"الهندي الصالح الوحيد هو الهندي الميت"
-قالها الجنرال الأمريكي فيليب شيريدان، في القرن التاسع عشر، متحدثًا عن السكان الأصليين لأمريكا الذين سُموا خطأ بـ"الهنود الحمر".
تصريحات الجنرال الأمريكي عكست خطًا عنصريًا/استعماريًا واضحًا في السياسة الأمريكية خصوصًا والغربية عمومًا. قاومت قوى مختلفة ذلك الخط، لكن أخرى حافظت عليه وأعادت إنتاجه في قوالب بيضاء حينًا، وللغرابة، في قوالب سوداء أيضًا.
نتتبع هنا ظاهرة جديدة بدأت تتصاعد تدريجيًا وسط النخب السياسية على ضفتي شمال الأطلنطي في أوروبا وأمريكا؛ سياسيون من أصول مهاجرة أو أبناء مهاجرين يصلون مراكز صنع القرار أو المجالس التشريعية.
تعكس هذه الظاهرة ربما تنوعًا باديًا للعيان وحيويةً سياسيةً يفتقدها أقران هؤلاء السياسيين في بلادهم الأم، لكن بصورة أخرى تَحمِل أزمة ربما تنعكس على بلدان الجنوب ذاتها وهي ظاهرة "الجنوبي الكاره لذاته"، أو الجنوبي الذي يؤكد على الروايات الاستعمارية الجديدة. فما الأزمة إذن؟
صعود الجنوب
من أمريكا لبريطانيا لأوروبا، بدأت تظهر على السطح نماذج لسياسيين من أصول جنوبية من جيل ثانٍ أو ثالث للمهاجرين من بلاد جنوبية بملامح سمراء. للمتابع العابر لهذه الظاهرة دلالة لا تخطئها العين عن تسامح وتنوع يثريان الحياة السياسية ويمنحان الفرص للجميع بالتساوي.
وهي ملاحظة تبدو صحيحة لكنها غير مكتملة، فالسياسة في الديمقراطيات النشطة أكثر حيوية؛ تمنح فرصًا أكثر ربما لا يحصل عليها آخرون في نظم سياسية أكثر انغلاقًا على طبقة مغلقة من الحكام الأبديين.
لكن الملاحظة عن قرب لظاهرة السياسيين ذوي الأصول الجنوبية على ضفتي الأطلنطي ربما تحمل لنا صورة أكثر تعقيدًا من الصورة الرومانسية المباشرة عن المجتمعات التي تعطي فرصة للجميع. فربما تعطي الحياة السياسية في هذه البلاد فرصة "لآخرين" بشرط وحيد، وهو التوقف عن كونهم "آخرين".
هندية لا تعترف بالعبودية
في إحدى المقابلات سُئلت نيكي هيلي، ذات الأصول الهندية، المتنافسة على ترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة الأمريكية، عن سبب الحرب الأهلية الأمريكية، فأجابت بأنها تعتقد أن السبب يعود دائمًا إلى دور الحكومة وحقوق الشعب.
إجابة تبدو محايدة لا عيب فيها عن دور الحكومة المثالية في المجتمع النموذجي، غير أن عيبها الوحيد أنها لم تجب عن شيء، فإجابة السيدة هيلي لا تشير بأي صلة للسبب الرئيسي لقيام الحرب الأهلية، وهو الاقتصاد القائم على استعباد البشر. وعندما أشار السائل إلى أنها لم تذكر كلمة "العبودية" في إجابتها، ردت بسؤال "ماذا تريدني أن أقول عن العبودية؟".
لا تحب نيكي ذِكر كلمة عبودية، كما لا تحب استخدام اسمها بالميلاد وهو نيماراتا رانداهاوا، فالاسم يبدو هنديًا أكثر من اللازم لامرأة اختارت قطع صلتها بجذورها تمامًا، وتبني سردية اليمين الأبيض بكل فوقيته وإنكاره وتصنيفه للعالم، ففي تعليق آخر للمرشحة الجمهورية نفت العنصرية عن أمريكا في الحاضر أو الماضي.
ومع ذلك، لم تفلح كل هذه التنازلات في حماية نفسها من الهجوم الأبيض المضاد، فلم يُفلت خصمها ترامب الفرصة، وأراد الضغط على الجرح القديم أو تذكيرها بالعنصرية التي لا تزال كامنة حتى في المستويات العليا في السياسة الأمريكية، حيث استخدم الرئيس السابق اسم ميلاد المرشحة بسخرية للإشارة لأصولها الهندية.
هنود على الضفة الأخرى من الأطلنطي
تكره نيكي/نيماراتا المهاجرين وتضع خططًا للحد منهم، وهي رؤية تشاركها فيها سياسية أخرى على الضفة الأخرى من الأطلنطي في بريطانيا، وللمفارقة، تشاركها أيضًا أصولها الهندية، وهي وزيرة الأمن الداخلي السابقة في حكومة ريشي سوناك، سويلا برافيرمان، التي وصمت المهاجرين بأنهم أسراب من الغزاة وعصابات للتحرش. واتُهمت حتى من زملائها أنها تستخدم لغة "عنصرية" لنزع الإنسانية عن المهاجرين.
شاركت برافيرمان في وضع الأسس لقوانين معادية للمهاجرين واحتجازهم في ظروف صعبة. كما دعمت خططًا لتوجيه تهم جنائية للمهاجرين غير النظاميين، وترحيلهم بالقوة إلى بلد ثالث هو رواندا.
تبقى هذه النماذج على هامش الظاهرة فلم يصل أي منهم إلى مواقع الحكم
ترفض برايفرمان التنوع الثقافي وترى أنه خطر على بريطانيا وعلى أوروبا، وأنه سمح لمجموعات بأن تعيش حياة موازية وتشكل خطرًا على أمن المجتمع. فأن تكون بريطانيًا من وجهة نظر المرأة ذات الأصول الهندية يعني هجر أي ثقافة فرعية قد تخالط الإنجليزية، وأن تدخل ماكينة تجعلك بريطانيًا خالصًا بلا تنوع أو اختلاف.
كما لا تحب برايفرمان المشردين، حيث وجهت لومها لأجانب يفترشون الشوارع، لا لأنهم فقراء لا مأوى لهم، ولكن لأنهم يفضلون هذه الطريقة كأسلوب حياة مثير!
هنود بيض ببشرة سمراء
كان وصول ريشي سوناك كأول رئيس وزراء بريطاني من الجيل الثاني لمهاجرين من أصول هندية نموذجًا قابلًا للاحتفاء عن تنوع السياسة البريطانية. لكن تبدو الأمور أكثر تعقيدًا، فيظهر سوناك كمتبنٍ لكل مفاهيم القيم المحافظة للنخبة الاقتصادية أكثر من تمثيله خلفيته الجنوبية.
سوناك القادم من عالم المال والأعمال، شديد التمركز حول المؤسسات المالية الغربية، وفي معاداته للمهاجرين، أتى بخطة لإرسال طالبي اللجوء في رحلة بلا عودة لبلاد لا فُرص لهم فيها، وهو أقرب للاستعمارية التي احتلت بلاد آبائه من قضايا الجنوب العادلة وفي القلب منها فلسطين.
فسوناك الداعم الدائم لإسرائيل في كل أعمال القتل والرافض لوقف إطلاق النار في غزة، على خلاف رغبة 71% من الشعب البريطاني ذاته، يستخدم تكتيكات الوصم ضد من يطالب بوقف إطلاق النار كما حدث مع نائبة مسلمة في البرلمان، حيث رد على طلبها بالتهدئة بمطالبة الحوثيين وحماس بالتهدئة، لا إسرائيل، في إشارة لصلة النائبة، وفقًا لانتمائها الديني، بالفصيلين.
الأمر ليس بهذه القتامة.. ولكن
لا شك أن هناك سياسيين من أصول جنوبية لا يحملون هذه الرؤى، فأمثال رشيدة طليب وإلهان عمر وألكسندريا كورتيز يقدمون نماذج مغايرة عن جنوبيين يدافعون عن قضايا جذورهم، وعن فكرة العدالة والمساواة للجميع في موطنهم الجديد. لكن تبقى هذه النماذج على هامش الظاهرة، فلم يصل أي منهم إلى مواقع الحكم، واقتصر دورهم على احتلال مقاعد الأقليات في المجالس التشريعية.
في أحيان كثيرة، كان مسموحًا فعلًا بالمرور لسياسيين ذوي بشرة سمراء إلى مقاعد الحكم والسياسة، لكن الكثيرين منهم كانوا تمثيلًا حيًّا للجنوبي الكاره لذاته المتبني لأفكار اليمين الأبيض ولرواياته بصورة أكثر فجاجةً. بما يضعنا أمام خط إنتاج لصناعة جنوبي يحتقر جذوره، ويعيد إنتاج استعمارية جديدة لكن في قوالب "سوداء".