لا يتجاوز حجم التمويل العالمي للأزمة 40% مما دعت إليه خطة الاستجابة الإنسانية (في نهاية عام 2023).
يقول بولاد عما آلت إليه الأوضاع في بلاده "بكل أسف الحرب تتمدد مع صبيحة كل يوم نتيجة غياب الإرادة الكافية لإيقافها، وإصرار الطرفين المستمر على إعلاء صوت الرصاص، والمؤسف أنه مع توسع الحرب تتجدد سيناريوهاتها نحو الأسوأ، تحديدًا بعد انتشار السلاح وسط المدنيين، ثم تعالي أصوات الجهوية والقبلية والموت على اسم القبيلة والجهة".
جل ما يخشاه بولاد أن تمتد الحرب لتشمل "كل مكان في السودان". ولعله محق، إذ وصلت المعارك قبل أيام إلى جزيرة مروي المدرجة على قائمة التراث العالمي، وحذرت منظمات حقوقية محلية ودولية من خطر تضرّر آثار مملكة كوش التي يزيد عمرها عن 2300 عام.
ويوضح بولاد أن الحرب دمرت الكثير من البنى التحتية في الخرطوم، "لم تنج منها حتى الصروح التي أنفق عليها شعب السودان أموالًا طائلة، مثل مصفاة البترول في منطقة الجيلي، التي لا تزال ألسنة اللهب تندلع منها حتى الآن".
"في ظل استمرار الحرب ليست هناك قوى يمكنها حماية أي مرفق، والسودان الآن أضحى معرضًا لأن يفقد تاريخه وما يكتنزه من صور تجسد حضارة السودان، وليست هناك خيارات لحماية تلك المناطق سوى إيقاف الحرب كيلا يفقد السودان حاضره وماضيه".
وعن ضحايا الحرب من المدنيين، لا سيما النساء، قال بولاد إن "العديد من المراكز الحقوقية المستقلة تعمل الآن على رصد الانتهاكات التي تتعرض لها النساء، إلى جانب تحديد حجم خسائر الحرب في المناطق الواقعة تحت سيطرة الطرفين".
وتقول منظمة العفو الدولية إنَّ عشرات النساء والفتيات اللاتي لا تتجاوز أعمار بعضهن الـ12 سنة تعرضن للعنف الجنسي من الطرفين المتحاربين في السودان، بل واحتُجز بعضهن لعدة أيام وفي ظروف من الاستعباد الجنسي.
ويأمل بولاد في أنه على الرغم من الصعوبات والظروف المادية والأمنية التي تواجهها تلك المنظمات فإن توثيقها للعديد من الانتهاكات التي تجري حاليًا وجمعها في تقارير شاملة، سيعطي فرصة في التوقيت المناسب لمحاسبة الأطراف التي ارتكبتها.